قوله تعالى : { فانظر إلى آثار رحمة الله } هكذا قرأ أهل الحجاز ، والبصرة ، وأبو بكر . وقرأ الآخرون : { إلى آثار رحمة الله } على الجمع ، أراد برحمة الله : المطر ، أي : انظر إلى حسن تأثيره في الأرض ، قال مقاتل : أثر رحمة الله أي : نعمته وهو النبت ، { كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى } يعني : أن ذلك الذي يحيي الأرض لمحيي الموتى .
{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم .
{ إِنَّ ذَلِكَ } الذي أحيا الأرض بعد موتها { لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فقدرته تعالى لا يتعاصى عليها شيء وإن تعاصى على قدر خلقه ودق عن أفهامهم وحارت فيه عقولهم .
ثم لفت - سبحانه - أنظار الناس إلى ما يترتب على نعمة المطر من آثار عظيمة فقال : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله . . . } والفاء للدلالة على سرعة الانتقال من محالة اليأس إلى الاستبشار . أى فانظر - أيها العاقل - نظرة تعقل واتعاظ واستبصار ، إلى الآثار المترتبة على نزول المطر ، وكيفي أن نزوله حول النفوس من حالة الحزن إلى حالة الفرح ، وجعل الوجوه مستبشرة بعد أن كانت عابسة يائسة .
وقوله - تعالى - : { كَيْفَ يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ } فى محل نصب على تقدير الخافض .
أى : فانظر إلى آثار رحمة الله بعد نزول المطر ، وانظر وتأمل كيف يحيى الله - تعالى - بقدرته ، الأرض بعد موتها بأن يجعلها خضراء ويانعة ، بعد ان كانت جدباء قاحلة .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الموتى } يعود على الله - تعالى - . أى : إن ذلك الإِله العظيم الذى أحيا الأرض بعد موتها ، لقادر على إحياء الموتى ، إذ لا فرق بينهما بالنسبة لقدرة الله التى لا يعجزها شئ . { وَهُوَ } - سبحانه - { على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ومن جملة الأشياء المقدور عليها ، إحياء الموتى .
وهكذا يسوق القرآن الكريم الأدلة على البعث ، بأسلوب منطقى ، منتزع من واقع الناس ، ومن المشاهد التى يرونها فى حياتهم .
( فانظر إلى آثار رحمة الله ) . . ! انظر إليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط ، وفي الأرض المستبشرة بعد الهمود ؛ وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب .
( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها ) . . إنها حقيقة واقعة منظورة ، لا تحتاج إلى أكثر من النظر والتدبر . ومن ثم يتخذها برهانا على قضية البعث والإحياء في الآخرة . على طريقة الجدل القرآني ، الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة ، وواقع الحياة المشهودة ، مادته وبرهانه ؛ ويجعل من ساحة الكون العريض مجاله وميدانه :
( إن ذلك لمحيي الموتى ) . . ( وهو على كل شيء قدير ) . .
وهذه آثار رحمة الله في الأرض تنطق بصدق هذا الوعد وتؤكد هذا المصير .
وبعد تقرير هذه الحقيقة يمضي في تصوير حال القوم الذين يستبشرون بالرياح المحملة بالماء ؛ ويستروحون بآثار رحمة الله عند نزوله من السماء . .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَانظُرْ إِلَىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
اختلفت القرّاء في قوله : فانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللّهِ فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : إلى أثَرِ رَحْمَةِ اللّهِ على التوحيد ، بمعنى : فانظر يا محمد إلى أثر الغيث الذي أصاب الله به من أصاب من عباده ، كيف يحيي ذلك الغيث الأرض من بعد موتها . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «فانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللّهِ » على الجماع ، بمعنى : فانظر إلى آثاء الغيث الذي أصاب الله به من أصاب كيف يحيي الأرض بعد موتها .
والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأَة الأمصار ، متقاربتا المعنى وذلك أن الله إذا أحيا الأرض بغيث أنزله عليها ، فإن الغيث أحياها بإحياء الله إياها به ، وإذا أحياها الغيث ، فإن الله هو المحيي به ، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب . فتأويل الكلام إذن : فانظر يا محمد إلى آثار الغيث الذي ينزّل الله من السحاب ، كيف يحيي بها الأرض الميتة ، فينبتها ويعشبها من بعد موتها ودثورها . إن ذلك لمحيي الموتى يقول جلّ ذكره : إن الذي يحيي هذه الأرض بعد موتها بهذا الغيث ، لمحيي الموتى من بعد موتهم ، وهو على كلّ شيء مع قدرته على إحياء الموتى قدير ، لا يعزّ عليه شيء أراده ، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه سبحانه .
رتب على ما تقرر من استحضار صورة تكوين أسباب المطر واستبشار الناس بنزوله بعد الإبلاس ، أن اعتُرض بذكر الأمر بالنظر إلى أثر الرحمة وإغاثة الله عباده حين يحيي لهم الأرض بعد موتها بالجفاف . والأمر بالنظر للاعتبار والاستدلال . والنظر : رؤية العين . وعبر عن الجفاف بالموت لأن قوام الحياة الرطوبة ، وعبر عن ضده بالإحياء . والخطاب ب { انظر } لغير معين ليعم كل من يتأتى منه النظر مثل قوله { فترى الودق } [ الروم : 48 ] .
و { رحمة الله } : هي صفته التي تتعلق بإمداد مخلوقاته ذوات الإدراك بما يلائمها ويدفع عنها ما يؤلمها وذلك هو الإنعام .
وأثر الشيء : ما ينشأ عنه مما يدل عليه . فرحمة الله دلت عليها الآثار الدالة على وجوده وتصرفه بما فيه رحمة للخلق . وكيف } بَدل من { أثر } أو مفعول ل { انْظُرْ } أي : انظر هيئة إحياء الله الأرض بعد موتها ، تلك الحالة التي هي أثر من آثار رحمته الناس على حدّ قوله { أفلا ينظرون إلى الإبل كيفَ خُلِقت } [ الغاشية : 17 ] إذ جعلوا { كيف } بدلاً من الإبل بدل اشتمال وإن أباه ابن هشام في « مغني اللبيب » . وقد مضى عند قوله { ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظلّ } في سورة الفرقان ( 45 ) ، وتقدم آنفاً في قوله { فيبسطه في السماء كيف يشاء } [ الروم : 48 ] .
وأطلق على إنبات الأرض إحياء وعلى قحولتها الموتُ على سبيل الاستعارة .
وجملة { إن ذلك لمحيي الموتى } استئناف وهو إدماج ؛ أدمج دليل البعث عقب الاعتبار بإحياء الأرض بعد موتها . وحرف التوكيد يفيد مع تقرير الخبر زيادة معنى فاء التسبب كقول بشار :
بَكِّرَا صاحِبَيَّ قبل الهجير *** إن ذاك النجاح في التبكير
إذ التقدير : فالنجاح في التبكير ، كما تقرر غير مرة . واسم الإشارة عائد إلى اسم الله تعالى بما أُجري عليه من الإخبار بإحياء الأرض بعد موتها ليفيد اسم الإشارة معنى أنه جدير بما يرد بعده من الخبر عن المشار إليه . فالمعنى : أن الله الذي يحيي الأرض بعد موتها لمحيي الموتى ، تقريباً لتصور البعث . وعدل عن الموصول إلى الإشارة للإيجاز ، ولما في الإشارة من التعظيم . وذُيل ذلك بقوله { وهو على كل شيء قدير } فإنه يعم جميع الأشياء والبعثُ من جملتها إذ ليس هو إلا إيجادَ خَلق وهو مقدور لله تعالى كما أنشأ الخلق أول مرة . والشبه تام ، لأن إحياء الأرض إيجاد أمثال ما كان عليها من النبات فكذلك إحياء الموتى إيجاد أمثالهم . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم { إلى أثَر } بالإفراد . وقرأه الباقون { إلى ءَاثار } بصيغة الجمع .