يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يذكر الناس ، مسلمهم وكافرهم ، لتقوم حجة الله على الظالمين ، ويهتدي بتذكيره الموفقون ، وأنه لا يبالي بقول المشركين المكذبين وأذيتهم وأقوالهم التي يصدون بها الناس عن اتباعه ، مع علمهم أنه أبعد الناس عنها ، ولهذا نفى عنه كل نقص رموه به فقال : { فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } أي : منه ولطفه ، { بِكَاهِنٍ } أي : له رئي من الجن ، يأتيه بأخبار بعض الغيوب ، التي يضم إليها مائة كذبة ، { وَلَا مَجْنُونٍ } فاقد للعقل ، بل أنت أكمل الناس عقلا ، وأبعدهم عن الشياطين ، وأعظمهم صدقا ، وأجلهم وأكملهم ،
ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى إلى الحديث عن الكافرين ، فأمرت النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يمضى فى طريقه دون أن يهتم بأكاذيبهم ، وحكت جانبا من هذه الأكاذيب التى قالوها فى حقه - صلى الله عليه وسلم - ولقتنه الجواب المزهق لها . . . فقال - تعالى - : { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ . . . } .
الفاء فى قوله - سبحانه - : { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } للإفصاح . والكاهن : هو الإنسان الذى يزعم أنه يخبر عن الأشياء المغيبة ، والمجنون : هو الإنسان الذى سلب عقله ، فصار لا يعى ما يقول .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك قبل ذلك - أيها الرسول الكريم - فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أوحينا إليك . . فما أنت بسبب إنعام الله عليك بكاهن ولا مجنون كما يزعم أولئك الكافرون .
قال الجمل : والباء فى قوله { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } للسببية ، وهى متعلقة بالنفى الذى أفادته " ما " أى : انتفى كونك كاهنا أو مجنونا ، بسبب إنعام الله عليك بالعقل الراجح ، وعلو الهمة ، وكرم الفعال ، وطهارة الأخلاق ، وهم معترفون بذلك لك قبل النبوة .
والآن وقد تلقى الحس سياط العذاب العنيف في الشوط الأول ؛ وتلقى هتاف النعيم الرغيد في الشوط الثاني ؛ وتوفزت بهذا وذلك حساسيته لتلقي الحقائق . . فإن السياق يعاجله بحملة سريعة الإيقاعات . يطارده فيها بالحقائق الصادعة ، ويتعقب وساوسه في مسارب نفسه في صورة استفهامات استنكارية ، وتحديات قوية ، لا يثبت لها الكيان البشري حين تصل إليه من أي طريق :
( فذكر . فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون : شاعر نتربص به ريب المنون ? قل : تربصوا فإني معكم من المتربصين . أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون ? أم يقولون : تقوله ? بل لا يؤمنون . فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين . أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? أم خلقوا السماوات والأرض ? بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك ? أم هم المسيطرون ? أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين . أم له البنات ولكم البنون ? أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ? أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? أم يريدون كيدا ? فالذين كفروا هم المكيدون . أم لهم إله غير الله ? سبحان الله عما يشركون . وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا : سحاب مركوم ) . .
( فذكر ) . . والخطاب للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليظل في تذكيره لا يثنيه سوء أدبهم معه ، وسوء اتهامهم له . وقد كانوا يقولون عنه مرة : إنه كاهن . ويقولون عنه مرة : إنه مجنون . ويجمع بين الوصفين عندهم ما كان شائعا بينهم أن الكهان يتلقون عن الشياطين . وأن الشيطان كذلك يتخبط بعض الناس ، فيصابون بالجنون . فالشيطان هو العامل المشترك بين الوصفين : كاهن أو مجنون ! وكان يحملهم على وصف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بهذا الوصف أو ذاك ، أو بقولهم إنه شاعر أو ساحر . كان يحملهم على هذا كله موقفهم مبهوتين أمام القرآن الكريم المعجز الذي يبدههم بما لم يعهدوا من القول ، وهم أهل القول ! ولما كانوا لا يريدون - لعلة في نفوسهم - أن يعترفوا أنه من عند الله ، فقد احتاجوا أن يعللوا مصدره المتفوق على البشر . فقالوا : إنه من إيحاء الجن أو بمساعدتهم . فصاحبه إما كاهن يتلقى من الجن ، أو ساحر يستعين بهم ، أو شاعر له رئي من الجن ، أو مجنون به مس من الشيطان ينطقه بهذا القول العجيب !
