التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (140)

قوله تعالى : ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) ذلك قرار رباني مفروض على المؤمنين ، وهو أن يتجنبوا مجلسا يجتمع فيه الكافرون ليسخروا فيه من كلام الله . وقد ورد أن الآية نزلت في بعض المنافقين كانوا يحضرون مجالس يديرها فريق من الأحبار اليهود ، فكانوا يتناولون فيها آيات الله بالطعن الرخيص على نحو من السخرية والاستهزاء .

وقوله : ( أن إذا سمعتم آيات الله ) معناه : أنه إذا سمعتم . . ، ليكون الضمير المتصل اسم أن ، وهي هنا مخففة . ولا ينحصر مدلول الآية في مثل هذا السبب المذكور لكن مدلولها ينسحب ليشمل كل حادثة تمتهن فيها كلمات الله أو كتابه الحكيم . وأي امتهانه من هذا القبيل لهو عين الكفر الصراح الذي لا يحتمل وجها آخر ، ولا يجرؤ على النيل من كلام الله بالطعن أو السخرية أو الاستهزاء أو التجريح أو الغمز أو التعييب بشيء من تحقير أو زراية إلا معاند كافر أو منافق جحود يخفي في نفسه الكفر .

وقوله : ( فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) ذلك نهي واضح عن القعود مع هؤلاء الكفرة في مجالس السوء حيث يقع التطاول الظالم على كلام الله بالقدح أو الزراية والاستخفاف . على أن القاعدين في مثل هذه المجالس يختلف في شأنهم الحكم بالنظر للمواقف التي يكون عليها هؤلاء القاعدون . فإذا كان القاعد مستمعا لألسنة السوء وهي تنطق بالكفر وتتناول آيات الله بالتحقير والاستخفاف ، دون أن يردّ عليهم طعوناتهم وأباطيلهم ودون أن يسفّه فيهم الأحلام الفاسدة والمفترية لينافح بذلك عن دين الله فإنه إذن مثلهم . وهو مثلهم من حيث المعنى غير أنه من حيث الحكم والصورة يكون منافقا ، ومعلوم أن الكافرين والمنافقين جميعا في النار .

ذلك هو شأن الذي يقعد في مجالس الكفرة وهم يسخرون من كتاب الله وهو ساكت راض يحمل في نفسه الموافقة بالإقرار بما يقال من كذب وخسة وتخريص . وهو لا يعبأ بما يسمعه من اجترار لئيم تزدرده حناجر الكافرين والمارقين عن الإسلام إذ يتناولونه بالشتائم والقبائح من القول المهين والتجريح المسف . فلا جرم أن يبوء القاعدة في هذه المجالس بالكفر لرضاه بما شاهد وسمع من غير أن يختلج فيه القلب اختلاج الغاضب الغيور على دين الله أن تنتهك حرمته .

وإذا كان الحاضر لمثل هذه المجالس يعلم في نفسه القدرة على الرد على ما يساق من افتراء وتخريص ، والتصدي لحملات الكذب والتشويه التي تثار في وجه الإسلام أو كتاب الله الحكيم ، فقد بات الرد في حقه أو التصدي واجبا ؛ لأن ذلك ضرب من ضروب الجهاد الذي تنتشر بموجبه كلمة هذا الدين الحنيف أو ترتد عنه أقوال السوء والافتراء والأباطيل التي يثيرها أعداء القرآن في كل زمان .

ويمكن أن يقاس على ذلك حضور مجالس الفسق والعصيان التي تجري فيها المعاصي والموبقات من خمر وقمار ولهو ومفاسد أخرى . ولا ريب أن ينسحب الحكم بالحظر كما بينّاه آنفا على مثل هذه الحالة أيضا . فإن القعود مع العصاة والفسقة وهم يقارفون ألوان الحرام يعتبر حراما ؛ وذلك لأمرين :

أحدهما : أن السكوت على ما يقع من معصية حال حضورها دليل الموافقة والرضا ، وهو فيه من الإقرار والقبول ما ينافي عقيدة المسلم القاضية بالغضب والانفعال والنكير في مثل هذه المواقف . وشأن المؤمن في هذه الحال أن يكون ناهيا عن المنكر وإن احتمل في ذلك أذى وإعناتا .

ثانيهما : أن القعود في مثل هذه الجلسات التي تقع فيها المعاصي لهي مظنّة الغواية والفتنة بما يوشك أن يغري القاعد بالمشاركة في المعصية نفسها ، أو أن القعود نفسه مدعاة تفضي للسقوط في المعصية ، فهو إذا ما قعد فإن بواعث السقوط في المحظور تجذبه نجوه جذبا . وعلى ذلك فإن القعود في مجلس المعصية حرام وذلك من باب سد الذرائع ، وقد ورد في مثل هذا المعنى عن النبي ( ص ) : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " .

قوله : ( حتى يخوضوا في حديث غيره ) إذا أقلع الجالسون عن الخوض في آيات الله وانصرفوا إلى حديث آخر فلا على المؤمن بعد ذلك أن يجالسهم عسى أن يكون في مجالسته لهم ما يؤثر فيهم بإسماعهم أخبار العقيدة والإسلام وترغيبهم في الاحتكام إلى الشريعة الكريمة الغراء التي تأتي بالخير وتباعد بين الإنسان وكل ظواهر الضر والشر .

وقوله : ( إنكم إذا مثلهم ) إذا حضر أحد مجلس الكافرين وهم يفترون على دين الله وكتابه الحكيم فإنه وإياهم في الحكم سواء مادام يشهد ذلك في سكوت ورضى . أو أنه شريك في الإثم ؛ لأنه شهد المعصية أو الكفر وهو ساكت فقد رضي بما وقع . والرضا بذلك إثم وهو صنو الفعل المحرّم نفسه . وقد كان عليه أصلا أن يغادر هذا المجلس فلا يقعد مع الكافرين الخائضين في آيات الله إلا أن يجد في نفسه القدرة على التصدي للظالمين الخراصين فيرد مقالاتهم وافتراءاتهم بالحجة والمنطق المؤثر السليم .

قوله : ( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) هؤلاء الذين يحضرون مجالس الكافرين وهم يفترون على الإسلام والقرآن الحكيم من غير تصد لهم أو ردّ عليهم فيما يقولون أو يهذون من سخرية فإنهم منافقون ولهم من العذاب ما للكافرين . وهو والكافرون يتقحمون في النار جميعا بما قارفوا من خوض في آيات الله بالتجريح والسخرية أو بما أظهروا من نفاق ينطوي على كفر مستور{[844]} .


[844]:- روح المعاني جـ 5 ص 172 ، 173 والكشاف جـ 1 ص 572.