القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن حججه عليكم أيها القوم تقديره الساعات والأوقات ، ومخالفته بين الليل والنهار ، فجعل الليل لكم سكنا تسكنون فيه ، وتنامون فيه ، وجعل النهار مضيئا لتصرّفكم في معايشكم والتماسكم فيه من رزق بكم إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يقول تعالى ذكره : إن في فعل الله ذلك كذلك ، لعبرا وذكرى وأدلة على أن فاعل ذلك لا يُعجزه شيء أراده لقوم يسمعون مواعظ الله ، فيتعظون بها ، ويعتبرون فيفهمون حجج الله عليهم .
ذكر تعالى النوم { بالليل والنهار } وعرف النوم إنما هو بالليل وحده ، ثم ذكر الابتغاء { من فضله } كأنه فيهما وإنما معنى ذلك أنه عم بالليل والنهار فسمى الزمان وقصد من ذلك تعديد آية النوم وتعديد آية ابتغاء الفضل فإنهما آيتان تكونان في ليل ونهار ، والعرف يجيز{[9297]} كل واحدة من النعمتين أي محلها من الأغلب ، وقال بعض المفسرين في الكلام تقديم وتأخير{[9298]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف وإنما أراد أن يرتب النوم لليل والابتغاء للنهار ولفظ الآية لا يعطي ما أراد .
هذه آية رابعة وهي كائنة في أعراض من أعراض الناس لا يخلو عنها أحد من أفرادهم ، إلا أنها أعراض مفارقة غير ملازمة فكانت دون الأعراض التي أقيمت عليها الآية الثالثة ولذلك ذكرت هذه الآية بعدها .
وحالة النوم حالة عجيبة من أحوال الإنسان والحيوان إذ جعل الله له في نظام أعصاب دماغه قانوناً يستردّ به قوة مجموعه العصَبي بعد أن يعتريه فشل الإعياء من إعمال عقله وجسده فيعتريه شبه موت يخدر إدراكه ولا يعطل حركات أعضائه الرئيسية ولكنه يثبطها حتى يبلغ من الزمن مقداراً كافياً لاسترجاع قوته فيفيق من نومته وتعود إليه حياته كاملة ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى { لا تأخذه سنة ولا نوم } في سورة البقرة ( 255 ) . والمنَام مصدر ميمي للنوم أو هو اسم مصدر .
وقوله { بالليل والنهار } متعلق ب { منامكم . } والباء للظرفية بمعنى ( في ) فالناس ينامون بالليل ومنهم من ينام بالنهار في القائلة وبخاصة أهل الأعمال المضنية إذا استراحوا منها في منتصف النهار خصوصاً في البلاد الحارة أو في فصل الحر .
والابتغاء من فضل الله : طلب الرزق بالعمل لأن فضل الله الرزق ، وجعل هذا كناية عن الهبوب إلى العمل لأن الابتغاء يستلزم الهبوب من النوم ، وذلك آية أخرى لأنه نشاط القوة بعد أن خارت وفشلت . ولكون ابتغاء الرزق من خصائص النهار أطلق هنا فلم يقيد بالليل والنهار . ولك أن تجعل عدم تقييده بمثل ما قيد به { منامكم } للاستغناء بدلالة القيد الذي قبله بتقدير : وابتغاؤكم من فضله فيهما ، وقد تكلف صاحب « الكشاف » فجعل الكلام من قبيل اللف والنشر ؛ على أن اللف وقع فيه تفريق ، ووجَّهه محشيِّه القزويني بأن التقديم للاهتمام بآية الليل والنهار .
وقد جعلت دلالات المنام والابتغاء من فضل الله { لقوم يسمعون لوجهين : أحدهما : أن هذين حالتان متعاورتان على الناس قد اعتادوهما فقلَّ من يتدبر في دلالتهما على دقيق صنع الله تعالى ؛ فمعظم الناس في حاجة إلى من يوقفهم على هذه الدلالة ويرشدهم إليها . وثانيهما : أن في ما يسمعه الناس من أحوال النوم ما هو أشد دلالة على عظيم صنع الله تعالى مما يشعر به صاحبُ النوم من أحوال نومه ، لأن النائم لا يعرف من نومه إلا الاستعداد له وإلا أنه حين يهُبّ من نومه يعلم أنه كان نائماً ؛ فأما حالة النائم في حين نومه ومقدار تنبهه لمن يوقظه ، وشعوره بالأصوات التي تقع بقربه ، والأضواء التي تنتشر على بصره فتنبهه أو لا تنبهه ، كل ذلك لا يتلقاه النائم إلا بطريق الخبر من الذين يكونون أيقاظاً في وقت نومه . فطريق العلم بتفاصيل أحوال النائمين واختلافها السمع ، وقد يشاهد المرء حال نوم غيره إلا أن عبرته بنومه الخاص به أشد ، فطريق السمع هو أعم الطرق لمعرفة تفاصيل أحوال النوم ، فلذلك قيل { لقوم يسمعون . } وأيضاً لأن النوم يحول دون الشعور بالمسموعات بادىء ذي بدء قبل أن يحول دون الشعور بالمبصرات .
وأجريت صفة { يسمعون } على { قوم } للإيماء إلى أن السمع متمكّن منهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) . ووجه جعل ذلك آيات لما ينطوي عليه من تعدد الدلالات بتعدد المستدلين وتولد دقائق تلك الآية بعضها عن بعض كما تقدم آنفاً .
ومعنى اللام في قوله { لقوم يسمعون } كما تقدم في معناه عند قوله { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } [ الروم : 21 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.