الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ} (83)

قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ } : " تلك " إشارة إلى الدلائل المتقدمة في قوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ } [ الأنعام : 75 ] إلى قوله : { وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 79 ] . ويجوز في " حُجَّتنا " وجهان ، أحدهما : أن يكون خبر المبتدأ وفي " آتيناها " حينئذٍ وجهان ، أحدهما : أنه في محل نصب على الحال والعامل فيها معنى الإِشارة ، ويدل على ذلك التصريحُ بوقوع الحال في نظيرتها كقوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] . والثاني : أنه في محل رفع على أنه خبرٌ ثانٍ أخبر عنها بخبرين ، أحدهما مفرد والآخر جملة . والثاني من الوجهين الأولين : أن تكون " حُجَّتنا " بدلاً أو بياناً لتلك ، والخبر الجملة الفعلية .

وقال الحوفي : " إن الجملة مِنْ " آتَيْناها " في موضع النعت ل " حُجَّتنا " على نية الانفصال ، إذ التقدير : حجة لنا " ، يعني الانفصال من الإِضافة ليحصُلَ التنكيرُ المسوِّغُ لوقوعِ الجملة صفةً لحُجَّتنا ، وهذا لا ينبغي أن يقال ، وقال أيضاً : " إن " إبراهيم " مفعول ثان لآتيناها ، والمفعول الأول هو " ها " ، وقد قدَّمْتُ لك في أوائل البقرة أن هذا مذهب السهيلي عند قوله { آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } [ البقرة : 53 ] ، وأنَّ مذهبَ الجمهورِ أن تَجْعل الأولَ ما كان عاقلاً والثاني غيرَه ، ولا تبالي بتقديمٍ ولا تأخير .

قوله : " على قومه " فيه وجهان أحدهما : أنه متعلقٌ ب " آتينا " قاله ابن عطية والحوفي أي : أظهرناها لإِبراهيم على قومه . والثاني : أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال أي : آتيناها إبراهيم حجةً على قومه أو دليلاً على قومه ، كذا قدَّره أبو البقاء ، ويلزم من هذا التقدير أن تكون حالاً مؤكدة ، إذ التقدير : وتلك حُجَّتنا آتيناها له حجةً .

وقدَّرها الشيخ على حذف مضاف فقال : " أي آتيناها إبراهيم مستعليةً على حجج قومه قاهرة لها " وهذا حسن . ومنع أبو البقاء أن تكون متعلِّقةً بحجتنا قال : " لأنها مصدر ، وآتيناها خبر أو حال ، وكلاهما لا يُفْصل به بين الموصول وصلته " . ومنع الشيخ ذلك أيضاً ، ولكن لكون الحجَّة ليست مصدراً قال : " إنما هو الكلام المُؤَلَّفُ للاستدلال على الشيء " ثم قال : " ولو جعلناها مصدراً لم يجز ذلك أيضاً ، لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه . وفي مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء ذلك نظرٌ ، لأنَّ الحال وإن كانَتْ جملةً ليسَتْ أجنبيةً حتى يُمْنَعَ الفصل بها لأنها من جملة مطلوبات المصدر ، وقد تقدَّم لي نظيرُ ذلك بأشبع من هذا .

قوله : " نرفع " فيه وجهان الظاهر منهما : أنها مستأنفة لا محل لها من الإِعراب . الثاني : جوَّزه أبو البقاء وبدأ به أنها في موضع الحال من " آتيناها " يعني من فاعل " آتيناها " ، أي : في حال كوننا رافعين ، ولا تكون حالاً من المفعول إذ لا ضمير فيها يعود إليه .

ويُقْرأ " نرفع " بنون العظمة وبياء الغيبة ، وكذلك " يشاء " . وقرأ أهل الكوفة " درجات " بالتنوين وكذا التي في يوسف ، والباقون بالإِضافة فيهما ، فقراءة الكوفيين يحتمل نَصْبُ " درجات " فيها من خمسة أوجه أحدها : أنها منصوبةٌ على الظرف و " مَنْ " مفعول " نرفع " أي : نرفع مَنْ نشاء مراتب ومنازل . والثاني : أن ينتصبَ على أنه مفعول ثان قُدِّم على الأول ، وذلك يحتاج إلى تضمين " نرفع " معنى فعلٍ يتعدَّى لاثنين وهو " يُعْطي " مثلاً ، أي : نعطي بالرفع مَنْ نشاء درجات أي : رُتَباً ، والدرجات هي المرفوعة كقوله : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ } [ غافر : 15 ] وفي الحديث : " اللهم ارفع درجته في عليين " فإذا رُفعت الدرجةُ فقد رُفِعَ صاحبها . والثالث : أن ينتصب على حذف حرف الجر أي : إلى منازل وإلى درجات . الرابع : أن ينتصبَ على التمييز ، ويكون منقولاً من المفعولية ، فيؤول إلى قراءة الجماعة إذ الأصل : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } بالإِضافة ثم حُوِّل كقوله : { وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً } [ القمر : 12 ] أي : عيون الأرض . الخامس : أنها منتصبةٌ على الحال وذلك على حذف مضاف أي : ذوي درجات . ويشهد لهذه القراءةِ قولُه تعالى : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الأنعام : 165 ] { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ } [ الزخرف : 32 ] { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى } [ البقرة : 253 ] .

وأمَّا قراءة الجماعة : فدرجات مفعول " نرفع " ، والخطاب في " إنَّ ربك " للرسول محمد عليه السلام ، وقيل : لإِبراهيم الخليل ، فعلى هذا يكون فيه التفات من الغَيْبة إلى الخطاب مُنَبِّهاً بذلك على تشريفه له .