معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

قوله تعالى : { وإذا قيل لهم } . يعني للمنافقين ، وقيل لليهود أي قال لهم المؤمنون .

قوله تعالى : { لا تفسدوا في الأرض } . بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل معناه لا تكفروا ، والكفر أشد فساداً في الدين .

قوله تعالى : { قالوا إنما نحن مصلحون } . يقولون هذا القول كذباً كقولهم آمنا وهم كاذبون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }

أي : إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض ، وهو العمل بالكفر والمعاصي ، ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين { قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض ، وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح ، قلبا للحقائق ، وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا ، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية ، مع اعتقاد أنها معصية{[43]}  فهذا أقرب للسلامة ، وأرجى لرجوعه .


[43]:- ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

ثم وصفهم الله - تعالى - بعد ذلك بجملة من الرذائل والقبائح مضافة إلى قبائحهم السابقة فقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا . . . } .

الفساد : خروج الشيء عن حالة الاعتدال والاستقامة ، وعن كونه منتفعاً به ، وضده الصلاح ، يقال : فسد الشيء فساداً ، وأفسده إفساداً . والمراد به هنا كفرهم ، ومعاصيهم ، ومن كفر بالله وانتهك محارمه فقد أفسد في الأرض ، لأن الأرض لا تصلح إلا بالتوحيد والطاعة .

ومن أبرز معاصي هؤلاء المنافقين ، ما كانوا يدعون إليه في السر من تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشبه في طريق دعوته ، والتحالف مع المشركين ضد المسلمين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا .

وسلك القرآن هذا الأسلوب فقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } بالبناء للمفعول دون أن يسند الفعل إلى فاعله ، لأن مصدر القول المعبر عن النهي عن الإِفساد ليس مصدراً واحداً ، فقد يصل آذانهم هذا النهي مرة من صريح القول . وأخرى مما كانوا يقابلون به من ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من تجهم وإعراض . وعلق بالفعل الذي هو الإِفساد قوله : { فِي الأرض } إيذاناً بأن الإِفساد مهما ضاقت حدوده ، فإنه لابد يوماً أن يتعدى الحدود إلى ما وراء ذلك فقد يعم ويشمل إذا لم يشتد في الاحتياط له ، لذلك جعل ظرف إفسادهم الأرض كلها مع أنهم موجودون في بقعة محصورة هي المدينة المنورة .

ولقد حكى القرآن جوابهم على نصيحة الناصحين وما فيه من تبجح وادعاء فقال :

{ قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } . فقد بالغوا في الرد فحصروا أنفسهم أولاً في الإصلاح مبالغة المفجوع الذي أذهلته المفاجأة بكشف أستار حقيقة ، فتراهم لم يقتصروا على أن يقولوا : { إِنّا مُصْلِحُونَ } بل قالوا " إنما " ثم أكدوا الجملة بكونها اسمية ليدلوا بذلك على أن شأنهم في الإصلاح ثابت لازم . قال الراغب : صوروا إفسادهم بصورة الإِصلاح لما في قلوبهم من المر ، كما في قوله - تعالى - : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } وقوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } وقوله : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً . الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ قَالُوَاْ إِنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }

اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فروي عن سلمان الفارسي أنه كان يقول : لم يجيءْ هؤلاء بعد .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام بن عليّ ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعت المنهال بن عمرو يحدّث عن عباد بن عبد الله ، عن سلمان ، قال : ما جاء هؤلاء بعد ، الذين إذَا قيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ .

حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الأعمش ، عن زيد بن وهب وغيره ، عن سلمان أنه قال في هذه الآية : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ قال ما جاء هؤلاء بعد . وقال آخرون بما :

حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأرْض قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ هم المنافقون . أما لا تفسدوا في الأرض فإن الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية .

وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا في الأرْضِ يقول : لا تعصوا في الأرض . قال : فكان فسادهم على أنفسهم ذلك معصية الله جل ثناؤه ، لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض ، لأن إصلاح الأرض والسماء بالطاعة .

وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : إن قول الله تبارك اسمه : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان معنيا بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة . وقد يحتمل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية : «ما جاء هؤلاء بعد » أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا منه عمن جاء منهم بعدهم ولما يجيء بعد ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن هذه صفته أحد .

وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ، وأن هذه الاَيات فيهم نزلت . والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير . والإفساد في الأرض : العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه ، وتضييع ما أمر الله بحفظه . فذلك جملة الإفساد ، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرا عن قيل ملائكته : { قالُوا أَتَجْعَلَ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ } يعنون بذلك : أتجعل في الأرض من يعصيك ويخالف أمرك ؟ فكذلك صفة أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصِيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بالتصديق به والإيقان بحقّيته ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً .

فذلك إفساد المنافقين في أرض الله ، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها . فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته ، ولا خفف عنهم أليم ما أعدّ من عقابه لأهل معصيته بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون ، بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره والأليمَ من عذابه والعارَ العاجل بسبّ الله إياهم وشتمه لهم ، فقال تعالى : أَلاّ إنّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم أدلّ الدليل على تكذيبه تعالى قول القائلين : إن عقوبات الله لا يستحقها إلا المعاند ربه فيما لزمه من حقوقه وفروضه بعد علمه وثبوت الحجة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إياه .

القول في تأويل قوله تعالى : قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ .

وتأويل ذلك كالذي قاله ابن عباس ، الذي :

حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أي قالوا : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب . وخالفه في ذلك غيره .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قال : إذا ركبوا معصية الله ، فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى مصلحون .

قال أبو جعفر : وأيّ الأمرين كان منهم في ذلك أعني في دعواهم أنهم مصلحون فهم لا شكّ أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون . فسواء بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاح أو في أديانهم ، وفيما ركبوا من معصية الله ، وكذبهم المؤمنين فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهروا مستبطنون ، لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين ، وهم عند الله مسيئون ، ولأمر الله مخالفون لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوة اليهود وحربهم مع المسلمين ، وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله كالذي ألزم من ذلك المؤمنين ، فكان لقاؤهم اليهود على وجه الولاية منهم لهم ، وشكهم في نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله أعظم الفساد ، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحا وهدى : في أديانهم ، أو فيما بين المؤمنين واليهود ، فقال جل ثناؤه فيهم : ألا إنّهُمُ هُمْ المُفْسِدُونَ دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض ولكن لا يشعرون .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} (11)

يظهر لي أن جملة { وإذا قيل لهم } عطف على جملة { في قلوبهم مرض } [ البقرة : 10 ] ؛ لأن قوله : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } إخبار عن بعض عجيب أحوالهم ، ومن تلك الأحوال أنهم قالوا { إنما نحن مصلحون } في حين أنهم مفسدون فيكون معطوفاً على أقرب الجمل الملظة لأحوالهم وإن كان ذلك آيلاً في المعنى إلى كونه معطوفاً على الصلة في قوله : { من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] .

و { إذا } هنا لمجرد الظرفية وليست متضمنة معنى الشرط كما أنها هنا للماضي وليست للمستقبل وذلك كثير فيها كقوله تعالى : { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر } [ آل عمران : 152 ] الآية . ومن نكت القرآن المغفول عنها تقييد هذا الفعل بالظرف فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن محل المذمة هو أنهم يقولون { إنما نحن مصلحون } مع كونهم مفسدين ، ولكن عند التأمل يظهر أن هذا القول يكون قائلوه أجدر بالمذمة حين يقولونه في جواب من يقول لهم { لا تفسدوا في الأرض } فإن هذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض القلب وأفن الرأي ، لأن شأن الفساد أن لا يخفى ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة وجهل فوق جهل . وعندي أن هذا هو المقتضى لتقديم الظرف على جملة { قالوا . . . } ، لأنه أهم إذ هو محل التعجيب من حالهم ، ونكت الإعجاز لا تتناهى .

