وقوله - سبحانه - : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } بدل مفصل من مجمل ، هذا المجمل هو قوله { للبشر } .
أى : إن سقر لهى خير منذر للذين إن شاءوا تقدموا إلى الخير ففازوا ، وإن شاءوا تأخروا عنه فهلكوا . فالمراد بالتقدم نحو الطاعة والهداية . والمراد بالتأخر : التأخر عنهما والانحياز نحو الضلال والكفر إذ التقدم تحرك نحو الأمام ، وهو كناية عن قبول الحق ، وبعكسه التأخر . .
ويجوز أن يكون المعنى : هى خير نذير لمن شاء منكم التقدم نحوها ، أو التأخر عنها .
وتعليق { نذيرا } بفعل المشيئة ، للإِشعار بأن عدم التذكر مرجعه إلى انطماس القلب ، واستيلاء المطامع والشهوات عليه ، وللإِيذان بأن من لم يتذكر ، فتبعة تفريطه واقعة عليه وحده ، وليس على غيره .
قال الآلوسى : قوله : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما سبق ، أعنى { للبشر } وضمير " شاء " للموصول . أى : نذيرا للمتمكنين منكم من السبق إلى الخير ، والتخلف عنه . وقال السدى : أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر عنها إلى الجنة ، وقال الزجاج : أن يتقدم إلى المأمورات أو يتأخر عن المنهيات . .
وفي ظل هذه الإيقاعات المثيرة الخطيرة يعلن تبعة كل نفس لذاتها وعلى ذاتها ؛ ويدع للنفوس أن تختار طريقها ومصيرها ؛ ويعلن لها أنها مأخوذة بما تكسبه باختيارها ، مرهونة بأعمالها وأوزارها :
( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر . كل نفس بما كسبت رهينة ) . .
فكل فرد يحمل هم نفسه وتبعتها ، ويضع نفسه حيث شاء أن يضعها ، يتقدم بها أو يتأخر ، ويكرمها أو يهينها . فهي رهينة بما تكسب ، مقيدة بما تفعل . وقد بين الله للنفوس طريقة لتسلك إليه على بصيرة ، وهو إعلان في مواجهة المشاهد الكونية الموحية ، ومشاهد سقر التي لا تبقي ولا تذر . . له وقعه وله قيمته !
وقوله : لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَتَقَدّمَ أوْ يَتأَخّرَ يقول تعالى ذكره : نذيرا للبشر لمن شاء منكم أيها الناس أن يتقدّم في طاعة الله ، أو يتأخر في معصية الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَتَقدّمَ أوْ يَتأَخّرَ قال : من شاء اتبع طاعة الله ، ومن شاء تأخر عنها .
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَتَقَدّمَ أوْ يَتأَخّرَ : يتقدّم في طاعة الله ، أو يتأخر في معصيته .
وقوله تعالى : { لمن يشاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } ، قال الحسن هو وعيد نحو قوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }{[11446]} [ الكهف : 29 ] ، وقوله تعالى : { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين }{[11447]} [ الحجر : 24 ] .
قال القاضي أبو محمد : هو بيان في النذارة وإعلام أن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر ، أي : هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره
وقوله : { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } بدل مفصل من مجمل من قوله { للبشر } ، وأعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كقوله تعالى : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم } [ الأعراف : 75 ] ، وقوله : { إن هو إلاّ ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم } [ التكوير : 27 ، 28 ] وقوله تعالى : { تكون لنا عيداً لأوَّلنا وآخِرِنا } [ المائدة : 114 ] . والمعنى : إنها نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الإِيمان والخير لينتذر بها ، ولمن شاء أن يتأخر عن الإيمان والخير فلا يرعوي بنذارتها لأن التقدّم مشي إلى جهة الإمام فكأنَّ المخاطب يمشي إلى جهة الداعي إلى الإِيمان وهو كناية عن قبول ما يدعو إليه ، وبعكسه التأخر ، فحذف متعلق { يتقدم ويتأخّر } لظهوره من السياق .
ويجوز أن يقدر : لمن شاء أن يتقدم إليها ، أي إلى سَقَر بالإِقدام على الأعمال التي تُقدمه إليها ، أو يتأخر عنها بتجنب ما من شأنه أن يقربه منها .
وتعليق { نذيراً } بفعل المشيئة إنذار لمن لا يتذكر بأن عدم تذكره ناشىء عن عدم مشيئته فتبعتُه عليه لتفريطه على نحو قول المثل « يَداك أوكَتا وفُوك نفخ » ، وقد تقدم في سورة المزمل ( 19 ) قوله : { إنَّ هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً وفي ضمير منكم } التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن مقتضى الظاهر أن يقال : لمن شاء منهم ، أي من البشر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.