سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون .
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر قال : قل سورة النضير .
قوله تعالى : { سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } قال المفسرون : نزلت هذه السورة في بني النضير ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فصالحته بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، فلما غزا النبي صلى الله عليه وسلم بدراً وظهر على المشركين قالت بنو النضير : والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية ، فلما غزا أحداً وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكة فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم ، ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام ، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة ، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة ، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة -ذكرناه في سورة آل عمران . وكان النبي صلى الله عليه وسلم اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة ، فهموا بطرح حجر عليه من فوق الحصن ، فعصمه الله وأخبره بذلك -ذكرناه في سورة المائدة . فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية يقال لها زهرة ، فلما سار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف ، فقالوا : يا محمد واعية على أثر واعية وباكية على أثر باكية ؟ قال : نعم ، قالوا : ذرنا نبكي شجوناً ثم ائتمرنا بأمرك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أقرب إلينا من ذلك ، فتنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال ، ودس المنافقون -عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه- إليهم : أن لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم . فدربوا على الأزقة وحصنوها ، ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه : أن اخرج في ثلاثين رجلاً من أصحابك ، وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان بيننا وبينك ، فيستمعوا منك ، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه كلهم يحب أن يموت قبله ؟ فأرسلوا إليه : كيف نفهم ونحن ستون رجلاً ؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيستمعوا منك ، فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه ، وخرج ثلاثة من اليهود ، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، فرجع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح ، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقبلوا ذلك ، فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح ، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم . وقال ابن عباس : على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم ، ولنبي الله صلى الله عليه وسلم ما بقي . وقال الضحاك : أعطي كل ثلاثة نفر بعيراً وسقاة ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة منهم بالحيرة .
فذلك قوله عز وجل : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب }
( 1-7 ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
إلى آخر القصة . هذه السورة تسمى { سورة بني النضير } وهم طائفة كبيرة من اليهود في جانب المدينة ، وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهاجر إلى المدينة ، كفروا به في جملة من كفر من اليهود ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هادن سائر طوائف اليهود الذين هم جيرانه في المدينة ، فلما كان بعد [ وقعة ] بدر بستة أشهر أو نحوها ، خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري ، فقالوا : نفعل يا أبا القاسم ، اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك ، فخلا بعضهم ببعض ، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم ، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحى فيصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش : أنا ، فقال لهم سلام بن مشكم : لا تفعلوا ، فوالله ليخبرن بما هممتم به ، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه ، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه ، بما هموا به ، فنهض مسرعا ، فتوجه إلى المدينة ، ولحقه أصحابه ، فقالوا : نهضت ولم نشعر بك ، فأخبرهم بما همت يهود به .
وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها ، وقد أجلتكم عشرا ، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه " ، فأقاموا أياما يتجهزون ، وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي [ بن سلول ] : " أن لا تخرجوا من دياركم ، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم ، فيموتون دونكم ، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان " .
وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له ، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنا لا نخرج من ديارنا ، فاصنع ما بدا لك .
فكبر رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه ، ونهضوا إليهم ، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء .
فأقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة ، واعتزلتهم قريظة ، وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقطع نخلهم وحرق . فأرسلوا إليه : نحن نخرج من المدينة ، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم ، وذراريهم ، وأن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الأموال والسلاح .
وكانت بنو النضير ، خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ، ولم يخمسها ، لأن الله أفاءها عليه ، ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب ، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم ، واستولى على أرضهم وديارهم ، وقبض السلاح ، فوجد من السلاح خمسين درعا ، وخمسين بيضة ، وثلاثمائة وأربعين سيفا ، هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير .
فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض تسبح بحمد ربها ، وتنزهه عما لا يليق بجلاله ، وتعبده وتخضع لجلاله{[1025]} لأنه العزيز الذي قد قهر كل شيء ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يستعصي عليه مستعصي{[1026]} الحكيم في خلقه وأمره ، فلا يخلق شيئا عبثا ، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه ، ولا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته .
1- سورة " الحشر " من السور المدنية الخالصة ، وقد عرفت بهذا الاسم منذ العهد النبوي ، وسماها ابن عباس بسورة " بني النضير " فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر . قال : " سورة بني النضير " ولعل ابن عباس –رضي الله عنهما- سماها بهذا الاسم لحديثها المفصل عن غزوة بني النضير .
2- وعدد آياتها أربع وعشرون آية ، وكان نزولها بعد سورة " البينة " وقبل سورة " النصر " أي : أنها تعتبر من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من سور قرآنية فهي السورة الثامنة والتسعون في ترتيب النزول .
أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة التاسعة والخمسون .
3- وقد افتتحت سورة " الحشر " بتنزيه الله –تعالى- عما لا يليق به ، ثم تحدثت عن غزوة " بني النضير " ، فذكرت جانبا من نصره لعباده المؤمنين ومن خذلانه لأولئك الضالين . . قال –تعالى- : { وهو الذين أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ، ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . . } .
4- ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن تقسيم أموال بني النضير ، وعن حكمة الله –تعالى- في إرشاده النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا التقسيم ، فقال –سبحانه- : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ، فلله ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ، وما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا ، واتقوا الله إن الله شديد العقاب } .
5- وبعد أن أثنت السورة الكريمة على المهاجرين لبلائهم وإخلاصهم وعفة نفوسهم ، كما أتت على الأنصار لسخائهم ، وطهارة قلوبهم . . بعد كل ذلك أخذت السورة في التعجب من حال المنافقين ، الذين تحالفوا مع اليهود ضد المؤمنين ، وذكرت جانبا من أقوالهم الكاذبة ، ووعودهم الخادعة . . فقال –تعالى- : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ، لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم ، والله يشهد إنهم لكاذبون ] .
6- ثم وجهت السورة في أواخرها نداء إلى المؤمنين ، أمرتهم فيه بتقوى الله ، ونهتهم عن التشبه بالفاسقين عن أمر الله ، الذين تركوا ما أمرهم به –سبحانه- ، فكانت عاقبة أمرهم خسرا . .
وختمت بذكر جانب من أسماء الله –تعالى- وصفاته ، فقال –تعالى- : { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، سبحان الله عما يشركون . هو الله الخالق البارئ المصور ، له الأسماء الحسنى ، يسبح له ما في السموات والأرض ، وهو العزيز الحكيم } .
7- وبذلك نرى السورة الكريمة قد طوفت بنا مع بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع التشريعات الحكيمة التي شرعها الله –تعالى- في تقسيم الغنائم ، ومع صور زاهية كريمة من أخلاق المهاجرين والأنصار ، ومع صور قاتمة كريهة من أخلاق المنافقين وإخوانهم من اليهود . .
ومع جانب من أسماء الله –تعالى- وصفاته ، التي تليق به –عز وجل- .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
افتتحت سورة " الحشر " بالثناء على الله - تعالى - وبتنزيهه عن كل مالا يليق بذاته الجليلة ، فقال - عز وجل - : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } .
وأصل التسبيح لغة : الإبعاد عن السوء . وشرعا : تنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق بجلاله وكماله .
والذى يتدبر القرآن الكريم ، يجد أن الله - تعالى - قد ذكر فيه أن كل شىء فى هذا الكون يسبح بحمده - تعالى - ، كما فى قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } كما ذكر - سبحانه - أن الملائكة تسبح له ، كما فى قوله : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ . . . } وكذلك الرعد ، كما فى قوله : { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ . . } وكذلك الجبال والطير قال - تعالى - : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق والطير مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } وقد سبق أن ذكرنا خلال تفسيرنا لقوله - تعالى - : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } أن الرأى الذى تطمئن إليه النفس ، أن التسيبح حقيقى ، ولكن بلغة لا يعملها إلا الله - تعالى - .
