معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (6)

{ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس } محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، { فتمنوا الموت } فادعوا بالموت على أنفسهم ، { إن كنتم صادقين } أنكم أبناء الله وأحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (6)

ثم أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدى اليهود ، وأن يرد على مزاعمهم ردا يخرس ألسنتهم ، ويكشف عن أكاذيبهم . . . فقال - سبحانه - : { قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .

قال الآلوسى : وأمر - الله - أن يقول لهم ذلك ، إظهارا لكذبهم ، فإنهم كانوا يقولون : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } ويدعون أن الآخرة خالصة لهم عند الله .

وروى أنه لما ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب يهود المدينة إلى يهود خيبر : إن اتبعتم محمدا أطعناه ، وإن خالفتموه خالفناه . فقالوا - أى : يهود خيبر - : " نحن أبناء خليل الرحمن ، ومنا عزير ابن الله ، ومنا الأنبياء ومتى كانت النبوة فى العرب ؟ نحن أحق بها من محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولا سبيل إلى اتباعه ، فنزلت هذه الآيات . . .

والمقصود بالذين هادوا ، أى : الذين ادعو أنهم على الديانة اليهودية ، يقال : هاد فلان وتَهَوَّدَ .

إذا دخل فى اليهودية ، نسبة إلى يهوذا أحد أبناء يعقوب - عليه السلام - ، أو سموا بذلك حين تابوا عن عبادة العجل ، من هادَ يهوَدُ هَوْدًا بمعنى تاب ، ومنه قوله - تعالى - : { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ . . } أى : تبنا إليك .

ومعنى ، أولياء الله . . . مقربين منه ، كرماء عليه ، لهم منزلة خاصة عنده - تعالى - .

وقوله : { فَتَمَنَّوُاْ الموت . . } جواب الشرط ، والتمنى معناه : ارتياح النفس ، ورغبتها القوية فى الحصول على الشىء .

ويستعمل التمنى فى المعنى القائم بالقلب ، بأن تتطلع نفس الشخص إلى الحصول على الشىء . كما يستعمل عن طريق النطق باللسان ، بأن يقول الإنسان بلسانه ، ليتنى أحصل على كذا .

وهذا المعنى الثانى هو المراد هنا ، لأن المعنى الكائن فى القلب لا يعلمه أحد سوى الله - تعالى - .

ومعنى الآية الكريمة : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الزاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم أولياء الله - تعالى - المقربون إليه من دون سائر خلقه . . . قل لهم على سبيل التحدى والتعجيز والتبكيت - إن كان الأمر كما زعمتم ، فاذكروا أمام الناس بألسنتكم لفظا ، يدل على أنكم تحبون الموت وترغبون فيه ، كلى تظفروا بعد الموت بالمحبة الكاملة من الله ، ولكى تنتقلوا من شقاء الدنيا ومتاعبها إلى النعيم الخالص بعد موتكم .

وجواب الشرط فى قوله : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه .

أى : إن كنتم صادقين فى دعواكم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت .

وافتتحت الآية الكريمة بلفظ { قُلْ } للاهتمام بشأن التحدى من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم ، ولبيان أنه أمر من الله - تعالى - وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - سوى التنفيذ .

وجىء بإن الشرطية المفيدة للشك ، مع أنهم قد زعموا أنهم أولياء لله فعلا ، للإشعار بأن زعمهم هذا وإن كانوا قد كرروا النطق والتباهى به . . إلا أنه بمنزلة الشىء الذى تلوكه الألسنة ، دون أن يكون له أساس من الواقع ، فهو لوضوح بطلانه صار بمنزلة الشىء الذى يفترض وقوعه افتراضا على سبيل التوبيخ لهم .

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { قُلْ ياأيها الذين هادوا } أى : تهودوا { إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ } أى : أحباء لله ، ولم يضف - سبحانه - لفظ أولياء إليه ، كما فى قوله : { ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ . . } ليؤذن بالفرق بين مدعى الولاية ، ومن يخصه - تعالى - بها .

وقوله : { مِن دُونِ الناس . . } حال من الضمير الراجع إلى اسم { إِن } أى : متجاوزين عن الناس .

{ فَتَمَنَّوُاْ الموت } أى : فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة . فإن من أين أنه من أهل الجنة أحب أن يخلص إليها من هذه الدنيا التى هى دار كدر وتعب .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (6)

قل يا أيها الذين هادوا تهودوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس إذ كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه فتمنوا الموت فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة إن كنتم صادقين في زعمكم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (6)

وقوله تعالى : { قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم } الآية ، روي أنها نزلت بسبب أن يهود المدينة لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبوا يهود خيبر في أمره ، وذكروا لهم نبوته ، وقالوا : إن رأيتم اتباعه أطعناكم وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم ، فجاءهم جواب أهل خيبر يقولون : نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن ، وأبناء عُزيْر ابن الله ومنا الأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب ، نحن أحق بالنبوة من محمد ، ولا سبيل إلى اتباعه ، فنزلت الآية بمعنى : أنكم إذا كنتم من الله تعالى بهذه المنزلة فقربه وفراق هذه الحياة الحسية أحب إليكم { فتمنوا الموت } إن كنتم تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (6)

