ثم وجه - سبحانه - نداء إلى الناس جميعا يأمرهم فيه بالإِيمان وينهاهم عن الكفر فقال : { ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ } .
أى : يأيها المكلفون من الناس جميعا ، قد جاءكم الرسول المشهود له بالصدق فى رسالته ، بالهدى ودين الحق من ربكم ، فآمنوا به وصدقوا وأطيعوه ، يكن إيمانكم خيرا لكم فى الدنيا والآخرة .
فالخطاب فى الآية الكريمة للناس أجمعين ، سواء أكان عربيا أم غير عربى أبيض أم أسود ، بعيدا أم قريبا .
. . لأنه رسالته صلى الله عليه وسلم عامة وشاملة للناس جميعا .
والمراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فأل فيه للعهد : وإيراده بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته .
وقوله : { بالحق } متعلق بمحذوف على أنه حال من الرسول . أى : جاءكم الرسول ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل .
وقوله : { مِن رَّبِّكُمْ } متعلق بمحذف على أنه حال أيضا من الحق . أو متعلق بجاء . أى : جاءكم من عند الله - تعالى - وليس متقولا .
ويرى بعضهم أن قوله { خَيْراً } خبر لكان المحذوفة مع اسمها ، أى : فآمنوا به يكن إيمانكم خيرا لكم .
ويرى آخرون أنه صفة لمصدر محذوف . أى : فآمنوا إيمانا خيرا لكم . وهى صفة مؤكدة على حد أمس الدابر لا يعود ، لأن الإِيمان لا يكون إلا خيراً .
فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة قد حضت الناس على الإِيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يجئهم بشئ باطل وإنما جاءهم بالحق الثابت الموافق لفطرة البشر أجمعين ، ولأنه لم يجئهم بما جاءهم به من عند نفسه وإنما جاءهم بما جاءهم به من عند الله - تعالى - ولأنه لم يجئهم بما يفضى بهم إلى الشرور والآثام ، وإنما جاءهم بما يوصلهم إلى السعادة فى الدنيا وإلى الفوز برضا الله فى الآخرة .
تلك هى عاقبة المؤمنين ، أما عاقبة الكافرين فقد حذر - سبحانه - منها بقوله : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } .
أى : وإن تكفروا - أيها الناس - فلن يضر الله كفركم ، فإنه - سبحانه - له ما فى السماوات والأرض خلقا وملكا وتصرفا ، وكان الله - تعالى - عليما علما تاما بأحوال خلقه ، حكيما فى جميع أفعاله وتدبيراته .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد توعدت الكافرين بسوء المصير ، وحضت الناس على الدخول فى زمرة المؤمنين ، وحذرتهم من الكفر حتى ينجوا يوم القيامة من عذاب السعير .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ } أي : قد جاءكم محمد - صلوات الله وسلامه عليه - بالهدى ودين الحق ، والبيان الشافي من الله ، عز وجل ، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه{[8760]} يكن خيرًا لكم .
ثم قال : { وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : فهو غني عنكم وعن إيمانكم ، ولا يتضرر بكفرانكم ، كما قال تعالى : { وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] وقال هاهنا : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : بمن يستحق منكم الهداية فيهديه ، وبمن يستحق الغَوَاية فيغويه { حَكِيمًا } أي : في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره .
بعد استفراغ الحِوار مع أهل الكتاب ، ثُمّ خطاب أهل الكفر بما هو صالح لأن يكون شاملاً لأهل الكتاب ، وجّه الخطاب إلى النّاس جميعاً : ليكون تذييلاً وتأكيداً لما سبقه ، إذ قد تهيَّأ من القوارع السالفة ما قامت به الحجَّة ، واتّسعت المحَجَّة ، فكان المقام للأمر باتّباع الرسول والإيمان . وكذلك شأن الخطيب إذا تهيّأت الأسماع ، ولانت الطباع . ويسمَّى هذا بالمقصد من الخطاب ، وما يتقدّمه بالمقدّمة . على أنّ الخطاب بيأيُّها النّاس يعني خصوص المشركين في الغالب ، وهو المناسب لقوله : { فآمنوا خيراً لكم } .
والتعريف في { الرسول } للعهد ، وهو المعهود بين ظهرانيهم . ( والحقّ ) هو الشريعة والقرآن ، و { من ربّكم } متعلّق ب { جاءكم } ، أو صفة للحقّ ، و ( من ) للابتداء المجازي فيهما ، وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين ترغيب لهم في الإيمان لأنّ الذي يجيء مهتمّاً بناس يكون حقّاً عليهم أن يتّبعوه ، وأيضاً في طريق الإضافة من قوله { ربّكم } ترغيب ثان لما تدلّ عليه من اختصاصهم بهذا الدّين الذي هو آت من ربّهم ، فلذلك أتي بالأمر بالإيمان مفرّعاً على هاته الجمل بقوله : { فآمنوا خيراً لكم } .
وانتصب { خيراً } على تعلّقه بمحذوف لازم الحذف في كلامهم لكثرة الاستعمال ، فجَرى مجرى الأمثال ، وذلك فيما دلّ على الأمر والنهي من الكلام نحو { انْتهوا خيراً لكم } [ النساء : 171 ] ، ووراءك أوسعَ لك ، أي تأخّر ، وحسبك خيراً لك ، وقول عمر بن أبي ربيعة :
فواعديه سَرْحَتَيْ مالِك *** أو الرّبى بينهما أسْهَلا
فنصبه ممّا لم يُخْتَلف فيه عن العرب ، واتّفق عليه أيمّة النحو ، وإنَّما اختلفوا في المحذوف : فجعله الخليل وسيبويه فعلا أمراً مدلولاً عليه من سياق الكلام ، تقديره : ايت أو اقصد ، قالا : لأنّك لمّا قلت له : انته ، أو افعل ، أو حسبُك ، فأنتَ تحمله على شيء آخر أفضل له . وقال الفرّاء من الكوفيّين : هو في مثله صفة مصدر محذوف ، وهو لا يتأتّى فيما كان منتصباً بعد نهي ، ولا فيما كان منتصباً بعد غير متصرّف ، نحو : وراءَك وحسبُك . وقال الكسائي والكوفيّون : نصب بكان محذوفة مع خبَرها ، والتقدير : يكن خيراً . وعندي : أنّه منصوب على الحال من المصدر الذي تضمّنه الفعل ، وحْدَه ، أو مع حرف النهي ، والتقدير : فآمنوا حال كون الإيمان خيراً ، وحسبك حال كون الاكتفاء خيراً ، ولا تفعل كذا حال كون الانتهاء خيراً . وعود الحال إلى مصدر الفعل في مثله كعود الضمير إليه في قوله : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، لا سيما وقد جرى هذا مجرى الأمثال ، وشأن الأمثال قّوة الإيجاز . وقد قال بذلك بعض الكوفيين وأبو البقاء .
وقوله { وإن تكفروا } أريد به أن تبقوا على كفركم .
وقوله : { فإنّ لله ما في السموات الأرض } هو دليل على جواب الشرط ، والجواب محذوف لأنّ التقدير : إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن إيمانكم لأنّ لله ما في السموات وما في الأرض ، وصرّح بما حذف هُنا في سورة الزمر ( 7 ) في قوله تعالى : { إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم } وفيه تعريض بالمخاطبين ، أي أنّ كفركم لا يفلتكم من عقابه ، لأنَّكم عبيده ، لأنّ له ما في السماوات وما في الأرض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.