والمعنى : سبح لله - تعالى - ونزهه عن كل ما لا يليق به ، جميع ما فىالسموات وجميع ما فى الأرض من كائنات ومخلوقات . وهو - عز وجل - { العزيز } الذى لا يغلبه غالب { العزيز الحكيم } فى أقواله وأفعاله .
وقد افتتحت بعض السور - كسورة الحديد والحشر والصف - بالفعل الماضى ، لإفادة الثبوت والتأكيد ، وأن التسبيح قد تم فعلا .
وافتتحت بعض السور ، كسورة الجمع والتغابن - بالفعل المضارع { يسبح } لإفادة تجدد هذا التسبيح لى كل وقت ، وحدوثه فى كل لحظة .
بسم الله الرحمن الرحيم { سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم }روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا له ولا عليه فلما ظهر يوم بدر قالوا إنه النبي المنعوت في التوراة بالنصرة فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة وحالفوا أبا سفيان فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخا كعب من الرضاعة فقتله غيلة ثم صبحهم بالكتائب وحاصرهم حتى صالحوا على الجلاء فجلا أكثرهم إلى الشام ولحقت طائفة بخيبر والحيرة فأنزل الله تعالى سبح لله إلى قوله والله على كل شيء قدير .
( 59 ) سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون .
هذه السورة مدنية باتفاق من أهل العلم وهي سورة بني النضير ، وذلك أن رسول الله كان عاهد بني النضير على سلم وهم يرون أنه لا ترد له راية فلما جرت هزيمة أحد ارتابوا وداخلوا قريشا وغدروا ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد تبين له معتقد بني النضير وغدرهم بعهده وموالاتهم للكفرة ، فجمع إليهم وحاصرهم وعاهدهم على أن يجليهم عن أرضهم فارتحلوا إلى بلاد مختلفة خيبر والشام وغير ذلك من البلاد ، ثم كان أمر بني قريظة مرجعه من الأحزاب .
قد تقدم القول في تسبيح الجمادات التي يتناولها عموم ما في السماوات والأرض وأن أهل العلم اختلفوا في ذلك . فقال قوم : ذلك على الحقيقة ، وقال آخرون : ذلك مجاز أي آثار الصنعة فيها والإيجاد لها كالتسبيح وداعية إلى التسبيح ممن له أن يسبح ، قال مكي { سبح } معناه : صلى وسجد فهذا كله بمعنى الخضوع والطوع ، و { العزيز الحكيم } صفتان مناسبتان لما يأتي بعد من قصة العدو الذي أخرجهم من ديارهم .
اشتهرت تسمية هذه السورة { سورة الحشر } . وبهذا الاسم دعاها النبي صلى الله عليه وسلم .
روي الترمذي عن معقل بن يسار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح ثلاث مراد أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر الحديث ، أي الآيات التي أولها { هو الله لا أله إلا هو عالم الغيب والشهادة } إلى آخر السورة .
وفي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لأن عباس سورة الحشر قال { قل بني النضير } ، أي سورة بني النضير فابن جبير سماها باسمها المشهور . وأبن عباس يسميها سورة بني النضير . ولعله لم يبلغه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياها ( سورة الحشر ) لأن ظاهر كلامه أنه يرى تسميتها سورة بني النضير } لقوله أن جبير قل بني النضير .
وتأول أبن حجر كلام أبن عباس على أنه كره تسميتها ب( الحشر ) لئلا يظن أن المراد بالحشر يوم القيامة . وهذا تأويل بعيد . وأحسن من هذا أن أبن عباس أراد أن لها اسمين ، وأن الأمر في قوله : قل ، للتخيير .
فأما وجه تسميتها ( الحشر ) فلوقوع لفظ { الحشر } فيها . ولكونها ذكر فيها حشر بني النضير من ديارهم أي من قريتهم المسماة الزهرة قريبا من المدينة . فخرجوا إلى بلاد الشام إلى أريحا وأذرعات ، وبعض بيوتهم خرجوا إلى خيبر ، وبعض بيوتهم خرجوا إلى الحيرة .
