قوله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن } الآية . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، ثنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو عبد الله بن حامد الأصفهاني ، ثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي ، ثنا محمد بن نصر ، حدثني أبو الأزهر أحمد بن الأزهر ، ثنا مروان بن محمد بن شعيب ثنا معان بن رفاعة عن علي بن زيد ، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال : " جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، ثم أتاه بعد ذلك ، فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أمالك في رسول الله أسوة حسنة ؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فوالذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالا " . قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها وهى تنمو كالدود ، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ، ويصلي في غنمه سائر الصلوات ، ثم كثرت ونمت حتى تباعد بها عن المدينة ، فصار لا يشهد إلا الجمعة ، ثم كثرت فنمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة . فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ، فذكره صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : ما فعل ثعلبة ؟ قالوا : يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة . فأنزل الله آية الصدقات ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهنية وكتب لهما أسنان الصدقة ، فكيف يأخذان ، وقال لهما : مرا بثعلبة بن حاطب ، وبفلان ، رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وقراه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي ، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلها بها فلما رأوها قالوا : ما هذه عليك . قال : خذاه فإن نفسي بذلك طيبة ، فمرا على الناس فأخذا الصدقات ، ثم رجعا إلى ثعلبة ، فقال : أروني كتابكما فقرأه ، ثم قال : ما هذه إلا أخت الجزية ، اذهبا حتى أرى رأيي . قال : فأقبلا رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ، ثم دعا للسلمي بخير ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ، فأنزل الله تعالى فيه : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله } الآية ، إلى قوله : { وبما كانوا يكذبون } وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة ، فقال : إن الله عز وجل منعني أن أقبل منك صدقتك ، فجعل يحثو التراب على رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني ، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض صدقته ، رجع إلى منزله . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أتى أبا بكر فقال : اقبل صدقتي ، فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنا أقبلها ؟ فقبض أبو بكر ولم يقبلها . فلما ولي عمر أتاه فقال : اقبل صدقتي ، فقال : لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر ، أنا أقبلها منك ؟ فلم يقبلها فلما ولي عثمان أتاه فلم يقبلها منه ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان . قال ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة : أتى مجلسا من الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه ، وتصدقت منه ، ووصلت الرحم ، وأحسنت إلى القرابة ، فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يف بما قال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال الحسن و مجاهد : نزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ، وهما من بني عمرو بن عوف ، خرجا على ملأ قعود قالا : والله لئن رزقنا الله مالا لنصدقن ، فلما رزقهما الله عز وجل بخلا به ، فقوله عز وجل : { ومنهم } يعني : المنافقين { من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن } ولنؤدين حق الله منه . { ولنكونن من الصالحين } ، نعمل بعمل أهل الصلاح فيه ، من صلة الرحم والنفقة في الخير .
{ 75 - 78 } { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ }
أي : ومن هؤلاء المنافقين من أعطى اللّه عهده وميثاقه { لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } من الدنيا فبسطها لنا ووسعها { لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } فنصل الرحم ، ونقري الضيف ، ونعين على نوائب الحق ، ونفعل الأفعال الحسنة الصالحة .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك نماذج أخرى من جحودهم ، ونقضهم لعهودهم ، وبخلهم بما آتاهم الله من فضله فقال - سبحانه - : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ . . . عَلاَّمُ الغيوب } .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : وقد ذكر كثر من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصرى ، أن سبب نزول هذه الآيات أن ثعلبة ابن حاطب الانصارى قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقنى مالا . فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه . ثم قال له مرة أخرى : " أما ترضى أن تكون مثل نبى الله ؟ فو الذي نفسى بيده لو شئت أن تصير الجبال معى ذهبا وفضة لصارت " .
فقال ثعلبة ، والذى بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقنى مالا لأعطين كل ذى حق حقه .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم ارزق ثعلبة مالا " .
فاتخذ ثعلبة غنما فمنت ، ثم ضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلى الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما . ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمة ، ثم ترك الجمعة . .
