معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (51)

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (51)

وبعد أن بين - سبحانه - أن كل شئ فى هذا الكون خاضع لقدرته ، أتبع ذلك بالنهى عن الشرك ، وبوجوب إخلاص العبادة له ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ . . . } . قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - سبحانه - لما بين فى الآيات الأولى ، أن ما سوى الله - تعالى - سواء أكان من عالم الأرواح أم من عالم الأجسام ، منقاد وخاضع لجلاله - تعالى - وكبريائه - أتبعه فى هذه الآية بالنهي عن الشرك ، وببيان أن كل ما سواه واقع فى ملكه وتحت تصرفه ، وأنه غني عن الكل ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين . . . } .

أي : وقال الله - تعالى - لعباده عن طريق رسله عليهم الصلاة والسلام - لا تتخذوا شركاء معي في العبادة والطاعة ، بل اجعلوهما لي وحدي ، فأنا الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء .

قال الآلوسى : وقوله : { وقال الله . . } معطوف على قوله - سبحانه - { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . } وإظهار الفاعل ، وتخصيص لفظ الجلالة بالذكر ، للإِيذان بأنه - تعالى - متعين الألوهية والمنهي عنه هو الإشراك به ، لا أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ إلهين . . .

{ اثنين } صفة للفظ إلهين أو مؤكد له . وخص هذا العدد بالذكر ؛ لأنه الأقل ، فيعلم انتفاء اتخاذ ما فوقه بالطريق الأولى .

وقوله - سبحانه - { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } بيان وتوكيد لما قبله ، وهو مقول لقوله - سبحانه - { وقال الله } .

أي : وقال الله لا تتخذوا معي فى العبادة إلها آخر ، وقال - أيضا - إنما المستحق للعبادة إله واحد ، والقصر فى الجملة الكريمة من قصر الموصوف على الصفة ، أي : الله وحده هو المختص بصفة الوحدانية .

وقد نهى - سبحانه - عن الشرك في آيات كثيرة ، وأقام الأدلة على بطلانه ومن ذلك قوله - تعالى - { . . . وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } وقوله - سبحانه - { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } والفاء فى قوله : { فإياي فارهبون } واقعة فى جواب شرط مقدر ، و { إياي } مفعول به لفعل محذوف يقدر مؤخرا ، يدل عليه قوله : { فارهبون } .

والرهبة : الخوف المصحوب بالتحرز ، وفعله رهب بزنة طرب .

والمعنى : إن رهبتم شيئا فإياي فارهبوا دون غيري ، لأني أنا الذي لا يعجزني شيء .

وفى الجملة الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب ، للمبالغة فى التخويف ، إذ تخويف الحاضر أبلغ من تخويف الغائب ، لاسيما بعد أن وصف - سبحانه - ذاته بما وصف من صفات القهر والغلبة والكبرياء .

وقدم المفعول وهو إياي ؛ لإِفادة الحصر ، وحذف متعلق الرهبة ، للعموم .

أي : ارهبوني فى جميع ما تأتون وما تذرون .

والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على ألوان من المؤكدات للنهي عن الشرك ، والأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، تارة عن طريق التقرير { وقال الله . . } وتارة عن طريق النهي الصريح ، وتارة عن طريق القصر ، وتارة عن طريق التخصيص .

وذلك لكي يقلع الناس عن هذه الرذيلة النكراء ، ويؤمنوا بالله الواحد القهار .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (51)

يُقرر تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (51)

وقوله { وقال الله } الآية ، آية نهي من الله تعالى عن الإشراك به ومعناها : لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعداً ، بما ينصه من قوله { إنما هو إله واحد } ، قالت فرقة : المفعول الأول ب { تتخذوا } قوله { إلهين } ، وقوله { اثنين } تأكيد وبيان بالعدد ، وهذا معروف في كلام العرب أن يبين المعدود وبذكر عدده تأكيداً ، ومنه قوله { إله واحد }{[7332]} لأن لفظ { إله } يقتضي الانفراد ، وقال قوم منهم : المفعول الثاني محذوف تقديره معبوداً أو مطاعاً ونحو هذا ، وقالت فرقة : المفعول الأول { اثنين } ، والثاني قوله { إلهين } ، وتقدير الكلام : لا تتخذوا اثنين إلهين ، ومثله قوله تعالى : { ألا تتخذوا من دوني وكيلاً ذرية من حملنا مع نوح } {[7333]}[ الإسراء : 2-3 ] ففي هذه الآية على بعض الأقوال تقديم المفعول الأول لِ { تتخذوا } ، وقوله : { فإياي } منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ولا يعمل فيه الفعل ؛ لأنه قد عمل في الضمير المتصل به .


[7332]:ورد ذلك في هذه الآية: {إنما هو إله واحد}، وتكرر ذلك في القرآن الكريم مرات كثيرة.
[7333]:من الآيتين (2 و 3) من سورة (الإسراء).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (51)

لما أُشبع القول في إبطال تعدّد الآلهة الشائع في جميع قبائل العرب ، وأتبع بإبطال الاختلاق على الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن ، نُقل الكلام إلى إبطال نوع آخر من الشّرك متّبع عند قبائل من العرب وهو الإشراك بإلهية أصلين للخير والشرّ ، تقلّدته قبائل العرب المجاورة بلاد فارس والساري فيهم سلطان كِسرى وعوائدُهم ، مثلُ بني بكر بن وائل وبني تميم ، فقد دان منهم كثير بالمجوسية ، أي المَزْدكية والمانوية في زمن كِسرى أبرويش وفي زمن كِسرى أنوشروان ، والمجوسية تثبت عقيدةً بإلهين : إلهٍ للخير وهو النّور ، وإلهٍ للشرّ وهو الظلمة ، فإله الخير لا يصدر منه إلا الخير والأنعام ، وإله الشرّ لا يصدر عنه إلا الشرّ والآلام ، وسمّوا إله الخير ( يَزْدَان ) ، وسموا إله الشرّ ( اَهْرُمُنْ ){[258]} . وزعموا أن يزدان كان منفرداً بالإلهية وكان لا يخلق إلا الخير فلم يكن في العالم إلا الخير ، فخطر في نفسه مرةً خاطرُ شرّ فتولّد عنه إلهٌ آخرُ شريك له هو إله الشرّ ، وقد حكى هذا المعرّي في لزومياته بقوله :

فَكّرَ يَزْدانُ على غِرة *** فصيغ من تفكيره أهْرُمُنْ

ولم يكونوا يجعلون لهذين الأصلين صُوراً مجسّمة ، فلذلك لم يكن دينهم من عداد عبادة الطاغوت لاختصاص اسم الطاغوت بالصور والأجسام المعبودة . وهذا الدين من هذه الجهة يشبه الأديان التي لا تعبُد صُوَراً محسوسة . وسيأتي الكلام على المجوسيّة عند تفسير قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } إلى قوله { والمَجوسَ } في سورة الحج ( 170 ) .

ويدلّ على أن هذا الدين هو المراد التّعقيب بآية { ما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسّكم الضرّ فإليه تجأرون } [ سورة النحل : 53 ] كما سيأتي .

فقوله تعالى : { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } عطف قصّة على قصّة وهو مرتبط بجملة { ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ سورة النحل : 36 ] .

ومعنى { وقال الله لا تتخذوا إلهين } أنه دعا الناس ونَصب الأدلّة على بطلان اعتقاده . وهذا كقوله تعالى : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } [ سورة الفتح : 15 ] وقوله : { كذلكم قال الله من قبل } [ سورة الفتح : 15 ] .

وصيغة التّثنية من قوله : { إلهين } أكدت بلفظ { اثنين } للدّلالة على أن الإثنينية مقصودة بالنّهي إبطالاً لشرك مخصوص من إشراك المشركين ، وأن لا اكتفاء بالنّهي عن تعدّد الإله بل المقصود النّهي عن التّعدد الخاص وهو قول المجوس بإلهين . ووقع في « الكشاف » توجيه ذكر { اثنين } بأنه لدفع احتمال إرادة الجنس حقيقة لا مجازاً .

وإذ نُهوا عن اتخاذ إلهين فقد دلّ بدلالة الاقتضاء على إبطال اتخاذ آلهة كثيرة .

وجملة { إنما هو إله واحد } يجوز أن تكون بياناً لجملة { لا تتخذوا إلهين اثنين } ، فالجملة مقولة لفعل { وقال الله } لأن عطف البيان تابع للمبيّن كموقع الجملة الثانية في قول الشاعر{[259]} :

أقول له ارحَلْ لا تَقيمَنّ عندنا

فلذلك فُصلت ، وبذلك أفيد بالمنطوق ما أفيد قبلُ بدلالة الاقتضاء .

والضمير من قوله تعالى : { إنما هو إله واحد } عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { وقال الله } ، أي قال الله إنما الله إله واحد ، وهذا جَريٌ على أحد وجهين في حكاية القول وما في معناه بالمعنى كما هنا ، وقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام { أن اعبدوا الله ربي وربكم } [ سورة المائدة : 117 ] ف { أن اعبدوا الله } مفسرُ « أمَرْتني » ، وفعل « أمَرْتني » فيه معنى القول ، والله قال له : قل لهم اعبُدوا الله ربك وربهم ، فحكاه بالمعنى ، فقال : ربّي .

والقصر في قوله : { إنما هو إله واحد } قصر موصوف على صفة ، أي الله مختصّ بصفة توحّد الإلهية ، وهو قصر قلب لإبطال دعوى تثنية الإله .

ويجوز أن تكون جملة { إنما هو إله واحد } معترضةً واقعة تعليلاً لجملة { لا تتخذوا إلهين اثنين } أي نَهى الله عن اتخاذ إلهين لأن الله واحد ، أي والله هو مسمّى إله فاتّخاذ إلهين اثنين قلب لحقيقة الإلهية .

وحصر صفة الوحدانية في عَلَم الجلالة بالنّظر إلى أن مسمّى ذلك العلم مساوٍ لمسمّى إله ، إذ الإله منحصر في مسمّى ذلك العلَم .

وتفريع { فإياي فارهبون } يجوز أن يكون تفريعاً على جملة { لا تتخذوا إلهين اثنين } فيكون { فإياي فارهبون } من مقول القول ، ويكون في ضمير المتكلم من قوله : { فارهبون } التفات من الغيبة إلى الخطاب .

ويجوز أن يكون تفريعاً على فعل { وقال الله } فلا يكون من مقول القول ، أي قال الله لا تتخذوا إلهين فلا ترهبوا غيري . وليس في الكلام التفات على هذا الوجه .

وتفرّع على ذلك قوله تعالى : { فإياي فارهبون } بصيغة القصر ، أي قصر قلب إضافياً ، أي قصر الرهبة التامة منه عليه فلا اعتداد بقدرة غيره على ضرّ أحد . وهو ردّ على الذين يرهبون إله الشرّ فالمقصود هو المرهوب .

والاقتصار على الأمر بالرّهبة وقصرها على كونها من الله يفهم منه الأمر بقصر الرغبة عليه لدلالة قصر الرهبة على اعتقاد قصر القدرة التامة عليه تعالى فيفيد الردّ على الذين يطمعون في إله الخير بطريق الأولى ، وإنما اقتصر على الرّهبة لأن شأن المزدكية أن تكون عبادتهم عن خوف إله الشرّ لأن إله الخير هم في أمن منه فإنه مطبوع على الخير .

ووقع في ضمير { فإياي } التفات من الغيبة إلى التكلم لمناسبة انتقال الكلام من تقرير دليل وحدانية الله على وجه كلّي إلى تعيين هذا الواحد أنه الله منزل القرآن تحقيقاً لتقرير العقيدة الأصلية . وفي هذا الالتفات اهتمام بالرّهبة لما في الالتفات من هزّ فهم المخاطبين . وتقدّم تركيب نظيره بدون التفات في سورة البقرة .

واقتران فعل { فارهبون } بالفاء ليكون تفريعاً على تفريع فيفيد مفاد التأكيد لأن تعلّق فعل « ارهبون » بالمفعول لفظاً يجعل الضمير المنفصل المذكور قبله في تقدير معمول لفعل آخر ، فيكون التقدير : فإياي ارهبُوا فارهبون ، أي أمرتكم بأن تقصُروا رهبتكم عليّ فارهبون امتثالاً للأمر .


[258]:- يزدان بتحتية مفتوحة وزاي ساكنة وآهرمن بهمزة مفتوحة وهاء ساكنة وراء وميم مضمومين ونون ساكنة
[259]:- هذا البيت من شواهد النحو وعلم المعاني وتمام البيت: ولا فكن في السر والجهر مسلما. ولا يعرف قائله
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (51)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وقال الله لعباده: لا تتخذوا لي شريكا أيها الناس، ولا تعبدوا معبودَين، فإنكم إذا عبدتم معي غيري جعلتم لي شريكا، ولا شريك لي، إنما هو إله واحد ومعبود واحد، وأنا ذلك.