وأما وجه تسميتها سورة بني النضير فلأن قصة بني النضير ذكرت فيها .
وهي الثامنة والتسعون في عداد نزول السور عند جابر بن زيد . نزلت بعد سورة البينة وقبل سورة النصر .
وكان نزولها عقب إخراج بني النضير من بلادهم سنة أربع من الهجرة .
وعدد آيها أربع وعشرون باتفاق العادين .
وفق الاتفاق على أنها نزلت في شأن بني النضير ولم يعينوا ما هو الغرض الذي نزلت فيه . ويظهر أن المقصد منها حكم أموال بني النضير بعد الانتصار عليهم ، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى منها .
وقد اشتملت إلى أن ما في السماوات وما في الأرض دال على تنزيه الله ، وكون في السماوات والأرض ملكه ، وأنه الغالب المدبر .
وعلى ذكر نعمة الله على ما يسر من إجلاء بني النضير مع ما كانوا عليه من المنعة والحصون والعدة . وتلك آية من آيات تأييد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبته على أعدائه .
وذكر ما أجراه المسلمون من إتلاف أموال بني النضير وأحكام ذلك في أموالهم وتعيين مستحقيه من المسلمين .
وتعظيم شأن المهاجرين والأنصار والذين يجيئون بعدهم من المؤمنين .
وكشف دخائل المنافقين ومواعيدهم لبني النضير أن ينصروهم وكيف كذبوا وأنحى على بني النضير والمنافقين بالجبن وتفرق الكلمة وتنظير حال تغرير المنافقين لليهود بتغرير الشيطان للذين يكفرون بالله ، وتنصله من ذلك يوم القيامة فكان عاقبة الجميع الخلود في النار .
ثم خطاب المؤمنين بالأمر بالتقوى والحذر من أحوال أصحاب النار والتذكير بتفاوت حال الفريقين .
وبيان عظمة القرآن وجلالته واقتضائه خشوع أهله .
وتخلل ذلك إيماء إلى حكمة شرائع انتقال الأموال بين المسلمين بالوجوه التي نظمها الإسلام بحيث لا تشق على أصحاب الأموال .
والآمر باتباع ما يشرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
وختمت بصفات عظيمة من الصفات الإلهية وأنه يسبح له ما في السماوات والأرض تزكيه لحال المؤمنين وتعريضا بالكافرين .
افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح ما في السماوات والأرض لله تعالى تذكيرٌ للمؤمنين بتسبيحهم لله تسبيح شكر على ما أنالهم من فتح بلاد بني النضير فكأنه قال سبحوا لله كما سَبح له ما في السماوات والأرض .
وتعريض بأولئك الذين نزلت السورة فيهم بأنهم أصابهم ما أصابهم لتكبرهم عن تسبيح الله حق تسبيحه بتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم إذ أعرضوا عن النظر في دلائل رسالته أو كابروا في معرفتها .
والقول في لفظ هذه الآية كالقول في نظيرها في أول سورة الحديد ( 1 ) ، إلا أن التي في أول سورة الحديد فيها : { ما في السماوات والأرض } وها هنا قال : { ما في السموات وما في الأرض } لأن فاتحة سورة الحديد تضمنت الاستدلال على عظمة الله تعالى وصفاته وانفراده بخلق السماوات والأرض فكان دليل ذلك هو مجموع ما احتوت عليه السماوات والأرض من أصناف الموجودات فجمع ذلك كله في اسم واحد هو { ما } الموصولة التي صلتها قوله : { في السماوات والأرض } . وأما فاتحة سورة الحشر فقد سيقت للتذكير بمنة الله تعالى على المسلمين في حادثة أرضية وهي خذلان بني النضير فناسب فيها أن يخص أهل الأرض باسم موصول خاص بهم ، وهي { ما } الموصولة الثانية التي صلتها { في الأرض } ، وعلى هذا المنوال جاءت فواتح سور الصف والجمعة والتغابن كما سيأتي في مواضعها . وأوثر الأخبار عن { سبح لله ما في السموات وما في الأرض } بفعل الماضي لأن المخبر عنه تسبيح شكر عن نعمة مضت قبل نزول السورة وهي نعمة إخراج أهل النضير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وعن ابن عباس: أنه سماها سورة النضير.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه السورة مدنية باتفاق من أهل العلم وهي سورة بني النضير، وذلك أن رسول الله كان عاهد بني النضير على سلم، وهم يرون أنه لا ترد له راية، فلما جرت هزيمة أحد، ارتابوا وداخلوا قريشا وغدروا، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، تبين له معتقد بني النضير وغدرهم بعهده وموالاتهم للكفرة، فجمع إليهم وحاصرهم، وعاهدهم على أن يجليهم عن أرضهم، فارتحلوا إلى بلاد مختلفة: خيبر والشام وغير ذلك من البلاد.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
ذكر أهل العلم بالتفسير والسير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه، فصلى فيه، ثم أتى بني النضير، فكلمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما، فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم، فقالوا: نفعل، وهمّوا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليُخبرن بما هممتم به، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فنهض سريعا، فتوجه إلى المدينة، فلحقه أصحابه، فقالوا: قمت ولم نشعر؟! فقال: همّت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله محمد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدتي، فلا تساكنوني، وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجّلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا أياما يتجهزون، فأرسل إليهم ابن أبيّ: لا تخرجوا، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وطمع حُيي فيما قال ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمون لتكبيره، وقال: حاربت يهود، ثم سار إليهم في أصحابه، فلما رأوه، قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبي، وحلفاؤهم من غطفان، وحاصرهم رسول الله، وقطع نخلهم، فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة، فمضى بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض سلاحهم وأموالهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
بيان ما دل عليه آخر المجادلة من التنزه عن شوائب النقص بإثبات القدرة الشاملة بدليل شهودي على أنه يغلب هو ورسله. ومن حاده في الأذلين، لأنه قوي عزيز،...، وأدل ما فيها على ذلك تأمل قصة [بني] النضير المعلم بأول الحشر، المؤذن بالحشر الحقيقي بالقدرة عليه بعد إطباق الولي والعدو على الظن أنه لا يكون، فلذا سميت بالحشر وببني النضير، لأنه سبحانه وتعالى حشرهم بقدرته من المدينة الشريفة إلى خيبر والشام والحيرة، ثم حشرهم... وغيرهم من اليهود الحشر الثاني من خيبر إلى الشام، الذي هو آية الحشر الأعظم إلى أرض الحشر لقهر هذا النبي الكريم أهل الكتاب المدعين أنهم أفضل الناس وأنهم مؤيدون بما لهم من الدين الذي أصله قويم بما لوحت إليه الحديد، كما قهر أهل الأوثان الذين هم عالمون بأنهم بدلوا الدين الصحيح فثبت –بظهور دينه على كل دين على حد سواء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نزلت هذه السورة في حادث بني النضير -حي من أحياء اليهود- في السنة الرابعة من الهجرة. تصف كيف وقع؟ ولماذا وقع؟ وما كان في أعقابه من تنظيمات في الجماعة الإسلامية.. ترويها بطريقة القرآن الخاصة، وتعقب على الأحداث والتنظيمات بطريقة القرآن كذلك في تربية تلك الجماعة تربية حية بالأحداث والتوجيهات والتعقيبات.
وقبل أن نستعرض النصوص القرآنية في السورة، نعرض شيئا مما ذكرته الروايات عن ذلك الحادث الذي نزلت السورة بشأنه؛ لنرى ميزة العرض القرآني، وبعد آماده وراء الأحداث التي تتنزل بشأنها النصوص، فتفي بمقتضيات الأحداث، وتمتد وراءها وحولها في مجالات أوسع وأشمل من مقتضيات تلك الأحداث المحدودة بالزمان والمكان.