وأنزل الله - تعالى - { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } فبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجلين على الصدقة من المسلمين . . وقال لهما : " مرا على ثعلبة وعلى فلان . رجل من بنى سليم . فخذا صدقاتهما " .
فخرجا حتى أيتا ثعلبة فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله . فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، ما أدرى ما هذا ؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عوندا إلى . فانطلقا وسمع بهما السملى " فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة . ثم استقبلهم بها . فلما رأوها قالوا له : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ منك . فقال : بل خذوها فإن نفسى بذلك طيبة ، فأخذاها منه ومرا على ثعلبة فقال لهما : أرونى كتابكما فقرأه فقال : ما هذه إلا جزية . . . انطلقا حتى أرى رأيى .
. فانطلقا حتى أتيا النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رآهما قال : " يا ويح ثعلبة " قبل أن يكلمهما ، ودعا للسملى بالبركة . فأخبراه بالذى صنعه ثعلبة معهما . .
فأنزل الله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين } . الآيات .
فسمع رجل من أقارب ثعلبة هذه الآيات فذهب إليه وأخبره بما أنزل فيه من قرآن .
فخرج ثعلبة حتى أتى النبى - صلى الله عليه وسلم - وسأله أن يقبل منه صدقته فقال له : إن الله منعنى أن أقبل منك صدقتك . .
ثم لم يقبلها منه بعد ذلك أبو بكر أو عمر أو عثمان ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان .
هذا ، وقد ضعف بعض العلماء هذا الحديث ، لأسباب تتعلق بسنده ، وبصاحب القصة وهو ثعلبة بن حاطب .
والذى نراه أن هذه الآيات الكريمة تحكى صورة حقيقية وواقعية لبعض المنافقين المعاصرين للعهد النبوى . والذين عهادوا الله فنقضوا عهودهم معه ، وقابولا ما أعطاهم من نعم بالبخل والجحود . .
وتلك الصورة قد تكون لثعلبة بن حاطب وقد تكون لغيره ، لأن المهم هو حصولها فعلا من بعض المنافقين .
وهذه الآيات - أيضا - تنطبق في كل زمان ومكان على من يقابل نعم الله بالكفران ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب المنار بقوله : هذا بيان لحال طائفة من أولئك المنافقين الذين أغناهم الله ورسوله من فضله بعد الفقر والإِملاق ، ويوجد مثلهم في كل زمان ، وهم الذين يلجأون إلى الله - تعالى - في وقت العسرة والفقر ، أو الشدة والضر ، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له ، والطاعة لشرعه ، إذا هو كشف ضرهم ، وأغنى فقرهم . فإذا استجاب لهم نكسوا على رءوسهم ، ونكصحوا على أعقابهم ، وكفروا النعمة ، وبطروا الحق ، وهضموا حقوق الخلق وهذا مثل من شر أمثالهم .
ومعنى الآيات الكريمة : ومن المنافقين قوم " عاهدوا الله " وأكدوا عهودهم بالايمان المغلظة فقالوا : " لئن آتانا " الله - تعالى - من فضله مالا وفيرا لنصدقن منه على المحتاجين ، ولنعطين كل ذى حق حقه ولنكونن من عباد " الصالحين " الذين يؤدون واجبهم نحو الله والناس ، والذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون .
قال الجمل وقوله : { مَّنْ عَاهَدَ الله } فيه معنى القسم ، وقوله : { لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ } تفسير لقوله : عاهد الله . واللام موطئة لقسم مقدر . وقد اجتمع هنا قسم وشرط ، فالمذكور وهو قوله : " لنصدقن " . . جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف . . . ولالام في قوله " لنصدقن " . . واقعة في جواب القسم .
ثم يمضي السياق في عرض نماذج من المنافقين وأحوالهم وأقوالهم من قبل الغزوة وفي ثناياها :
( ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . فلما آتاهم من فضله بخلوا به ، وتولوا وهم معرضون ، فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه ، بما أخلفوا اللّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) .
من المنافقين من عاهد اللّه لئن أنعم اللّه عليه ورزقه ، ليبذلن الصدقة ، وليصلحن العمل . ولكن هذا العهد إنما كان في وقت فقره وعسرته . في وقت الرجاء والطمع .