اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (75)

قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } الآية .

" عاهد الله " فيه معنى القسم ، فلذلك أجيب بقوله : " لنصَّدقنَّ " ، وحذف جوابُ الشرط لدلالة هذا الجواب عليه ، و " اللاَّم " للتوطئةِ ، ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللاَّم الموطئة له .

وقال أبُو البقاءِ{[17985]} : فيه وجهان :

أحدهما : تقديره : " عاهد ، فقال : لئِنْ آتَانَا " .

والثاني : أن يكون " عاهد " بمعنى : قال ، فإنَّ العهد قول . ولا حاجة إلى هذا .

قوله : { لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ } قرأهما الجمهور بالنُّون الثقيلة . والأعمش{[17986]} بالخفيفة .

قال الزجاج الأصل : " لنتَصدَّقنَّ " ، ولكن التَّاء أدغمت في الصَّاد ، لقربها منها .

قال الليثُ : المُتصدق : المعطي ، والمُتصدق : السائل . قال الأصمعيُّ ، والفرَّاءُ : هذا خطأ ، فالمتصدق هو المعطي ، قال تعالى : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين } [ يوسف : 88 ] واعلم أنَّ هذه السورة نزل أكثرها في شرح أحوال المنافقين ؛ فلهذا ذكرهم على التفصيل فقال : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي } [ التوبة : 62 ] { وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } [ التوبة : 58 ] { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } [ التوبة : 49 ] { وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 75 ] .

والمشهور في سبب نزول هذه الآية : ما روى أبو أمامة قال : جاء ثعلبةُ بنُ حاطبٍ الأنصاريُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويحْكَ يا ثعلبةُ قليلٌ تُؤدِّي شُكرَهُ خيرٌ من كثيرٍ لا تُطِيقهُ " ثمَّ أتاهُ بعد ذلك فقال : " أمّا لكَ في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ ؟ والذي نفسي بيدهِ لوْ أردتُ أن تسيرَ الجبالُ معي ذهباً وفضةً لسَارَتْ " .

ثمَّ راجعه بعد ذلك ، فقال : يا رسول الله : ادعُ الله أن يرزقني مالاً ، والذي بعثك بالحقِّ لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللَّهُمَّ ارزقْ ثعلبةَ مالاً " قال : فاتَّخذ غنماً ؛ فنمت كما ينمو الدُّودُ ، حتى ضاقَتْ بها المدينةُ فتنحَّى عنها ، ونزل وادياً من أوديتها ، وكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر ، ويصلي في غنمة سائر الصلوات ، ثم كثُرتْ ونمتْ ، فتباعد حتى كان لا يشهدُ جمعةً ولا جماعة ؛ فكان إذا كان يوم الجمعة خرجَ يتلقَّى النَّاس يسألهم عن الأخبار ، فذكرهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : " ما فعل ثعلبةُ ؟ " .

قالوا : يا رسول الله ؛ اتَّخذَ غنماً ما يسعها وادٍ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ويْحَ ثَعلبةَ " فأنزل الله تعالى آية الصدقات ؛ فبعث رسُول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني سليم ، ورجلاً من جهينة ، وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذانها ، وقال لهما : " مُرَّا بثعلَبَة بنِ حاطبٍ ، وبرجُلٍ من بنِي سليمٍ ، فخذا صدقاتهما " فخرجا حتى أتيا ثعلبة ؛ فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : هذه إلاَّ الجزية ، ما هذه إلاَّ أخت الجزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ ، فانطلقا وسمع بهما السُّلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصَّدقة ، ثم استقبلهما بها ، فلمَّا رأياها قالا : ما هذه عليك ؛ قال خذاه فإنَّ نفسي بذلك طيبة ، فمرَّا على الناس ، وأخذَا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة ، فقال : أروني كتابكما ؛ فقرأه ثم قال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلاَّ أختُ الجزية ، اذهبا حتَّى أرى رأيي ، قال فأقبلا ، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلماه : يا ويْحَ ثعلبةَ ، ثُمَّ دعا للسلميّ بخيرٍ ؛ فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } الآية على قوله : { وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 77 ] وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من أقارب ثعلبةَ ؛ فسمع ذلك ، فخرج حتَّى أتاهُ فقال : ويْحَكَ يا ثعلبة ، قد أنزل الله عزَّ وجلَّ فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل صدقته ، فقال : " إنَّ الله مَنَعنِي أن أقبلَ مِنْكَ صدقَتكَ " فجعل يَحثُو التُّرابَ على رأسِهِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد أمرتُك فلمْ تُطِعْنِي " ؛ فرجع إلى منزله ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتى أبا بكر بصدقته ؛ فلم يقبلها اقتداء بالرسول - عليه الصلاة والسلام - فقبض أبو بكر ، ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر ، ثمَّ لم يقبلها عثمان ، وهلك ثعلبةُ في خلافه عثمان{[17987]} .

وقال ابنُ عباسٍ ، وسعيدُ بن جبير ، وقتادةُ : أتى ثعلبة مشهداً من الأنصار ؛ فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ ، وتصدقت منه ، ووصلت منه القرابة ، فمات ابن عمٍّ له ، فورث منه مالاً ، فلم يف بما قال ؛ فأنزل الله هذه الآية{[17988]} .

وقال الحسن ومجاهدٌ : نزلت في ثعلبةَ بن حاطبٍ ، ومعتب بن قشير ، وهما من بني عمرو بن عوف قد جاءا على ملأ قعوداً وقالا : والله لئن رزقنا الله لنصدقنَّ ، فلما رزقهما بخلا به . والمشهورُ الأول{[17989]} .