كانت وقعة بني النضير في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب. ومما يذكر عنها أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ذهب مع عشرة من كبار أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي -رضي الله عنهم- إلى محلة بني النضير، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين بحكم ما كان بينه وبينهم من عهد في أول مقدمه على المدينة. فاستقبله يهود بني النضير بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم، بينما كانوا يدبرون أمرا لاغتيال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومن معه. وكان [صلى الله عليه وسلم] جالسا إلى جدار من بيوتهم. فقال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه. فمن رجل منكم يعلو هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب. فقال: أنا لذلك. فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال. فألهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما يبيت اليهود من غدر. فقام كأنما ليقضي أمرا. فلما غاب استبطأه من معه، فخرجوا من المحلة يسألون عنه، فعلموا أنه دخل المدينة.
وأمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم. وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف -من بني النضير- في هجاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وتأليبه الأعداء عليه. وما قيل من أن كعبا ورهطا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي [صلى الله عليه وسلم] مع قيام ذلك العهد بينهم وبينه. مما جعل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف. فقتله.
فلما كان التبييت للغدر برسول الله في محلة بني النضير لم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم. وفق القاعدة الإسلامية: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين).. فتجهز رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وحاصر محلة بني النضير، وأمهلهم ثلاثة أيام -وقيل عشرة- ليفارقوا جواره ويجلوا عن المحلة على أن يأخذوا أموالهم، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم. ولكن المنافقين في المدينة -وعلى رأسهم عبدالله بن أبي بن سلول رأس النفاق- أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة، وقالوا لهم: أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم. وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم.
وفي هذا يقول الله تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب: لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون. لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون. لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون...).
فتحصن اليهود في الحصون؛ فأمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بقطع نخيلهم والتحريق فيها. فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه: فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ وفي الرد عليهم نزل قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين)..
ولما بلغ الحصار ستا وعشرين ليلة، يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يجليهم ويكف عن دمائهم، كما سبق جلاء بني قينقاع -وقد ذكرنا سببه وظروفه في تفسير سورة الأحزاب في الجزء الحادي والعشرين- على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح. فأجابهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل. فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه فيحمله على ظهر بعيره؛ أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين؛ وكان المسلمون قد هدموا وخربوا بعض الجدران التي اتخذت حصونا في أيام الحصار.
وفي هذا يقول الله في هذه السورة: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب)..
وكان منهم من سار إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وكان من أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحي بن أخطب، ممن ورد ذكرهم بعد ذلك في تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب ووقعة بني قريظة "في سورة الأحزاب " وكان لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر " في سورة الفتح".
وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله وللرسول؛ لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا جمال. فقسمها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما سهل بن حنيف، وأبو دجانة سماك بن خرشة. وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة وتجردوا منه كله لعقيدتهم. وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية عالية، وأخوة صادقة، وإيثار عجيب. فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع الإسلامي، كي يكون للفقراء مال خاص، وكي لا يكون المال متداولا في الأغنياء وحدهم. ولم يعط من الأنصار إلا الفقيرين اللذين يستحقان لفقرهما..
وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم -والراجح أنهم من المنافقين- فقال تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير)..
وقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] للأنصار: " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة. وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة " فقالت الأنصار: بل نقسم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها.
وفي هذا نزل قوله تعالى: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون. والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
فهذا هو الحادث الذي نزلت فيه هذه السورة، وتعلقت به نصوصها، بما في ذلك خاتمة السورة التي يتوجه فيها الخطاب للذين آمنوا ممن شهدوا هذا الحادث وممن يعرفونه بعد ذلك. على طريقة القرآن في تربية النفوس بالأحداث وبالتعقيب عليها، وربطها بالحقائق الكلية الكبيرة..