وإنها لقولة فظيعة شنيعة . فالله - سبحانه - يسلي رسوله عنها ، ويصغر من شأنها في نفسه . وهو يشهد له أنه محوط بنعمة ربه ، التي لا تكون معها كهانة ولا جنون : ( فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَكّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نّتَرَبّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبّصُواْ فَإِنّي مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فذكر يا محمد من أرسلت إليه من قومك وغيرهم ، وعظهم بنعم الله عندهم فَما أنْتَ بنِعْمَةِ رَبّكَ بكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ يقول فلست بنعمة الله عليك بكاهن تتكهَن ، ولا مجنون له رئيّ يخبر عنه قومه ما أخبره به ، ولكنك رسول الله ، والله لا يخذلك ، ولكنه ينصرك .
تفريع على ما تقدم كله من قوله : { إن عذاب ربك لواقع } [ الطور : 7 ] لأنه تضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المكذبين والافتراء عليه ، وعقب بهذا لأن من الناس مؤمنين به متيقنين أن الله أرسله مع ما أعد لكلا الفريقين فكان ما تضمنه ذلك يقتضي أن في استمرار التذكير حكمة أرادها الله ، وهي ارعواء بعض المكذبين عن تكذيبهم وازدياد المصدقين توغلاً في إيمانهم ، ففرع على ذلك أن أمر الله رسول صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير .
فالأمر مستعمل في طلب الدوام مثل { يا أيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه ورسوله } [ النساء : 136 ] . ولما كان أثر التذكير أَهمَّ بالنسبة إلى فريق المكذبين ليهتدي من شرح قلبه للإِيمان رُوعي ما يَزيد النبي صلى الله عليه وسلم ثباتاً على التذكير من تبرئته مما يواجهونه من قولهم له : هو كاهن أو هو مجنون ، فربط الله جَأش رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بأن براءته من ذلك نعمة أنعم بها عليه ربه تعالى ففرع هذا الخبر على الأمر بالتذكير بقوله : { فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون } . والباء في { بنعمت ربك } للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير { أنت } .
ونفي هاذين الوصفين عنه في خطاب أمثاله ممن يستحق الوصف بصفات الكمال يدل على أن المراد من النفي غرض آخر وهو هنا إبطال نسبة من نسبه إلى ذلك كما في قوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنون } [ التكوير : 22 ] ، ولذلك حسن تعقيبه بقوله : { أم يقولون شاعر } [ الطور : 30 ] مصرحاً فيه ببعض أقوالهم ، فعلم أن المنفي عنه فيما قبله مقالة من مقالهم .
وقد اشتملت هاته الكلمة الطيبة على خصائص تناسب تعظيم من وجهت إليه وهي أنها صيغت في نظم الجملة الاسمية فقيل فيها « ما أنت بكاهن » دون : فلست بكاهن ، لتدل على ثبات مضمون هذا الخبر .
وقدم فيها المسند إليه مع أن مقتضى الظاهر أن يقدم المسند وهو { كاهن } أو { مجنون } لأن المقام يقتضي الاهتمام بالمسند ولكن الاهتمام بالضمير المسند إليه كان أرجح هنا لما فيه من استحضار معاده المشعر بأنه شيء عظيم وأفاد مع ذلك أن المقصود أنه متصف بالخبر لا نفس الإِخبار عنه بالخبر كقولنا : الرسول يأكل الطعام ويتزوج النساء . وأفاد أيضاً قصراً إضافياً بقرينة المقام لقلب ما يقولونه أو يعتقدونه من قولهم : هو كاهن أو مجنون ، على طريقة قوله تعالى : { وما أنت علينا بعزيز } [ هود : 91 ] .
وقرن الخبر المنفي بالباء الزائدة لتحقيق النفي فحصل في الكلام تقويتان ، وجيء بالحال قبل الخبر ، أو بالجملة المعترضة بين المبتدأ والخبر ، لتعجيل المسرة وإظهار أن الله أنعم عليه بالبراءة من هذين الوصفين .
وعدل عن استحضار الجلالة بالاسم العلم إلى تعريفه بالإِضافة وبوصفه الرب لإِفادة لطفه تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم لأنه ربه فهو يربُّه ويدبر نفعه ، ولتفيد الإضافة تشريف المضاف إليه .
وقوله تعالى : { فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون } ردّ على مقالة شَيبة بن ربيعة قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كاهن ، وعلى عقبة بن أبي معيط إذ قال : هو مجنون ، ويدل لكونه رداً على مقالة سبقت أنه أتبعه بقوله : { أم يقولون شاعر } [ الطور : 30 ] ما سيكون وما خفي مما هو كائن .
والكاهن : الذي ينتحل معرفة ما سيحدث من الأمور وما خفي مما هو كائن ويخبر به بكلام ذي أسْجاع قصيرة . وكان أصل الكلمة موضوعة لهذا المعنى غير مشتقة ، ونظيرها في العبرية ( الكوهين ) وهو حافظ الشريعة والمفتي بها ، وهو من بني ( لاوي ) ، وتقدم ذكر الكهانة عند قوله تعالى : { وما تنزلت به الشياطين } في سورة الشعراء ( 210 ) .