فإن قيل : إنَّ الله أمره بإخراج الصَّدقة ؛ فكيف يجوزُ للرسول أن لا يقبلها منه ؟ .

فالجواب : لا يبعد أن يقال : إنَّ الله تعالى منع الرسول - عليه الصلاة والسلام - من قبول الصدقة منه إهانة له ليعتبر غيره ، فلا يمتنع عن أداء الصدقات ، أو أنَّه أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء ، لا على وجه الإخلاص ، وأعلم الله الرسول بذلك ؛ فلذلك لم يقبل تلك الصدقة ، ويحتمل أيضاً أن الله تعالى لما قال : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } [ التوبة : 103 ] كان هذا غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه ؛ فلهذا امتنع الرَّسولُ - عليه الصلاو والسلام - من أخذ تلك الصَّدقةِ .

فإن قيل : المنافق كافرٌ ، والكافر لا يمكنه أن يعاهد الله .

فالجواب : أنَّ المنافق قد يكون عارفاً بالله ، إلاَّ أنه كان منكراً لنبوةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام ؛ فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله ، ولكونه منكراً لنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - ، كان كافراً .

وكيف لا أقول ذلك وأكثر العالم مقرون بوجود الصانع ؟ أو لعله حين عاهد الله كان مسلماً ، ثم لمَّا بخل بالمال ، ولم يف بالعهدِ صار منافقاً ، ولفظ الآية يدلُّ على ذلك لقوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } [ التوبة : 78 ] .

فإن قيل : هل من شرط المعاهدة أن يتلفظ بها باللسان ، أو يكفي النِّيَّة ؟ .

فالجواب : قال بعضهم : تكفي النيةُ ، وأن قوله : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } [ التوبة : 75 ] كان شيئاً نووه في أنفسهم لقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } [ التوبة : 78 ] . وقال المحققون : هذه المعاهدة مقيدة بالتَّلفظ باللسان ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " إنَّ الله عفا لأمَّتي ما حدَّثتْ به أنفُسهَا ما لم تتكلَّم به أو تعمل " وأيضاً فقوله { لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } يشعر ظاهره بالقول باللسانِ .

فإن قيل : المراد من الصدقة إخراج المال ، وهو على قسمين واجبٌ وغير واجب والواجبُ قسمان :

قسم واجبٌ بأصل الشرع كالزَّكاة ، والنفقات الواجبةِ .

وقسم لم يجب إلاَّ إذا التزمه العبد كالنذور .

فقوله : " لنصَّدَّقنَّ " هل يتناولُ الأقسام الثلاثة ، أو لا ؟

فالجوابُ : أنَّ الصَّدقات الَّتي ليست واجبة ، غير داخلة في الآية ، لقوله : " بخلوا به " والبخل في عرف الشَّرْعِ عبارة عن منع الواجب ؛ ولأنَّه تعالى ذمَّهُم بهذا الترك ، وتارك المندوب لا يذم .

بقي القسمان الواجبان ؛ فالواجب بأصل الشرع داخل في الآية ، لا محالة بقي الواجب بالنَّذر ، والظَّاهر أن اللفظ لا يدلُّ عليه ؛ لأنه ليس في الآية إلاَّ قوله { لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } وهذا ليس فيه إشعارٌ بالنَّذر ، لأنَّ الرجل قد يعاهدُ ربَّهُ في أن يقوم بما يلزمه من الزَّكوات والنفقات الواجبة إن وسَّعَ اللهُ عليه .

فإن قيل : لفظ الآية يدلُّ على أنَّ الذي لزمهم إنَّما بسبب هذا الالتزام ، والزكاةُ لا تلزم بسبب هذا الالتزام ، وإنما تلزمُ بملك النصاب وحلول الحولِ .

فالجوابُ : قوله : " لنصَّدقنَّ " لا يوجبُ أن يفعلوا ذلك على الفور ؛ لأنَّهُ إخبار عن إيقاع هذا الفعل في المستقبل ، وهذا النذر لا يوجبُ الفور ؛ فكأنهم قالوا : لنصدقن في وقته كما قالوا : { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين } أي : في أوقات لزوم الصَّلاة ؛ فثبت بما قرَّرْنَا أنَّ الدَّاخل تحت هذا العهد ، إخراج الأموال الواجبة بأصل الشَّرع ، ويؤكد هذا ما روي في سبب النُّزولِ أنَّ الآية إنَّما نزلت في حق من امتنع من أداة الزَّكاةِ .

فصل

المرادُ من " الفضل " ههنا : إيتاء المالِ بأي طريق كان ، إمَّا بتجارة ، أو غنيمةٍ أو غير ذلك . والمرادُ ب " الصَّالحينَ " : الصالح ضد المفسد ، والمفسد عبارة عمَّن بخل بما يلزمه في التكليف ، فالصَّالح : من يعملُ بعمل أهل الصَّلاحِ من صلة الرَّحمِ والنَّفقةِ في الخير ، ونحو ذلك .


[17985]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/18.
[17986]:ينظر: الكشاف 2/293، المحرر الوجيز 3/62، البحر المحيط 5/75، الدر المصون 3/485.
[17987]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/425-426) والواحدي في "أسباب النزول" ص (191-192) والبغوي في "تفسيره" (2/312-313) والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/289-291) من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة. وذكره الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (3/135): سنده ضعيف. وقال ابن حجر "تخريج الكشاف" ص 77: إسناده ضعيف جدا.
[17988]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/425) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/468) وزاد نسبته إلى ابن حاتم وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس.
[17989]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/427) عن الحسن ومجاهد.