مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ} (83)

قوله تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم } .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { وتلك } إشارة إلى كلام تقدم وفيه وجوه : الأول : أنه إشارة إلى قوله : { لا أحب الآفلين } والثاني : أنه إشارة إلى أن القوم قالوا له : أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لأجل أنك شتمتهم . فقال لهم : أفلا تخافون أنتم حيث أقدمتهم على الشرك بالله وسويتم في العبادة بين خالق العالم ومدبره وبين الخشب المنحوت والصنم المعمول ؟ والثالث : أن المراد هو الكل .

إذا عرفت هذا فنقول : قوله : { وتلك } مبتدأ وقوله : { حجتنا } خبره وقوله : { آتيناها إبراهيم } صفة لذلك الخبر .

المسألة الثانية : قوله : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم } يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء الله وبإظهاره تلك الحجة في عقله ، وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى . ويتأكد هذا أيضا بقوله : { نرفع درجات من نشاء } فإن المراد أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب أنه تعالى آتاه تلك الحجة ، ولو كان حصول العلم بتلك الحجة إنما كان من قبل إبراهيم لا من قبل الله تعالى لكان إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع درجات نفسه وحينئذ كان قوله : { نرفع درجات من نشاء } باطلا . فثبت أن هذا صريح قولنا في مسألة الهدى والضلال .

المسألة الثالثة : هذه الآية من أدل الدلائل على فساد قول الحشوية في الطعن في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل . لأنه تعالى أثبت لإبراهيم عليه السلام حصول الرفعة والفوز بالدرجات العالية ، لأجل أنه ذكر الحجة في التوحيد وقررها وذب عنها وذلك يدل على أنه لا مرتبة بعد النبوة والرسالة أعلى وأشرف من هذه المرتبة .

المسألة الرابعة : قرأ عاصم وحمزة والكسائي { درجات } بالتنوين من غير إضافة والباقون بالإضافة ، فالقراءة الأولى معناها : نرفع من نشاء درجات كثيرة ، فيكون «من » في موضع النصب . قال ابن مقسم : هذه القراءة أدل على تفضيل بعضهم على بعض في المنزلة والرفعة . وقال أبو عمرو : الإضافة تدل على الدرجة الواحدة وعلى الدرجات الكثيرة والتنوين لا يدل إلا على الدرجات الكثيرة .

المسألة الخامسة : اختلفوا في تلك الدرجات . قيل : درجات أعماله في الآخرة ، وقيل : تلك الحجج درجات رفيعة ، لأنها توجب الثواب العظيم . وقيل : نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة ، وفي الآخرة بالجنة والثواب . وقيل : نرفع درجات من نشاء بالعلم . واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية وفي البعد عن الصفات الجسمانية .

والدليل عليه : أنه تعالى قال : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } .

ثم قال بعده : { نرفع درجات من نشاء } وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة ، وهذا يقتضي أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة وإطلاعها على إشراقها اقتضت ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني ، إلى أعالي العالم الروحاني ، وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات . والله أعلم .

وأما معنى { حكيم عليم } فالمعنى أنه إنما يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم ، لا بموجب الشهوة والمجازفة . فإن أفعال الله منزهة عن العبث والفساد والباطل .