وقد اكتُفي في إبطال كونه كاهناً أو مجنوناً بمجرد النفي دون استدلال عليه ، لأن مجرد التأمل في حال النبي صلى الله عليه وسلم كاففٍ في تحقق انتفاء ذينك الوصفين عنه فلا يحتاج في إبطال اتصافه بهما إلى أكثر من الإِخبار بنفيهما لأن دليله المشاهدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فذكر} يا محمد أهل مكة {فما أنت بنعمت ربك} يعني برحمة ربك، وهو القرآن {بكاهن} يبتدع العلم من غير وحي {ولا مجنون} كما يقول كفار مكة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فذكر يا محمد من أرسلت إليه من قومك وغيرهم، وعظهم بنعم الله عندهم" فَما أنْتَ بنِعْمَةِ رَبّكَ بكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ "يقول فلست بنعمة الله عليك بكاهن تتكهَن، ولا مجنون له رئيّ يخبر عنه قومه ما أخبره به، ولكنك رسول الله، والله لا يخذلك، ولكنه ينصرك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فذكّر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} أي بما أنعم عليك من النبوّة والقرآن لست بكاهن ولا مجنون...
دلّت هذه الآية على أنهم قالوا: إنه كاهن ومجنون. وكذا كانت عادة أولئك؛ إنهم ينسُبون الحجج عند عجزهم عن مقابلتها إلى السحر، والأنباء المتقدمة إلى الكهانة، وخلاف رسلهم عليهم السلام لقادتهم وفراعنتهم إلى الجنون، والكلام المُستملَح والمستلذّ إلى الشِّعر تلبيسا للأمر على أتباعهم. هذه كانت عادتهم مع العلم منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كذلك لما لم يختلف إلى أحد من الكهنة ولا السحرة، ولا كان القرآن على نظم الشعر، وعجزوا عن إتيان مثله، وهم عن الشعر غير عاجزين.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فما أنت بنعمة ربك" قسم من الله تعالى بنعمته.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي أنهم يعلمون أَنَّكَ ليست بك كَهَانةٌ ولا جُنونٌ، وإنما قالوا ذلك على جهة التسفيه؛ فالسّفيهُ يبسط لسانه فيمن يَسُبُّه بما يعلم أنه منه بريء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَذَكِّرْ} فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبطنك قولهم: كاهن أو مجنون، ولا تبال به، فإنه قول باطل متناقض، لأنّ الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله. وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوّة ورجاحة العقل أحد هذين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى الله ومتابعة نشر الرسالة، ثم قال مؤنساً له: {فما أنت} بإنعام الله عليك أو لطفه بك {بكاهن ولا مجنون}. وكانت العرب قد عهدت ملابسة الجن والإنس بهذين الوجهين، فنسبت محمداً صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فنفى الله تعالى عنه ذلك...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
والمعنى: إنما تنطق بالوحي لا كما يقول فيك كفار مكة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
أمره بالتذكير، إنذاراً للكافر، وتبشيراً للمؤمن، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فذكر} أي جدد التذكير بمثل هذا لكل من يرجو خيره ودم على ذلك، وسماه تذكيراً لأنه مما يعلمه الإنسان إذا أمعن النظر من نفسه أو من الآفاق، وعلل التذكير بقوله: {فما أنت} أي وأنت أشرف الناس عنصراً وأكملهم نفساً وأزكاهم خلائق هم بها معترفون لك قبل النبوة {بنعمت ربك} أي بسبب ما أنعم به عليك المحسن إليك... {بكاهن} أي تقول كلاماً -مع كونه سجعاً متكلفاً- أكثره فارغ وتحكم على المغيبات بما يقع خلاف بعضه. ولما كان للكاهن والمجنون اتصال بالجن، أتبع ذلك قوله: {ولا مجنون} أي تقول كلاماً لا نظام له مع الإخبار ببعض المغيبات، فلا يفترك قولهم هذا عن التذكير فإنه قول باطل لا تلحقك به معرة أصلاً؛ وعما قليل يكون عيباً لهم لا يغسله عنهم إلا اتباعهم لك، فمن اتبعك منهم غسل عاره، ومن استمر على عناده استمر تبابه وخساره...