إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ} (83)

{ وَتِلْكَ } إشارةٌ إلى ما احتج به إبراهيمُ عليه السلام من قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ } [ الأنعام ، الآية 76 ] وقيل : من قوله : { أَتُحَاجُّونّي } [ الأنعام ، الآية 80 ] إلى قوله : { مُهْتَدُونَ } وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لتفخيم شأن المُشار إليه والإشعارِ بعلو طبقته وسموِّ منزلتِه في الفضل ، وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : { حُجَّتُنَا } خبرُه ، وفي إضافتها إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى ، وقوله تعالى : { آتَيْنَاهَا إبراهيم } أي أرشدناه إليها أو علّمناه إياها في محل النصب على أنه حال من ( حجتُنا ) ، والعاملُ فيها معنى الإشارة كما في قوله تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } [ النمل ، الآية 52 ] أو في محل الرفع على خبر ثان ، أو هو الخبر و( حجتُنا ) بدل أو [ عطفُ ] بيانٍ للمبتدأ ، و( إبراهيمَ ) مفعولٌ أولٌ لآتينا قُدِّم عليه الثاني لكونه ضميراً ، وقوله تعالى : { على قَوْمِهِ } متعلِّقٌ بحجتُنا إن جُعل خبراً ( لتلك ) ، أو بمحذوفٍ إن جُعل بدلاً ، أي آتينا إبراهيمَ حجةً على قومه ، وقيل : بقوله : آتينا { نَرْفَعُ } بنون العظمةِ ، وقرئ بالياء على طريقة الالتفات وكذا الفعل الآتي { درجات } أي رتباً عظيمةً عالية من العلم ، وانتصابُها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض ، أي إلى درجات أو على التمييز ، والمفعولُ قولُه تعالى : { من نَشَاءُ } وتأخيرُه على الوجوه الثلاثة الأخيرةِ لما مر من الاعتناء بالمقدَّم والتشويقِ إلى المؤخَّر ، ومفعولُ المشيئة محذوفٌ ، أي من نشاء رفعَه حسْبما تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المصلحةُ ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالة على أن ذلك سُنةٌ مستمرَّة جاريةٌ فيما بين المُصطَفَيْنَ الأخيارِ غيرُ مختصةٍ بإبراهيمَ عليه السلام ، وقرئ بالإضافة إلى ( من ) ، والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها لا محل لها من الإعراب ، وقيل : هي في محل النصب على أنها حالٌ من فاعل ( آتينا ) أي حال كوننا رافعين الخ . { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } في كل ما فعل من رفْعٍ وخفضٍ { عَلِيمٌ } بحال من يرفعُه واستعدادِه له على مراتبَ متفاوتة ، والجملةُ تعليلٌ لما قبلها ، وفي وضع الرب مضافاً إلى ضميره عليه السلام موضِعَ نونِ العظمةِ بطريق الالتفاتِ في تضاعيف بيانِ أحوالِ إبراهيمَ عليه السلام إظهارٌ لمزيد لُطفٍ وعنايةٍ به عليه السلام .