قوله تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب } ، قرأ عاصم ويعقوب { نزل } بفتح النول والزاي ، أي : نزل الله ، وقرأ الآخرون { نزل } بضم النون وكسر الزاي ، أي : عليكم يا معشر المسلمين .
قوله تعالى : { أن إذا سمعتم آيات الله } يعني القرآن .
قوله تعالى : { يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم } ، يعني : مع الذين يستهزئون . قوله تعالى : { حتى يخوضوا في حديث غيره } ، أي : يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وهذا إشارة إلى ما أنزل الله في سورة الأنعام { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } [ الأنعام :68 ] . وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين ، وكل مبتدع إلى يوم القيامة .
قوله تعالى : { إنكم إذا مثلهم } ، أي : إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ورضيتم به فأنتم كفار مثلهم ، وإن خاضوا في حديث غيره فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة ، وقال الحسن : لا يجوز القعود معهم وإن خاضوا في حديث غيره ، لقوله تعالى : { وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } ، والأكثرون على الأول ، وآية الأنعام مكية وهذه مدنية ، والمتأخر أولى .
قوله تعالى : { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } .
ثم نهى - سبحانه - المسلمين عن مخالطة الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها فقال : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } .
أى : وقد نزل اله عليكم - أيها المؤمنون - فى كتابه المحكم أنكم إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الكافرون ، ويستهزئ بهم المستهزئون ، فعليكم فى هذه الأحوال أن تتركوا مجالسهم ، وأن تعرضوا عنهم حتى يتكلموا فى حديث آخر سوى الكفر بآيات الله والاستهزاء بها .
قال صاحب الكشاف : والمراد بالمنزل عليهم فى الكتاب : هو ما نزل عليهم فى مكة من قوله - تعالى - : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } وذلك أن المشركين كانوا يخوضون فى ذكر القرآن فى مجالسهم فيستهزئون به ، فنهى - سبحانه - المسلمين عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه .
وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين ، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا - قبل ذلك - عن مجالسة المشركين بمكة .
وأن فى قوله { إِذَا سَمِعْتُمْ } تفسيرية ، لأن { نَزَّلَ } تضمن معنى القول دون حروفه . وجعلها بعضهم مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أى أنه إذا سمعتم . وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أى أنكم إذا سمعتم ، وخبرها جملة الشرط والجزاء .
وقوله { يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } جملتان فى موضع الحال من الآيات .
وأضاف - سبحانه - الآيات إليه ، لتهويل أمرها ، والتشنيع على من كفر أو استهزأ بها . والضمير فى قوله { مَعَهُمْ } يعود إلى الكافرين والمستهزئين المدلول عليهم بقوله : { يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ } فكأنه قيل : لا تقعدوا - أيها المؤمنون - مع الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها .
والضمير فى قوله { غَيْرِهِ } يعود إلى تحدثهم بالكفر والاستهزاء أى : حتى يخوضوا فى حديث سوى حديثهم المتعلق بالكفر بآيات الله والاستهزاء بها .
وقوله { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } تعليل للنهى عن القعود معهم .
أى : أيها المؤمنون - إن استمعتم إلى الكفار والمنافقين وهم يعلنون الكفر بآيات الله - تالى - والاستهزاء بها ، كنتم معهم فى الاستهانة بآيات الله وشركاء لهم فى آثامهم ، لأن الراضى بالكفر بآيات الله وبالاستهزاء بها . يكون بعيدا عن حقيقة الإِيمان ، ومستحقا للعقوبة من الله - تعالى - .
قال صاحب الكشاف ، فإن قلت : لهم يكونوا مثلهم بالمجالسة فى وقت الخوض ؟ قلت : لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين . والراضى بالكفر كافر فإن قلت : فهلا كان المسلمون بمكة - حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين - منافقين ؟ قلت : لأنهم كانوا لا ينكرون لعجزهم . وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم فكان ترك الإِنكار لرضاهم .
وقال القرطبى : فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصى إذا ظهر منهم منكر ، لأن من لم يتجنبهم فقد رضى فعلهم ، والرضا بالكفر كفر . قال الله - تعالى - { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } . فكل من جلس فى مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم فى الوزر سواء . وينبغى أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها ، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغى أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية .
وقد روى عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر ، فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم . فحمل عليه الأدب وقرأ عليه هذه الآية { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } أى أن الرضا بالمعصية معصية . ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضى بعقوبة العاصى حتى يهكلوا جميعا . وهذه المماثلة ليست فى جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالوعيد الشديد للكافرين والمنافقين فقال : { إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } لأن هذين الفريقين كما اجتمعوا فى الدنيا على الكفر بآيات الله والاستهزاء بها والتواصى بالشرور والآثام ، فسيجمعهم الله جميعاً فى جهنم يوم القيامة ، بسبب ما قدمت أيدهم من جرائم ومنكرات .
فأنت ترى أن الآية الكريمة تنهى المؤمنين عن مجالسة الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها ، لأن أول الشر سماع الشر ، ولأن أول مراتب ضعف الإِيمان أن تفتر حماسة المؤمن فى الدفاع عن الحق الذى آمن به .
ومن علامات المؤمن الصادق أنه متى سمع استهزاء بتعاليم دينه فعليه إما أن ينبرى للدفاع عن هذه التعاليم بشجاعة وحماسة وقوله تدمع الباطل وأهله وتفضح كل معمتد أثيم . . وإما أن يقاطع المحالس التى لا يحترم فيها دين الله . أما السكوت عن ذلك باسم التغاضى أو التسامح أو المرونة . أو بغير ذلك من الأسماء ، فهذا أو مراتب النفاق الذى يؤدى إلى خزى الدنيا وعذاب الآخرة .
وقوله تعالى { وقد نزل عليكم } مخاطبة لجميع من أظهر الإيمان من محقق ومنافق ، لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله تعالى ، والإشارة بهذه الآية إلى قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره }{[4333]} ، إلى نحو هذا من الآيات ، وقرأ جمهور الناس «نُزِّل عليكم » بضم النون وكسر الزاي المشددة قال الطبري : وقرأ بعض الكوفيين «نزّل » بفتح النون والزاي المشددة على معنى نزل الله ، وقرأ أبو حيوة وحميد «نَزل » بفتح النون والزاي خفيفة ، وقرأ إبراهيم النخعي «أنزل » بألف على بناء الفعل للمفعول ، و { الكتاب } في هذا الموضع القرآن{[4334]} .
وفي هذه الآية دليل قوي على وجوب تجنب أهل البدع وأهل المعاصي ، وأن لا يجالسوا ، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوماً يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم فحمل عليه الأدب ، وقرأ هذه الآية { إنكم إذاً مثلهم }{[4335]} وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة ، وهذا المعنى كقول الشاعر : [ الطويل ]
عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ . . . فَكُلُّ قَرينٍ بالمُقَارِنِ يَقْتدِي
ثم توعد تعالى المنافقين والكافرين بجمعهم في جهنم ، فتأكد بذلك النهي والحذر من مجالسهم وخلطتهم .