وقوله - سبحانه - : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } رد على غروره وتفاخره بعشيرته ، فقد جاء فى الحديث الشريف أن أبا جهل عندما نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، نهره النبى صلى الله عليه وسلم وزجره وأغلظ له القول . . فقال أبو جهل : أتهددني يا محمد وأنا أكثر هذا الوادى ناديا ، فأنزل الله - سبحانه - : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ . سَنَدْعُ الزبانية } .
وأصل النادى : المكان الذى يجتمع فيه الناس للحديث ، ولا يسمى المكان بهذا الاسم إلا إذا كان معدا لهذا الغرض ، ومنه دار الندوة ، وهى دار كان أهل مكة يجتمعون فيها للتشاور فى مختلف أمورهم ، وسمي بذلك لأن الناس يَنْدُون إليه ، أي : يذهبون إليه ، أو ينتدون فيه ، أي : يجتمعون للحديث فيه . يقال : ندا القوم نَدْواً - من باب غزا - إذا اجتمعوا .
والأمر فى قوله - تعالى - : { فَلْيَدْعُ } للتعجيز ، والكلام على حذف مضاف . أي : فليدع هذا الشقى المغرور أهله وعشيرته لإيذاء النبى صلى الله عليه وسلم ، ولمنعه من الصلاة ، إن قدروا على ذلك ، فنحن من جانبنا سندع الزبانية ، وهم الملائكة الغلاظ الموكلون بعقاب هذا المغرور وأمثاله .
ولفظ الزبانية فى كلام العرب : يطلق على رجال الشرطة الذين يزبنون الناس ، أي : يدفعونهم إلى ما يريدون دفعهم إليه بقوة وشدة وغلظة ، جمع زِبْنيَّة ، وأصل اشتقاقه من الزَّبْنِ ، وهو الدفع الشديد ، ومنه قولهم : حرب زبون ، إذا اشتد الدفع والقتال فيها ، وناقة زبون إذا كانت تركل من يحلبها .
والمقصود بهاتين الآيتين ، التهكم بهذا الإِنسان المغرور ، والاستخفاف به وبكل من يستنجد به ، ووعيده بأنه إن استمر فى غروره ونهيه عن الصلاة فسيسلط الله - تعالى - عليه ملائكة غلاظا شدادا . لا قبل له ولا لقومه بهم .
قوله : { فَلْيَدْعُ نادِيَهُ } يقول تعالى ذكره : فليدع أبو جهل أهل مجلسه وأنصاره ، من عشيرته وقومه ، والنادي : هو المجلس .
وإنما قيل ذلك فيما بلغنا ، لأن أبا جهل لما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند المقام ، انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأغلظ له ، فقال أبو جهل : علام يتوعدني محمد وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ؟ فقال الله جلّ ثناؤه : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعا بالنّاصِيَةِ } ، فليدع حينئذٍ ناديه ، فإنه إن دعا ناديه ، دعونا الزبانية . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار ، وقال أهل التأويل . ذكر الاَثار المروية في ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر وحدثنا أبو كرَيب ، قال : حدثنا الحكم بن جميع ، قال : حدثنا عليّ بن مُسْهِر ، جميعا عن داود بن أبي هند ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المَقام ، فمرّ به أبو جهل بن هشام ، فقال : يا محمد ، ألم أنهك عن هذا ؟ وتوعّده ، فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره ، فقال : يا محمد بأيّ شيء تهدّدني ؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا ، فأنزل الله : { فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنْدْعُ الزّبانِيَةَ } قال ابن عباس : لو دعا ناديه ، أخذته زبانية العذاب من ساعته .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، فجاءه أبو جهل ، فنهاه أن يصلي ، فأنزل الله : { أرأَيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدا إذَا صَلّى } . . . إلى قوله : { كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ } فقال : لقد علم أني أكثر هذا الوادي نَاديا ، فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فتكلم بشيء ، قال داود : ولم أحفظه ، فأنزل الله : { فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزّبانِيَةَ } فقال ابن عباس : فوالله لو فعل لأخذته الملائكة من مكانه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن أبيه ، قال : حدثنا نعيم بن أبي هند ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قال أبو جهل : هل يُعَفّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قال : فقيل نعم ، قال : فقال : واللاتِ والعُزّى لئن رأيته يصلي كذلك ، لأطأنّ على رقبته ، لأُعَفّرنّ وجهه في التراب ، قال : فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته ، قال : فما فجأهم منه إلا وهو ينكْص على عَقبيه ، ويتقي بيديه ، قال : فقيل له : مالك ؟ قال : فقال : إن بيني وبينه خَنْدقا من نار ، وهَوْلاً وأجنحة قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَوْ دَنا مِنّي لاخْتَطَفَتْهُ المَلائِكَةُ عُضْوا عُضْوا » قال : وأنزل الله ، لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا : { كَلاّ إنّ الإنْسانَ لَيَطْغَى أنْ رآهُ اسْتَغْنَى إنّ إلى رَبّكَ الرّجْعَى أرأيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدا إذَا صَلّى أرأَيْتَ إنْ كانَ عَلى الهُدَى أوْ أمَرَ بالتّقْوَى أرأَيْتَ إنْ كَذّبَ وَتَوَلّى يعني أبا جهل ألَمْ يَعْلَمْ بِأنّ اللّهَ يَرَى كَلاّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعا بالنّاصِيَةٍ ناصيةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ يدعو قومه سَنَدْعُ الزّبانِيَةَ الملائكة كَلاّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : أخبرنا يونس بن أبي إسحاق ، عن الوليد بن العَيْزَار ، عن ابن عباس ، قال : قال أبو جهل : لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه ، فأنزل الله : { اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ } حتى بلغ هذه الاَية : { لَنَسْفَعا بالنّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزّبانِيَةَ } ، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، فقيل له : ما يمنعك ؟ قال : «قد اسودّ ما بيني وبينه من الكتائب » . . قال ابن عباس : والله لو تحرّك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا زكريا بن عديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : قال أبو جهل : لئن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة ، لآتينه حتى أطأ على عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَوْ فَعَلَ لأَخَذَتْهُ المَلائِكَةُ عِيانا » .
