السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية ، في قول الجميع ، وهي أربع وعشرون آية وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة ، وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفاً .

{ بسم الله } الملك الأعظم الذي لا خلف لميعاده { الرحمن } الذي عمت نعمة إيجاده { الرحيم } الذي خص أهل ودّه بالتوفيق فهم أهل السعادة .

ولما ختمت المجادلة بأنه يعز أهل طاعته ويذل أهل معصيته تنزه عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال تعالى :{ سبح } أي : أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص { لله } الذي أحاط بجميع صفات الكمال { ما في السماوات } أي : كلها { وما في الأرض } أي : كذلك ، وقيل : أن اللام مزيدة ، أي : نزهة وأتى بما تغليباً للأكثر ، وجمع السماء لأنها أجناس .

قيل : بعضها من فضة وبعضها من غير ذلك ، وأفراد الأرض لأنها جنس واحد { وهو } أي : والحال أنه وحده { العزيز } الذي يغلب كل شيء ، ولا يمتنع عليه شيء { الحكيم } الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن ، وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد ، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً ، وإلى بيان ماله من العزة والحكمة سبيلاً .

وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بضمها ، قال المفسرون : نزلت هذه السورة في بني النضير ، وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما غزا بدراً وظهر على المشركين قالوا : هو النبيّ الذي نعته في التوراة لا تردّ له راية ، فلما غزا أحد وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكة ، فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد ، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة ، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه السلام ، وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما عاقد عليه كعب وأبو سفيان ، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة ، فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية يقال لها : زهرة فلما سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا : يا محمد واعية على أثر واعية ، وباكية على أثر باكية ، قال : نعم ، قالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أقرب إلينا من ذلك ، ثم تنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال ، ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ، ولئن خرجتم لنخرجنّ معكم ، فدربوا على الأزفة وحصنوها ، ثم إنهم اجمعوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه أن اخرج في ثلاثين رجلاً من أصحابك ، ويخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعون منك ، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنا كلنا . فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه ، وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض ، قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون من رجال أصحابه كلهم يحب الموت قبله ، ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون رجلاً اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيسمعون منك ، فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك .

فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه ، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها ، وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فسارّه بخبرهم .

فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب ، وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح ، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أنّ لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ، وهي السلاح ، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاء من متاعهم ، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم ما بقي .

وقال الضحاك : على كل ثلاثة نفر بعيراً ووسقاً من طعام . ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين من آل بني الحقيق ، وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة .

فذلك قوله تعالى :{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظنتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } .