قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } حتى خصمهم وغلبهم بالحجة ، قال مجاهد : هي قوله : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن } ، وقيل : أراد به الحجاج الذي حاج به نمرود على ما سبق في سورة البقرة .
قوله تعالى : { نرفع درجات من نشاء } ، بالعلم ، قرأ أهل الكوفة ويعقوب : { درجات } بالتنوين هاهنا ، وفي سورة يوسف ، أي : نرفع درجات من نشاء بالعلم ، والفهم ، والفضيلة ، والعقل . كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى ، وحاج قومه في التوحيد . قوله تعالى : { إن ربك حكيم عليم } .
ولما حكم لإبراهيم عليه السلام ، بما بين به من البراهين القاطعة قال : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } أي : علا بها عليهم ، وفلجهم بها .
{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة ، فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجات . خصوصا العالم العامل المعلم ، فإنه يجعله الله إماما للناس ، بحسب حاله ترمق أفعاله ، وتقتفى آثاره ، ويستضاء بنوره ، ويمشى بعلمه في ظلمة ديجوره .
قال تعالى { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }
{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } فلا يضع العلم والحكمة ، إلا في المحل اللائق بها ، وهو أعلم بذلك المحل ، وبما ينبغي له .
ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله على نبيه إبراهيم - فقال - تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ . . . } .
قال الإمام الرازى : إعلم أنه - تعالى - لما حكى عن إبراهيم - عليه السلام - أنه أظهر حجة الله فى التوحيد ونصرها ، وذب عنها ، عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه .
فأولها : قوله { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ } والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها ، وأوقفنا عقله على حقيقتها .
وثانيها : أنه - تعالى - خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية وهى قوله { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } .
وثالثها : أنه جعله عزيزا فى الدنيا وذلك لأنه - تعالى - جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وذريته وأبقى هذه الكرامة فى نسله إلى يوم القيامة ، لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك .
والإشارة فى قوله - تعالى - { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ } إلى جميع ما تكلم به إبراهيم فى مجادلة قومه فى شأن وحدانية الله وبطلان الشرك .
وأضاف - بحانه - الحجة إليه مع ذكر اللفظ الدال على العظمة وهو " نا " تنويها بشأنها وتفخيما لأمرها ، والمراد بالحجة جنسها لا فرد من أفرادها .
أى : وتلك الحجة التى لا يمكن نقضها أو مغالبتها فى إثبات الحق وتزييف الباطل أعطيناها إبراهيم ليكون مستعلياً بها على قومه ، قاطعاً لألسنتهم عن المجادلة والمخاصمة .
وجملة { آتَيْنَاهَآ } فى محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة .
وقوله { على قَوْمِهِ } متعلق " بحجتنا " إن جعل خبرا لتلك ، وبمحذوف إن جعل بدله . أى : آتيناها حجة ودليلا على قومه الكثيرين لتكون الغلبة عليهم .
وقوله { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } أى نرفع من شئنا من عبادنا درجات عالية من العلم والحكمة .
والدرجات فى الأصل تطلق على مراقى السلم . والمراد بها هنا المراتب المعنوية فى الخير على سبيل التمثيل ، فقد شبهت حالة المفضل على غيره بحال المرتقى فى سليم إذا ارتفع من درجة إلى درجة .
والجملة مستأنفة على سبيل التقرير لما قبلها ، وقيل هى حال من فاعل ) ( آتَيْنَا ) أى حال كوننا رافعين .
ومفعول المشيئة محذوف . أى : من نشاء رفعه على حسب ما تقتضيه حكمتنا . وقد دل قوله { مَّن نَّشَآءُ } على أن هذا التكريم لا يكون لكل أحد لأنه لو كان حاصلا لكل الناس لم يحصل الرفع ولا التفضيل .
وقوله - تعالى - { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، أى : إن ربك الذى خلقك فسواك فعدلك { حَكِيمٌ } فى كل ما يفعل من رفع هذا وخفض ذاك ، { عَلِيمٌ } كل العلم بحال خلقه وسياسة عباده .
قال الإمام الرازى : واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة فى الصفات الروحانية لا فى الصفات الجسمانية ، والدليل على ذلك أن الله - تعالى - قال { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ } ثم قال بعده { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة وهذا يقتضى أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة واطلاعها على إشراقها اقتضى ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسمانى إلى أعالى العالم الروحانى ، وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا فى الروحانيات " .
( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ) . .
ولقد كانت هذه هي الحجة التي ألهمها الله إبراهيم ليدحض بها حجتهم التي جاءوا بها يجادلونه . ولقد كشف لهم عن وهن ما هم عليه من تصورهم أن هذه الآلهة تملك أن تسيء إليه . . وواضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود الله ؛ ولا أنه هو صاحب القوة والسلطان في الكون ، ولكنهم كانوا يشركون به هذه الآلهة . فلما واجههم إبراهيم ، بأن من كان يخلص نفسه لله لا يخاف من دونه ، فأما من يشرك بالله فهو أحق بالمخافة . . لما واجههم بهذه الحجة التي آتاها الله له وألهمه إياها ، سقطت حجتهم ، وعلت حجته ، وارتفع إبراهيم على قومه عقيدة وحجة ومنزلة . . وهكذا يرفع الله من يشاء درجات . متصرفا في هذا بحكمته وعلمه :
وقوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } أي : وجهنا حجته على قومه .
قال مجاهد وغيره : يعني بذلك قوله : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ [ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ] }{[10945]} وقد صدقه الله ، وحكم له بالأمن والهداية فقال : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } ثم قال بعد ذلك كله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ }
قرئ بالإضافة وبلا إضافة ، كما في سورة يوسف ، وكلاهما قريب في المعنى .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي : حكيم في أفعاله وأقواله { عَلِيمٌ } أي : بمن يهديه ومن يضله ، وإن قامت عليه الحجج والبراهين ، كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] ؛ ؛ ولهذا قال هاهنا :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.