الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (51)

قوله تعالى : { اثْنَيْنِ } : فيه قولان ، أحدُهما : أنه مؤكد ل " إلهَيْن " وعليه أكثرُ الناسِ ، و " اتَّخذ " على هذا يحتمل أن تكونَ متعديةً لواحدٍ ، وأن تكونَ متعديةً لاثنين ، والثاني منها محذوفٌ ، أي : لا تَتَّخذوا إلهين اثنين معبوداً .

والثاني : أنَّ " اثنين " مفعولٌ أولُ ، وإنما أُخِّر ، والأصلُ : لا تَتَّخذوا اثنين إلهين ، وفيه بُعْدٌ .

وقال أبو البقاء : " هو مفعولٌ ثانٍ " وهذا كالغلط إذ لا معنى لذلك البتةَ ، وكلامُ الزمخشري هنا يُفْهِم أنه ليس بتأكيدٍ فإنه قال : " فإنْ قلتَ : إنما جمعوا بين العددِ والمعدودِ فيما وراء الواحدِ والاثنين ، فقالوا : عندي رجالٌ ثلاثةٌ وأفراسٌ أربعةٌ ؛ لأنَّ المعدودَ عارٍ عن العدد الخاص ، فأمَّا رجل ورجلان وفَرَسٌ وفرسان فمعدودان فيهما دلالةً على العدد ، فلا حاجةَ على أَنْ يقال : رجل واحد ، ورجلان اثنان ، فما وجه قوله تعالى { إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ } ؟ قلت : الاسمُ الحاملُ لمعنى الإِفرادِ أو التثنيةِ دَلَّ على شيئين : على الجنسيةِ والعددِ المخصوصِ ، فإذا أُريدت الدلالةُ على أن المعنيَّ به منهما والذي يُساق إليه الحديثُ هو العددُ شُفِع بما يؤكِّد العددَ ، فدلَّ به على القصدِ إليه والعنايةِ به ، ألا ترى أنك لو قلْتَ : إله ، ولم تؤكِّده بواحدٍ لم يَحْسُنْ ، وخُيِّل أنك تُثْبِتُ الإِلهيةَ لا الوَحْدانية " .

وقال الشيخ : " لمَّا كان الاسمُ الموضوع للإِفراد والتثنية قد يُتَجَوَّزُ به فَيُراد به الجنسُ نحو : نِعم الرجلُ زيدٌ ، ونِعْم الرجلان الزيدان ، وقول الشاعر :

/ فإنَّ النارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى *** وإنَّ الحربَ أَوَّلُها الكلامُ

أكَّدَ الموضوعَ لهما بالوصفِ فقيل : إلهين اثنين ، وقيل : إله واحد " .

قوله : " فإيَّايَ " منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ مقدرٍ بعدهن يُفَسِّره هذا الظاهرُ ، أي : إياي ارهبوا فارْهَبون . وقدَّر ابنُ عطية " ارهَبوا إيَّاي فارهبون " . قال الشيخ : " وهو ذُهولٌ عن القاعدةِ النحوية ، وهي أنَّ المفعولَ إذا كان ضميراً منفصلاً والفعلُ متعدٍّ لواحد وَجَبَ تأخيرُ الفعلِ نحو : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }

[ الفاتحة : 5 ] ولا يجوزُ أن يتقدَّمَ إلا في ضرورةٍ كقوله :

إليك حتى بَلَغَتْ إيَّاكا ***

وهذا قد مَرَّ تقريرُه في أولِ البقرة . وقد يُجاب عن ابنِ عطية : بأنه لا يَقْبُحُ في الأمور التقديرية ما يقبح في [ الأمورِ ] اللفظيةِ . وفي قوله : " فإيَّايَ " التفاتٌ من غَيْبة وهي قولُه { وَقَالَ اللَّهُ } إلى تكلُّمٍ وهو قوله " فإيَّاي " ثم التفت إلى الغِيْبة أيضاً في قوله : { وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ } .