ولما نفى عن رسوله أنه ليس له من الأمر شيء قرر من الأمر له فقال { ولله ما في السماوات وما في الأرض } من الملائكة والإنس والجن والحيوانات والأفلاك والجمادات كلها ، وجميع ما في السماوات والأرض ، الكل ملك لله مخلوقون مدبرون متصرف فيهم تصرف المماليك ، فليس لهم مثقال ذرة من الملك ، وإذا كانوا كذلك فهم دائرون بين مغفرته وتعذيبه فيغفر لمن يشاء بأن يهديه للإسلام فيغفر شركه ويمن عليه بترك العصيان فيغفر له ذنبه ، { ويعذب من يشاء } بأن يكله إلى نفسه الجاهلة الظالمة المقتضية لعمل الشر فيعمل الشر ويعذبه على ذلك ، ثم ختم الآية باسمين كريمين دالين على سعة رحمته وعموم مغفرته وسعة إحسانه وعميم إحسانه ، فقال { والله غفور رحيم } ففيها أعظم بشارة بأن رحمته غلبت غضبه ، ومغفرته غلبت مؤاخذته ، فالآية فيها الإخبار عن حالة الخلق وأن منهم من يغفر الله له ومنهم من يعذبه ، فلم يختمها باسمين أحدهما دال على الرحمة ، والثاني دال على النقمة ، بل ختمها باسمين كليهما يدل على الرحمة ، فله تعالى رحمة وإحسان سيرحم بها عباده لا تخطر ببال بشر ، ولا يدرك لها وصف ، فنسأله تعالى أن يتغمدنا ويدخلنا برحمته في عباده الصالحين .
ثم ختم - سبحانه - هذا التذكير بما جرى فى غزوة بدر ببيان قدرته الشاملة ، وإرادته النافذة فقال - سبحانه - : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
أى لله جميع ما فى السموات وما فى الأرض ملكا وتصرفا وتدبيرا لا ينازعه فى ذلك منازع ولا يعارضه معارض ، وهو - سبحانه - يغفر لمن يشاء أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه وكرما ، ويعذب من يشاء أن يعذبه عدلا منه { والله غَفُورٌ } أى كثير المغفرة يحبها ويريدها ، { رَّحِيمٌ } أى واسع الرحمة بعباده ، لا يؤاخذهم بكل ما اكتسبوه من ذنوب بل يعفو عن كثير منها .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد افتتحت الحديث عن غزوة أحد باستحضار بعض أحداثها ، وبتذكير المؤمنين بما همّ به بعضهم قبل أن تبدأ المعركة ، ثم بتذكيرهم بمعركة بدر وما تم لهم فيها من نصر مؤزر منحه الله لهم مع قتلهم وضعفهم ، حتى يعرفوا أن النصر ليس بكثرة العدد والعدد وإنما النصر يأتى مع صفاء النفوس ، ونقاء القلوب ، ومضاء العزائم والطاعة التامة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وحتى لا يعودوا إلى ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن طمع فى زينة الحياة الدنيا .
وبعد هذا التذكير الحكيم والتوجيه السديد ، وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن تعاطى الربا ، وأمرهم بتقوى الله وبطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وبالمسارعة إلى الأعمال الصالحة التى توصلهم إلى مغفرته ورضوانه فقال - تعالى - : { يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ . . . } .
ويختم هذا التذكير ببدر ، وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور ، بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره . . يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير : وهو أن الأمر لله في الكون كله ، ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء :
( ولله ما في السماوات وما في الأرض . يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله غفور رحيم )
فهي المشيئة المطلقة ، المستندة إلى الملكية المطلقة . وهو التصرف المطلق في شأن العباد ، بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض . وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد ، في المغفرة أو في العذاب . إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل ، وبالرحمة والمغفرة . فشأنه - سبحانه - الرحمة والمغفرة :
والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته ، بالعودة إليه ، ورد الأمر كله له ، وأداء الواجب المفروض ، وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب .
ثم قال تعالى : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : الجميع ملك له ، وأهلهما عبيد بين يديه { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } أي : هو المتصرف فلا مُعَقّب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، والله غفور رحيم{[5668]} .
{ وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }
يعني بذلك تعالى ذكره : ليس لك يا محمد من الأمر شيء ، ولله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها دونك ودونهم ، يحكم فيهم بما شاء ، ويقضي فيهم ما أحبّ ، فيتوب على من أحبّ من خلقه العاصين أمره ونهيه ، ثم يغفر له ويعاقب من شاء منهم على جرمه ، فينتقم منه ، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحبّ أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح ، والرحيم بهم في تركه عقوبتهم عاجلاً على عظيم ما يأتون من المآثم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } : أي يغفر الذنوب ، ويرحم العباد على ما فيهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.