والقائل لهم { لا تفسدوا في الأرض } بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شؤونهم لقرابة أو صحبة ، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة وعلماً بأن النبيء صلى الله عليه وسلم يغضي عن زلاتهم كما أشار إليه ابن عطية . وفي جوابهم بقولهم : { إنما نحن مصلحون } ما يفيد أن الذين قالوا لهم { لا تفسدوا في الأرض } كانوا جازمين بأنهم مفسدون لأن ذلك مقتضى حرف إنما كما سيأتي ويدل لذلك عندي بناء فعل قيل للمجهول بحسب ما يأتي في قوله تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } [ البقرة : 8 ] ولا يصح أن يكون القائل لهم الله والرسول إذ لو نزل الوحي وبلغ إلى معينين منهم لعلم كفرهم ولو نزل مجملاً كما تنزل مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم : { إنما نحن مصلحون } .

وقد عَنَّ لي في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب :

أولها : إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد .

الثانية : إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها ، وإفسادُهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساويهم كما قال نوح عليه السلام :

{ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } [ نوح : 27 ] .

الثالث : إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع ، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفِتَن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين .

والإفساد فعل ما به الفساد ، والهمزة فيه للجَعْل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض . والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره ، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملاً على مضرة ، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال فسد الشيء بعدَ أن كان صالحاً ويقال فَاسِد إذا وُجد فاسداً من أول وَهلة ، وكذلك يقال أفسد إذا عمَد إلى شيء صالح فأزالَ صلاحه ، ويقال أفسَد إذا أَوْجد فساداً من أول الأمر . والأظهر أن الفساد موضوع للقدر المشترك من المعنيين وليس من الوضع المشترك ، فليس إطلاقه عليهما كما هنا من قبيل استعمال المشترك في معنييه . فالإفساد في الأرض منه تصيير الأشياء الصالحة مضرة كالغش في الأطعمة ، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحَرق والقتل للبرآء ، ومنه إفساد الأنظمة كالفِتن والجور ، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة وتحسين الكفر ومناوأة الصالحين المصلحين ، ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع ، فلذلك حُذف متعلق { تفسدوا } تأكيداً للعموم المستفاد من وقوع في حَيز النفي .

وذُكِر المحل الذي أفسدوا ما يَحْتوي عليه وهو الأرضُ لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها . والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها ، ونظيره قوله تعالى : { وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 200 ] .

وقوله تعالى : { قالوا إنما نحن مصلحون } جواب بالنقض فإن الإصلاح ضد الإفساد ، أي جعل الشيء صالحاً ، والصلاح ضد الفساد يقال صلح بعد أن كان فاسداً ويقال صلح بمعنى وجد من أول وهلة صالحاً فهو موضوع للقدر المشترك كما قلنا . وجاءوا بإنما المفيدة للقصر باتفاق أئمة العربية والتفسير ولا اعتداد بمخالفه شذوذاً في ذلك . وأفاد { إنما } هنا قصر الموصوف على الصفة رداً على قول من قال لهم { لا تفسدوا } ، لأن القائل أثبت لهم وصف الفساد إما باعتقاد أنهم ليسوا من الصلاح في شيء أو باعتقاد أنهم قد خلطوا عملاً صالحاً وفاسداً ، فردوا عليهم بقصر القلب ، وليس هو قصراً حقيقياً لأن قصر الموصوف على الصفة لا يكون حقيقياً ولأن حرف إنما يختص بقصر القلب كما في « دلائل الإعجاز » ، واختير في كلامهم حرف ( إنما ) لأنه يخاطب به مخاطب مُصِر على الخطأ كما في « دلائل الإعجاز » وجعلت جملة القصر اسمية لتفيد أنهم جعلوا اتصافهم بالإصلاح أمراً ثابتاً دائماً ، إذ من خصوصيات الجملة الاسمية إفادة الدَّوام .