"فإيّايَ فارْهَبُونِ" يقول: فإياي فاتقوا وخافوا عقابي بمعصيتكم إياي إن عصيتموني وعبدتم غيري، أو أشركتم في عبادتكم لي شريكا...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد} لا نعلم لمن كان الخطاب بهذا: ألأهل مكة؟ فهم قد اتخذوا آلهة بقولهم: {أجعل الآلهة إلها واحدا} الآية (ص: 5)... ويشير أن يكون أهل مكة، وإن اتخذوا آلهة فإنهم في الحقيقة عباد إلهين؛ لأنهم إنما كانوا يعبدون تلك الأصنام بأمر الشيطان وطاعتهم إياه، فنسب العباد لمن لما بأمره ويعبدون هذه الأصنام؛ أضاف العبادة إليه.

أو أن يكون المراد من ذكر اثنين إنما هو على الزيادة على الواحد؛ كأنه قال: لا تتخذوا، أو لا تعبدوا أكثر من إله واحد.

{فإياي فارهبون} لا تخافوا الأصنام التي تعبدونها فإنكم إن تركتم عبادتها لا تضركم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

يقول الله تعالى ناهيا لعباده "لا تتخذوا إلهين اثنين "أي لا تعبدوا مع الله غيره، فتشركوا بينهما في العبادة. ثم أخبر أنه إله واحد لا أكثر منه، لأن لفظة "إنما" تفيد ثبوت الإله الواحد، ونفي ما زاد عليه على ما بيناه فيما مضى.

"فإياي فارهبون" معناه: ارهبوا عقابي وسخطي فلا تتخذوا معي إلها آخر ومعبودا سواي..

وفي قوله "اثنين" بعد قوله "إلهين" قولان:

أحدهما: أنه قال ذلك تأكيدا، كما قال "إله واحد" تأكيدا.

والثاني: أن يكون المعنى لا تتخذوا اثنين إلهين، فقدم وأخر، وكلاهما جائز...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا: عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة؛ لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان، فمعدودان فيهما دلالة على العدد، فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله إلهين اثنين؟ قلت: الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين: على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنى به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به. ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد: لم يحسن، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية {فإياي فارهبون} نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم، وجاز لأنّ الغالب هو المتكلم، وهو من طريقة الالتفات، وهو أبلغ في الترهيب من قوله: وإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لقائل أن يقول: إن الإلهين لا بد وأن يكونا اثنين، فما الفائدة في قوله: {إلهين اثنين}. وجوابه من وجوه:... الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكرا مستقبحا، فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سببا لوقوف العقل على ما فيه من القبح...

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال: {إنما هو إله واحد} والمعنى: أنه لما دلت الدلائل...على أنه لا بد للعالم من الإله، وثبت أن القول بوجود الإلهين محال، ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الحق الصمد...

ثم قال بعده: {فإياي فارهبون} وهذا رجوع من الغيبة إلى الحضور، والتقدير: أنه لما ثبت أن الإله واحد وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله، فحينئذ ثبت أنه لا إله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام... وفيه دقيقة أخرى وهو أن قوله: {فإياي فارهبون} يفيد الحصر، وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه، وأن لا يرغبوا إلا في فضله وإحسانه... فلا رغبة إلا إليه ولا رهبة إلا منه، فبفضله تندفع الحاجات وبتكوينه وبتخليقه تنقطع الضرورات...

.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

ولما كان الإله الحق لا يتعدد وأن كل من يتعدد فليس بإله، اقتصر على ذكر الاثنين؛ لأنه قصد نفي التعديد...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان التوحيد أعظم المأمورات، وكان العصيان فيه أعظم العصيان، وكان سبحانه قد أكثر التخويف من عصيانه، وأبلغ الأمر إلى نهايته بالإخبار بأن الملائكة تخافه، وكان الملائكة من أعظم الموحدين، كما كانوا من أعظم الساجدين، من أهل السماوات والأرضين، وكانت هذه الآيات من أعظم أدلة التوحيد، أتبعها -عطفاً على {وأنزل إليك الذكر} ليتظافر على ذلك أدلة العقل والنقل وتسليكاً بأحوال الملائكة- قوله تعالى: {وقال الله} فعبر لأجل تعظيم المقام بالاسم الأعظم الخاص الذي بنيت عليه السورة: {لا تتخذوا} أي لا تكلفوا فطركم الأولى السليمة المجبولة على معرفة أن الإله واحد إلى أن تأخذ في اعتقادها {إلهين} ويجوز أن يكون معطوفاً على ما علم من المقدمات المذكورة أول السورة إلى قوله: {وما يشعرون أيان يبعثون} من النتيجة وهي {إلهكم إله واحد} لاحتمال أن يقول متعنت: إنه لم يأمرنا بذلك وإن دلت عليه الأدلة، ويجوز وهو أقرب -أن يعطف على قوله: {وقال الذين أشركوا} تبكيتاً لهم بأنهم احتجوا بحكمه، ولم يبادروا إلى امتثال أمره.

