التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (140)

ثم نهى - سبحانه - المسلمين عن مخالطة الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها فقال : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } .

أى : وقد نزل اله عليكم - أيها المؤمنون - فى كتابه المحكم أنكم إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الكافرون ، ويستهزئ بهم المستهزئون ، فعليكم فى هذه الأحوال أن تتركوا مجالسهم ، وأن تعرضوا عنهم حتى يتكلموا فى حديث آخر سوى الكفر بآيات الله والاستهزاء بها .

قال صاحب الكشاف : والمراد بالمنزل عليهم فى الكتاب : هو ما نزل عليهم فى مكة من قوله - تعالى - : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } وذلك أن المشركين كانوا يخوضون فى ذكر القرآن فى مجالسهم فيستهزئون به ، فنهى - سبحانه - المسلمين عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه .

وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين ، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا - قبل ذلك - عن مجالسة المشركين بمكة .

وأن فى قوله { إِذَا سَمِعْتُمْ } تفسيرية ، لأن { نَزَّلَ } تضمن معنى القول دون حروفه . وجعلها بعضهم مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أى أنه إذا سمعتم . وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أى أنكم إذا سمعتم ، وخبرها جملة الشرط والجزاء .

وقوله { يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } جملتان فى موضع الحال من الآيات .

وأضاف - سبحانه - الآيات إليه ، لتهويل أمرها ، والتشنيع على من كفر أو استهزأ بها . والضمير فى قوله { مَعَهُمْ } يعود إلى الكافرين والمستهزئين المدلول عليهم بقوله : { يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ } فكأنه قيل : لا تقعدوا - أيها المؤمنون - مع الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها .

والضمير فى قوله { غَيْرِهِ } يعود إلى تحدثهم بالكفر والاستهزاء أى : حتى يخوضوا فى حديث سوى حديثهم المتعلق بالكفر بآيات الله والاستهزاء بها .

وقوله { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } تعليل للنهى عن القعود معهم .

أى : أيها المؤمنون - إن استمعتم إلى الكفار والمنافقين وهم يعلنون الكفر بآيات الله - تالى - والاستهزاء بها ، كنتم معهم فى الاستهانة بآيات الله وشركاء لهم فى آثامهم ، لأن الراضى بالكفر بآيات الله وبالاستهزاء بها . يكون بعيدا عن حقيقة الإِيمان ، ومستحقا للعقوبة من الله - تعالى - .

قال صاحب الكشاف ، فإن قلت : لهم يكونوا مثلهم بالمجالسة فى وقت الخوض ؟ قلت : لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين . والراضى بالكفر كافر فإن قلت : فهلا كان المسلمون بمكة - حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين - منافقين ؟ قلت : لأنهم كانوا لا ينكرون لعجزهم . وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم فكان ترك الإِنكار لرضاهم .

وقال القرطبى : فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصى إذا ظهر منهم منكر ، لأن من لم يتجنبهم فقد رضى فعلهم ، والرضا بالكفر كفر . قال الله - تعالى - { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } . فكل من جلس فى مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم فى الوزر سواء . وينبغى أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها ، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغى أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية .

وقد روى عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر ، فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم . فحمل عليه الأدب وقرأ عليه هذه الآية { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } أى أن الرضا بالمعصية معصية . ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضى بعقوبة العاصى حتى يهكلوا جميعا . وهذه المماثلة ليست فى جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالوعيد الشديد للكافرين والمنافقين فقال : { إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } لأن هذين الفريقين كما اجتمعوا فى الدنيا على الكفر بآيات الله والاستهزاء بها والتواصى بالشرور والآثام ، فسيجمعهم الله جميعاً فى جهنم يوم القيامة ، بسبب ما قدمت أيدهم من جرائم ومنكرات .

فأنت ترى أن الآية الكريمة تنهى المؤمنين عن مجالسة الكافرين بآيات الله والمستهزئين بها ، لأن أول الشر سماع الشر ، ولأن أول مراتب ضعف الإِيمان أن تفتر حماسة المؤمن فى الدفاع عن الحق الذى آمن به .

ومن علامات المؤمن الصادق أنه متى سمع استهزاء بتعاليم دينه فعليه إما أن ينبرى للدفاع عن هذه التعاليم بشجاعة وحماسة وقوله تدمع الباطل وأهله وتفضح كل معمتد أثيم . . وإما أن يقاطع المحالس التى لا يحترم فيها دين الله . أما السكوت عن ذلك باسم التغاضى أو التسامح أو المرونة . أو بغير ذلك من الأسماء ، فهذا أو مراتب النفاق الذى يؤدى إلى خزى الدنيا وعذاب الآخرة .