أعقب تمثيل حال جهلهم بالتوراة بذكر زعم من آثار جهلهم بها إبطالاً لمفخرة مزعومة عندهم أنهم أولياء الله وبقية الناس ليسوا مثلهم . وذلك أصل كانوا يجعلونه حجة على أن شؤونهم أفضل من شؤون غيرهم . ومن ذلك أنهم كانوا يفتخرون بأن الله جعل لهم السبت أفضل أيام الأسبوع وأنه ليس للأميين مثله فلما جعل الله الجمعة للمسلمين اغتاظوا ، وفي « الكشاف » « افتخر اليهود بالسبت وأنه للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة » .

وافتتح بفعل { قل } للاهتمام .

و { الذين هادوا } : هم الذين كانوا يهوداً ، وتقدم وجه تسمية اليهود يهوداً عند قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } في سورة [ البقرة : 62 ] . ويجوز أن يكون هادوا } بمعنى تابوا لقول موسى عليه السّلام بعد أن أخذتهم الرجفة : { إنا هدنا إليك } كما تقدم في سورة [ الأعراف : 156 ] . وأشهر وصف بني إسرائيل في القرآن بأنهم هود جمع هائد مثل قعود جمع قاعد . وأصل هود هُوُود وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علماً بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به هنا بهذا الاعتبار لأن المقام ليس مقام ثناء عليهم أو هو تهكم .

وجيء { بإن } الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط مع أن الشرط هنا محقق الوقوع إذ قد اشتهروا بهذا الزعم وحكاه القرآن عنهم في سورة [ العقود : 18 ] : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } للإِشارة إلى أن زعمهم هذا لما كان باطلاً بالدلائل كان بمنزلة الشيء الذي يفرض وقوعه كما يفرض المستبعد وكأنه ليس واقعاً على طريقة قوله تعالى : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين } [ الزخرف : 5 ] ويفيد ذلك توبيخاً بطريق الكناية .

والمعنى : إن كنتم صادقين في زعمكم فتمنوا الموت . وهذا إلجاء لهم حتى يلزمهم ثبوت شكهم فيما زعموه .

والأمر في قوله : { فتمنوا } مستعمل في التعجيز : كناية عن التكذيب مثل قوله تعالى : { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 93 ] .

ووجه الملازمة بين الشرط وجوابه أن الموْت رجوع الإِنسان بروحه إلى حياة أبدية تظهر فيها آثار رضى الله عن العبد أو غضبه ليجزيه على حسب فعله .

والنتيجة الحاصلة من هذا الشرط تُحَصِّلُ أنهم مثل جميع الناس في الحياتين الدنيا والآخرة وآثارهما ، واختلاففِ أحواللِ أهلهما ، فيعلم من ذلك أنهم ليسوا أفضل من الناس . وهذا ما دل عليه قوله تعالى : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق } [ المائدة : 18 ] .

وبهذا يندفع ما قد يعرض للناظر في هذه الآية من المعارضة بينها وبين ما جاء في الأخبار الصحيحة من النهي عن تمني الموت . وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أحبَّ لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كَره لقاء الله كره الله لقاءه " ، فقالت عائشة : « إنا نكره الموت فقال لها ليس ذلك » الحديث . وما روي عنه أنه قال : " ارسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " إلى قوله : « قال موسى فالآن » .

ذلك أن شأن المؤمنين أن يكونوا بين الرجاء والخوف من الله ، وليسوا يتوهمون أن الفوز مضمون لهم كما توهم اليهود .

فما تضمنته هذه الآية حكاية عن حال اليهود الموجودين يومئذٍ ، وهم عامة غلبت عليهم الأوقام والغرور بعد انقراض علمائهم ، فهو حكايه عن مجموع قوم ، وأما الأَخبار التي أوردناها فوصف لأحوال معيّنة وأشخاص معينين فلا تعارض مع اختلاف الأحوال والأزمان ، فلو حصل لأحد يقين بالتعجيل إلى النعيم لتمنى الموت إلا أن تكون حياته لتأييد الدين كحياة الأنبياء .

فعلى الأول يحمل حال عُمَير بن الحُمَام في قوله :

جَرْياً إلى الله بغير زاد

وحال جعفر بن أبي طالب يوم مُوتَةَ وقد اقتحم صَفّ المشركين :

يَا حَبَّذا الجنةُ واقترابها

وقول عبد الله بن رواحة :

لكنني أسأل الرحمان مغفرة *** وضربة ذات فَرْغٍ تقذف الزبدا

المتقدمة في سورة البقرة لأن الشهادة مضمونة الجزاء الأحسن والمغفرة التامة .

وعلى الثاني يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في تأويل قوله : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه " إن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله فليس شيء أحبَّ إليه مما أمَامَه فأحَب لقاء الله . وقول موسى عليه السلام لملَك الموت : « فالآن » .