ولما كان قد فهم المراد من التثنية، وكان ربما قال المتعنت: إن المنهي عنه تكثير الأسماء، قال مؤكداً ومحققاً: {اثنين} تنبيهاً على أن الألوهية؛ لأنه موضع لإمكان التنازع الملزوم للعجز المنافي لتلك الرتبة مطلق العدد ينافي المنيفة الشماء، وفي ذلك أيضاً- مع كون معبوداتهم كانت كثيرة -إشارة إلى أن ما يسمى آلهة- وإن زاد عدده -يرجع بالحقيقة إلى اثنين: خالق ومخلوق، ومن المعلوم لكل ذي لب أن المخلوق غير صالح للألوهية، فانحصر الأمر في الخالق، وإن لم يكن فيه الخالق كان منقسماً لا محالة، وأقل ما ينقسم إلى اثنين: وباب الاتخاذ إذا كان مفعوله نكرة، اكتفى بواحد كما تقول: اتخذت بيتاً، واتخذت زوجة- ونحو ذلك، ثم علل ذلك النهي بما اقتضاه السياق من الوحدانية فقال تعالى: {إنما هو} أي الإله المفهوم من لفظ {إلهين} الذي لا يستحق غيره أن يطلق عليه هذا الضمير إلا مجازاً، لأنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً إلا على ما وجوده من ذاته {إله} أي يستحق هذا الوصف على الإطلاق.

ولما كان السياق مفهماً للوحدانية من النهي عن التثنية، وكان ربما تعنت متعنت بأن المراد إثبات الإله الدال على الجنس، قال رافعاً لكل شبهة: {واحد} أي لا يمكن أن يثني بوجه ولا أن يجزأ لغناء المطلق عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه، فكونوا ممن يسجد له طوعاً ولا تكونوا ممن لا يسجد له إلا كرهاً.

ولما كان أسلوب الغيبة لا يعين الإله في المتكلم، التفت إلى أسلوب التكلم فقال تعالى: {فإياي} أي ذلك الواحد أنا وحدي لا شريك لي، فمن لم يوحدني أوقعت به بقوتي ما لا يطيقه لعجزه.

ولما كانت الوحدانية مما لا يخفى على عاقل، وكانت مركوزة في كل فطرة بدليل الاضطراب عند المحن، والشدائد والفتن، وكانت الرهبة -كما مضى عن الحرالي في البقرة- خاصة بالخوف مما خالف العاصي فيه العلم، عبر بها فقال تعالى: {فارهبون} مختصاً بذلك ولا تخافوا شيئاً غيري من صنم ولا غيره، فإنه ليس لشيء من ذلك قدرة، وإن أودعته فإنه لا يتمكن من إنفاذها، فالأمر كله إليّ وحدي.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

ولم يذكر المقول لهم للعموم أي قال تعالى لجميع المكلفين بواسطة الرسل عليهم السلام: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين}

