السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ مَنَامُكُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبۡتِغَآؤُكُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ} (23)

ولما ذكر تعالى بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة في النهار طلباً للرزق كما قال تعالى : { ومن آياته } الدالة على القدرة والعلم { منامكم } أي : نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعاً { بالليل والنهار } قيلولة { وابتغاؤكم من فضله } أي : منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية ، وطلب معاشكم فيهما فإن كثيراً ما يكسب الإنسان بالليل ، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار خلف ، وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين وهما الواوان إشعاراً بأنّ كلاًّ من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة ، ويؤيده آيات أخر كقوله تعالى { وجعلنا الليل لباساً ( 10 ) وجعلنا النهار معاشاً } ( النبأ : 10 11 ) وقوله تعالى : { وجعلنا آية النهار مبصرة } ( الإسراء : 12 ) ويكون التقدير هكذا : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله . وأخر الابتغاء وقرنه في اللفظ بالفضل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل من فضل ربه . ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع منها قوله تعالى { فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } ( الجمعة : 10 ) وقوله تعالى { ولتبتغوا من فضله } .

تنبيه : قدم الله تعالى المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر لأنّ الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة ، فلا يبتغي إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل { إن في ذلك } أي : الأمر العظيم العلي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما ، والجد في الابتغاء بعد المفارقة في التحصيل { لآيات } عديدة على القدرة والعلم لا سيما البعث { لقوم يسمعون } أي : من الدعاة والنصاح سماع تفهم واستبصار فإنّ الحكمة فيه ظاهرة .

تنبيه : قال هنا { آيات لقوم يسمعون } وقال تعالى من قبل { لقوم يتفكرون } وقال تعالى { للعالمين } لأنّ المنام بالليل والابتغاء يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله تعالى ، فلم يقل آيات للعالمين ، ولأن الأمرين الأولين وهما اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم ، والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة ، فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عليه ، وأما قوله تعالى { لقوم يتفكرون } فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر . ومنها ما يكفي فيه مجرّد الفكرة ، ومنها ما يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد ، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى أمثال حسية كالأشكال الهندسية لأنّ خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة ، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية ، وأمّا المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد معين لفكره فقال { لقوم يسمعون } ويجعلون بالهم من كلام المرشد .