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكان يحملهم على وصف النبي [صلى الله عليه وسلم] بهذا الوصف أو ذاك، أو بقولهم إنه شاعر أو ساحر. كان يحملهم على هذا كله موقفهم مبهوتين أمام القرآن الكريم المعجز الذي يبدههم بما لم يعهدوا من القول، وهم أهل القول! ولما كانوا لا يريدون -لعلة في نفوسهم- أن يعترفوا أنه من عند الله، فقد احتاجوا أن يعللوا مصدره المتفوق على البشر. فقالوا: إنه من إيحاء الجن أو بمساعدتهم. فصاحبه إما كاهن يتلقى من الجن، أو ساحر يستعين بهم، أو شاعر له رئي من الجن، أو مجنون به مس من الشيطان ينطقه بهذا القول العجيب! وإنها لقولة فظيعة شنيعة. فالله -سبحانه- يسلي رسوله عنها، ويصغر من شأنها في نفسه. وهو يشهد له أنه محوط بنعمة ربه، التي لا تكون معها كهانة ولا جنون: (فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفريع على ما تقدم كله من قوله: {إن عذاب ربك لواقع} [الطور: 7] لأنه تضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المكذبين والافتراء عليه، وعقب بهذا لأن من الناس مؤمنين به متيقنين أن الله أرسله مع ما أعد لكلا الفريقين فكان ما تضمنه ذلك يقتضي أن في استمرار التذكير حكمة أرادها الله، وهي ارعواء بعض المكذبين عن تكذيبهم وازدياد المصدقين توغلاً في إيمانهم، ففرع على ذلك أن أمر الله رسول صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير. فالأمر مستعمل في طلب الدوام مثل {يا أيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه ورسوله} [النساء: 136]. ولما كان أثر التذكير أَهمَّ بالنسبة إلى فريق المكذبين ليهتدي من شرح قلبه للإِيمان رُوعي ما يَزيد النبي صلى الله عليه وسلم ثباتاً على التذكير من تبرئته مما يواجهونه من قولهم له: هو كاهن أو هو مجنون، فربط الله جَأش رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بأن براءته من ذلك نعمة أنعم بها عليه ربه تعالى ففرع هذا الخبر على الأمر بالتذكير بقوله: {فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون}. والباء في {بنعمت ربك} للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير {أنت... ونفي هاذين الوصفين عنه في خطاب أمثاله ممن يستحق الوصف بصفات الكمال يدل على أن المراد من النفي غرض آخر وهو هنا إبطال نسبة من نسبه إلى ذلك كما في قوله تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} [التكوير: 22]، ولذلك حسن تعقيبه بقوله: {أم يقولون شاعر} [الطور: 30] مصرحاً فيه ببعض أقوالهم، فعلم أن المنفي عنه فيما قبله مقالة من مقالهم. وقد اشتملت هاته الكلمة الطيبة على خصائص تناسب تعظيم من وجهت إليه وهي أنها صيغت في نظم الجملة الاسمية فقيل فيها « ما أنت بكاهن» دون: فلست بكاهن، لتدل على ثبات مضمون هذا الخبر. وقدم فيها المسند إليه مع أن مقتضى الظاهر أن يقدم المسند وهو {كاهن} أو {مجنون} لأن المقام يقتضي الاهتمام بالمسند ولكن الاهتمام بالضمير المسند إليه كان أرجح هنا لما فيه من استحضار معاده المشعر بأنه شيء عظيم وأفاد مع ذلك أن المقصود أنه متصف بالخبر لا نفس الإِخبار عنه بالخبر كقولنا: الرسول يأكل الطعام ويتزوج النساء. وأفاد أيضاً قصراً إضافياً بقرينة المقام لقلب ما يقولونه أو يعتقدونه من قولهم: هو كاهن أو مجنون، على طريقة قوله تعالى: {وما أنت علينا بعزيز} [هود: 91]. وقرن الخبر المنفي بالباء الزائدة لتحقيق النفي فحصل في الكلام تقويتان، وجيء بالحال قبل الخبر، أو بالجملة المعترضة بين المبتدأ والخبر، لتعجيل المسرة وإظهار أن الله أنعم عليه بالبراءة من هذين الوصفين. وعدل عن استحضار الجلالة بالاسم العلم إلى تعريفه بالإِضافة وبوصفه الرب لإِفادة لطفه تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم لأنه ربه فهو يربُّه ويدبر نفعه، ولتفيد الإضافة تشريف المضاف إليه...
وقوله تعالى: {فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون} ردّ على مقالة شَيبة بن ربيعة قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كاهن، وعلى عقبة بن أبي معيط إذ قال: هو مجنون، ويدل لكونه رداً على مقالة سبقت أنه أتبعه بقوله: {أم يقولون شاعر} [الطور: 30] ما سيكون وما خفي مما هو كائن...
وقد اكتُفي في إبطال كونه كاهناً أو مجنوناً بمجرد النفي دون استدلال عليه، لأن مجرد التأمل في حال النبي صلى الله عليه وسلم كاففٍ في تحقق انتفاء ذينك الوصفين عنه فلا يحتاج في إبطال اتصافه بهما إلى أكثر من الإِخبار بنفيهما لأن دليله المشاهدة..