ثم الإيقاع الأخير في السورة بذكر صفات الله الذي يدعو الذين آمنوا ويخاطبهم بهذا القرآن. وهي صفات ذات فاعلية وأثر في هذا الكون؛ وعلى أساس تصور حقيقتها يقوم الإيمان الواعي المدرك البصير.
وتبدأ السورة وتختتم بتسبيح الله الذي له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم. فيتناسق البدء والختام مع موضوع السورة، ومع دعوة المؤمنين للتقوى والخشوع والتفكر في تدبير الله الحكيم.
والآن نسير مع النصوص القرآنية لنرى كيف تصور الأحداث، وكيف تربي النفوس بهذه الأحداث..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أغراض هذه السورة: وفق الاتفاق على أنها نزلت في شأن بني النضير ولم يعينوا ما هو الغرض الذي نزلت فيه. ويظهر أن المقصد منها حكم أموال بني النضير بعد الانتصار عليهم، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى منها. وقد اشتملت إلى أن ما في السماوات وما في الأرض دال على تنزيه الله، وكون في السماوات والأرض ملكه، وأنه الغالب المدبر...
وعلى ذكر نعمة الله على ما يسر من إجلاء بني النضير مع ما كانوا عليه من المنعة والحصون والعدة. وتلك آية من آيات تأييد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبته على أعدائه. وذكر ما أجراه المسلمون من إتلاف أموال بني النضير وأحكام ذلك في أموالهم وتعيين مستحقيه من المسلمين. وتعظيم شأن المهاجرين والأنصار والذين يجيئون بعدهم من المؤمنين. وكشف دخائل المنافقين ومواعيدهم لبني النضير أن ينصروهم وكيف كذبوا، وأنحى على بني النضير والمنافقين بالجبن وتفرق الكلمة، وتنظير حال تغرير المنافقين لليهود بتغرير الشيطان للذين يكفرون بالله، وتنصله من ذلك يوم القيامة، فكان عاقبة الجميع الخلود في النار. ثم خطاب المؤمنين بالأمر بالتقوى، والحذر من أحوال أصحاب النار، والتذكير بتفاوت حال الفريقين، وبيان عظمة القرآن وجلالته واقتضائه خشوع أهله...
وتخلل ذلك إيماء إلى حكمة شرائع انتقال الأموال بين المسلمين بالوجوه التي نظمها الإسلام، بحيث لا تشق على أصحاب الأموال. والآمر باتباع ما يشرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وختمت بصفات عظيمة من الصفات الإلهية، وأنه يسبح له ما في السماوات والأرض؛ تزكية لحال المؤمنين وتعريضا بالكافرين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يمكن تلخيص موضوعات هذه السورة في ستّة أقسام هي:
الأوّل: من هذه السورة الذي هو آية واحدة فقط يعتبر مقدّمة للأبحاث المختلفة التي وردت في هذه السورة، فتتحدّث الآية عن تسبيح الله الحكيم العليم من قبل الموجودات جميعاً.
الثّاني: الذي يبدأ من الآية الثانية إلى الآية العاشرة، والذي يشمل تسع آيات فإنّه يوضّح قصّة اشتباك المسلمين مع ناقضي العهد من يهود المدينة...
الثّالث: والذي يتكوّن من الآية الحادية عشرة إلى الآية السابعة عشر وفيه يستعرض القرآن قصّة منافقي المدينة مع اليهود والتعاون بينهما.
الرّابع: الذي يتجاوز بضع آيات يشمل مجموعة من التوجيهات والنصائح العامّة لعموم المسلمين، وهي تمثّل استنتاجا للأحداث أعلاه...
الخامس: الذي يشمل آية واحدة فقط وهي الآية الحادية والعشرون فهو عبارة عن وصف بليغ للقرآن الكريم وبيان أثره في تطهير الروح والنفس.