وبالذي قلنا في معنى النادي قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { فَلْيَدْعُ نادِيَهُ } يقول : فليدع ناصره .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { سَنَدْعُ الزّبانِيَةَ } قال : الملائكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل : الزبانية أرجلهم في الأرض ، ورؤوسهم في السماء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن قتادة ، في قوله : { سَنَدْعُ الزّبانِيَةَ } قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ فَعَلَ أبُو جَهْلٍ لأَخَذَتْهُ الزّبانِيَةُ المَلائِكَةُ عِيانا » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { سَنَدْعُ الزّبانِيَةَ } قال : الملائكة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الزبانية ، قال : الملائكة .
روي أنا أبا جهل لعنه الله مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال : ألم أنهك ، فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ؟ فنزلت { سندع الزبانية } ليجروه إلى النار ، وهو في الأصل الشرط ، واحدها زبنية كعفرية من الزبن وهو الدفع ، أو زبني على النسب وأصلها زباني والتاء معوضة عن الياء .
و { الزبانية } ملائكة العذاب واحدهم " زبنية " ، وقال الكسائي : " زبني " ، وقال عيسى بن عمر الأخفش : " زابن " ، وهم الذين يدفعون الناس في النار ، والزبن : الدفع ، ومنه " حرب زبون " أي تدفع الناس في نفسها ، ومنه قول الشاعر :
ومستعجب مما يرى من أناتنا *** ولو زبنته الحرب لم يترمرم{[11913]}
ومنه قول عتبة بن أبي سفيان : " وقد زبنتنا الحرب وزبناها ، فنحن بنوها وهي أمنا " ، ومنه قول الشاعر :
عدتني عن زيارتك العوادي *** وحالت بيننا حرب زبون{[11914]}
وحذفت الواو من [ سندع ] في خط المصحف اختصارا وتخفيفا ، والمعنى : سندعو الزبانية لعذاب هذا الذي يدعو ناديه ، وقرأ ابن مسعود : ( فليدع إلى ناديه ) .
وقوله : { سندع الزبانية } جواب الأمر التعجيزي ، أي فإن دعا ناديَه دعوْنا لهم الزبانية ففعل { سندع } مجزوم في جواب الأمر ، ولذلك كتب في المصحف بدون واو وحرف الاستقبال لتأكيد الفعل .
والزبانية : بفتح الزاي وتخفيف التحتية جمع زباني بفتح الزاي وبتحتية مشددة ، أو جمع زِبْنيَة بكسر الزاي فموحدة ساكنة فنون مكسورة فتحتية مخففة ، أو جمع زِبْنِيّ بكسر فسكون فتحتية مشددة . وقيل : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل أبابيل وعَبَاديد . وهذا الاسم مشتق من الزبن وهو الدفع بشِدة يقال : ناقة زَبُون إذا كانت تركُل من يحلبُها ، وحرب زبون يدفع بعضها بعضاً بتكرر القتال .
فالزبانية الذين يزبنون الناس ، أي يدفعونهم بشدة . والمراد بهم ملائكة العذاب ويطلق الزبانية على أعوان الشُّرطة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فليدع أبو جهل أهل مجلسه وأنصاره ، من عشيرته وقومه ، والنادي : هو المجلس . وإنما قيل ذلك فيما بلغنا ، لأن أبا جهل لما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند المقام ، انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأغلظ له ، فقال أبو جهل : علام يتوعدني محمد، وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ؟ فقال الله جلّ ثناؤه : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعا بالنّاصِيَةِ } ، فليدع حينئذٍ ناديه ، فإنه إن دعا ناديه ، دعونا الزبانية . ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والزبانية هم الملائكة من خزنة جهنم ، وهم أعظم الملائكة خلقاً وأشدهم بطشاً ، والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه ،
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
( سندع ) نحن ( الزبانية ) يعني الملائكة الموكلين بالنار ...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
يعني عندنا من هم أعظم من نادي هذا الرجل وهم الزبانية ملائكة النار ، وقد وصف الله ملائكة النار بأنهم غلاظ شداد ، غلاظ في الطباع ، شداد في القوة
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
( سندع الزبانية ) ليعلم هذا الجاهل الغافل أنّه عاجز عن فعل أي شيء ، وإنّه في قبضة خزنة جهنم كقشة في مهبّ الريح ...و«النادي » في الآية يقصد به القوم الذين يجتمعون في النادي . وأرادت منه الآية اُولئك الذين يستند إليهم أمثال أبي جهل من أهل وعشير وأصحاب . و«الزبانية »..... هنا بمعنى ملائكة العذاب وخزنة جهنم .