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لقد أمر الله ألا يتخذ الناس إلهين اثنين. إنما هو إله واحد لا ثاني له. ويأخذ التعبير أسلوب التقرير والتكرير فيتبع كلمة إلهين بكلمة اثنين، ويتبع النهي بالقصر إنما هو إله واحد. ويعقب على النهي والقصر بقصر آخر (فإياي فارهبون) دون سواي بلا شبيه أو نظير. ويذكر الرهبة زيادة في التحذير.. ذلك أنها القضية الأساسية في العقيدة كلها، لا تقوم إلا بها، ولا توجد إلا بوجودها في النفس واضحة كاملة دقيقة لا لبس فيها ولا غموض...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ومعنى {وقال الله لا تتخذوا إلهين} أنه دعا الناس ونَصب الأدلّة على بطلان اعتقاده. وهذا كقوله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} [سورة الفتح: 15] وقوله: {كذلكم قال الله من قبل} [سورة الفتح: 15]. وصيغة التّثنية من قوله: {إلهين} أكدت بلفظ {اثنين} للدّلالة على أن الإثنينية مقصودة بالنّهي إبطالاً لشرك مخصوص من إشراك المشركين، وأن لا اكتفاء بالنّهي عن تعدّد الإله بل المقصود النّهي عن التّعدد الخاص وهو قول المجوس بإلهين. ووقع في « الكشاف» توجيه ذكر {اثنين} بأنه لدفع احتمال إرادة الجنس حقيقة لا مجازاً. وإذ نُهوا عن اتخاذ إلهين فقد دلّ بدلالة الاقتضاء على إبطال اتخاذ آلهة كثيرة. وجملة {إنما هو إله واحد} يجوز أن تكون بياناً لجملة {لا تتخذوا إلهين اثنين}، فالجملة مقولة لفعل {وقال الله} لأن عطف البيان تابع للمبيّن كموقع الجملة الثانية في قول الشاعر: أقول له ارحَلْ لا تَقيمَنّ عندنا فلذلك فُصلت، وبذلك أفيد بالمنطوق ما أفيد قبلُ بدلالة الاقتضاء. والضمير من قوله تعالى: {إنما هو إله واحد} عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {وقال الله}، أي قال الله إنما الله إله واحد، وهذا جَريٌ على أحد وجهين في حكاية القول وما في معناه بالمعنى كما هنا، وقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {أن اعبدوا الله ربي وربكم} [سورة المائدة: 117] ف {أن اعبدوا الله} مفسرُ « أمَرْتني»، وفعل « أمَرْتني» فيه معنى القول، والله قال له: قل لهم اعبُدوا الله ربك وربهم، فحكاه بالمعنى، فقال: ربّي. والقصر في قوله: {إنما هو إله واحد} قصر موصوف على صفة، أي الله مختصّ بصفة توحّد الإلهية، وهو قصر قلب لإبطال دعوى تثنية الإله. ويجوز أن تكون جملة {إنما هو إله واحد} معترضةً واقعة تعليلاً لجملة {لا تتخذوا إلهين اثنين} أي نَهى الله عن اتخاذ إلهين لأن الله واحد، أي والله هو مسمّى إله فاتّخاذ إلهين اثنين قلب لحقيقة الإلهية. وحصر صفة الوحدانية في عَلَم الجلالة بالنّظر إلى أن مسمّى ذلك العلم مساوٍ لمسمّى إله، إذ الإله منحصر في مسمّى ذلك العلَم. وتفريع {فإياي فارهبون} يجوز أن يكون تفريعاً على جملة {لا تتخذوا إلهين اثنين} فيكون {فإياي فارهبون} من مقول القول، ويكون في ضمير المتكلم من قوله: {فارهبون} التفات من الغيبة إلى الخطاب. ويجوز أن يكون تفريعاً على فعل {وقال الله} فلا يكون من مقول القول، أي قال الله لا تتخذوا إلهين فلا ترهبوا غيري. وليس في الكلام التفات على هذا الوجه. وتفرّع على ذلك قوله تعالى: {فإياي فارهبون} بصيغة القصر، أي قصر قلب إضافياً، أي قصر الرهبة التامة منه عليه فلا اعتداد بقدرة غيره على ضرّ أحد. وهو ردّ على الذين يرهبون إله الشرّ فالمقصود هو المرهوب. والاقتصار على الأمر بالرّهبة وقصرها على كونها من الله يفهم منه الأمر بقصر الرغبة عليه لدلالة قصر الرهبة على اعتقاد قصر القدرة التامة عليه تعالى فيفيد الردّ على الذين يطمعون في إله الخير بطريق الأولى... ووقع في ضمير {فإياي} التفات من الغيبة إلى التكلم لمناسبة انتقال الكلام من تقرير دليل وحدانية الله على وجه كلّي إلى تعيين هذا الواحد أنه الله منزل القرآن تحقيقاً لتقرير العقيدة الأصلية. وفي هذا الالتفات اهتمام بالرّهبة لما في الالتفات من هزّ فهم المخاطبين. وتقدّم تركيب نظيره بدون التفات في سورة البقرة. واقتران فعل {فارهبون} بالفاء ليكون تفريعاً على تفريع فيفيد مفاد التأكيد لأن تعلّق فعل « ارهبون» بالمفعول لفظاً يجعل الضمير المنفصل المذكور قبله في تقدير معمول لفعل آخر، فيكون التقدير: فإياي ارهبُوا فارهبون، أي أمرتكم بأن تقصُروا رهبتكم عليّ فارهبون امتثالاً للأمر...