القسم الأخير الذي هو آخر قسم من السورة، ويبدأ من الآية الثانية والعشرين إلى الآية الرابعة والعشرين فيتناول قسماً مهمّاً من أوصاف جلال وجمال الذات الإلهية المقدّسة، وبعض أسمائه الحسنى، وهذه الصفات تكون عوناً للإنسان في طريق معرفة الله سبحانه.
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول: ذكر اللهَ ما في السماوات من الملائكة، وما في الأرض من الخلق {وهو العزيز} في ملكه {الحكيم} في أمره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله جل ثناؤه {سبح لله}: صلى لله وسجد له {ما في السموات وما في الأرض} من خلقه.
{وهو العزيز الحكيم} يقول وهو العزيز في انتقامه ممن انتقم من خلقه على معصيتهم إياه، الحكيم في تدبيره إياهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وهو العزيز الحكيم} العزيز: هو الغالب القاهر، وقيل: هو العزيز حين جعل في كل شيء من خلقه أثر الذل والحاجة.
{الحكيم} له معنيان: معنى الإحكام، ومعنى الحكمة. فأما معنى الإحكام؛ فهو أنه أحكم الأشياء على اختلافها وتضادها حين تشهد له بالوحدانية...
وأما معنى الحكمة، فهو أنه وضع الأشياء مواضعها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قدَّس الله ونزَّهَهُ كُلُّ شيءٍ خَلَقه؛ فكلُّ ما خَلَقَه جَعَلَه على وحدانيته دليلاً، ولِمَنْ أراد أن يَعْرِفَ إلهيتَه طريقاً وسبيلاً. أتقن كلَّ شيءٍ وذلك دليلُ عِلْمِه وحكمته، ورَتَّبَ كُلَّ شيءٍ، وذلك شاهِدٌ على مشيئته وإرادته.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي: منيع الجناب، {الْحَكِيمُ} في قدره وشرعه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بهذه الحقيقة التي وقعت وكانت في الوجود؛ حقيقة تسبيح كل شيء في السماوات وكل شيء في الأرض لله، واتجاهها إليه بالتنزيه والتمجيد.. تفتتح السورة التي تقص قصة إخراج الله للذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وإعطائها للمؤمنين به، المسبحين بحمده، الممجدين لأسمائه الحسنى..
(وهو العزيز الحكيم).. القوي القادر على نصر أوليائه وسحق أعدائه.. الحكيم في تدبيره وتقديره...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح ما في السماوات والأرض لله تعالى تذكيرٌ للمؤمنين بتسبيحهم لله تسبيح شكر على ما أنالهم من فتح بلاد بني النضير، فكأنه قال سبحوا لله كما سَبح له ما في السماوات والأرض. وتعريض بأولئك الذين نزلت السورة فيهم بأنهم أصابهم ما أصابهم لتكبرهم عن تسبيح الله حق تسبيحه بتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ أعرضوا عن النظر في دلائل رسالته أو كابروا في معرفتها.
والقول في لفظ هذه الآية كالقول في نظيرها في أول سورة الحديد، إلا أن التي في أول سورة الحديد فيها: {ما في السماوات والأرض}، وها هنا قال: {ما في السموات وما في الأرض} وعلى هذا المنوال جاءت فواتح سور الصف والجمعة والتغابن كما سيأتي في مواضعها. وأوثر الأخبار عن {سبح لله ما في السموات وما في الأرض} بفعل الماضي لأن المخبر عنه تسبيح شكر عن نعمة مضت قبل نزول السورة وهي نعمة إخراج أهل النضير.
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
إن أصل التسبيح من مادة سبح، والسباحة والتسبيح مشتركان في أصل المادة، فبينهما اشتراك في أصل المعنى، والسباحة في الماء ينجو بها صاحبها من الغرق، وكذلك المسبح لله والمنزه له ينجو من الشرك ويحيا بالذكر والتمجيد لله تعالى.