نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَإِيَّـٰيَ فَٱرۡهَبُونِ} (51)

ولما كان التوحيد أعظم المأمورات ، وكان العصيان فيه أعظم العصيان ، وكان سبحانه قد أكثر التخويف من عصيانه ، وأبلغ الأمر إلى نهايته بالإخبار بأن الملائكة تخافه ، وكان الملائكة من أعظم الموحدين ، كما كانوا من أعظم الساجدين ، من أهل السماوات والأرضين ، وكانت هذه الآيات من أعظم أدلة التوحيد ، أتبعها - عطفاً على { وأنزل إليك الذكر } ليتظافر على ذلك أدلة العقل والنقل وتسليكاً بأحوال الملائكة - قوله تعالى : { وقال الله } فعبر لأجل تعظيم المقام بالاسم الأعظم الخاص الذي بنيت عليه السورة : { لا تتخذوا } أي لا تكلفوا فطركم الأولى السليمة المجبولة على معرفة أن الإله واحد إلى أن تأخذ في اعتقادها { إلهين } ويجوز أن يكون معطوفاً على ما علم من المقدمات المذكورة أول السورة إلى قوله : { وما يشعرون أيان يبعثون } من النتيجة وهي { إلهكم إله واحد } لاحتمال أن يقول متعنت : إنه لم يأمرنا بذلك وإن دلت عليه الأدلة ، ويجوز وهو أقرب - أن يعطف على قوله : { وقال الذين أشركوا } تبكيتاً لهم بأنهم احتجوا بحكمه ، ولم يبادروا إلى امتثال أمره .

ولما كان قد فهم المراد من التثنية ، وكان ربما قال المتعنت : إن المنهي عنه تكثير الأسماء ، قال مؤكداً ومحققاً : { اثنين } تنبيهاً على أن الألوهية ؛ لأنه موضع لإمكان التنازع الملزوم للعجز المنافي لتلك الرتبة مطلق العدد ينافي المنيفة الشماء ، وفي ذلك أيضاً - مع كون معبوداتهم كانت كثيرة - إشارة إلى أن ما يسمى آلهة - وإن زاد عدده - يرجع بالحقيقة إلى اثنين : خالق ومخلوق ، ومن المعلوم لكل ذي لب أن المخلوق غير صالح للألوهية ، فانحصر الأمر في الخالق ، وإن لم يكن فيه الخالق كان منقسماً لا محالة ، وأقل ما ينقسم إلى اثنين : وباب الاتخاذ إذا كان مفعوله نكرة ، اكتفى بواحد كما تقول : اتخذت بيتاً ، واتخذت زوجة - ونحو ذلك ، ثم علل ذلك النهي بما اقتضاه السياق من الوحدانية فقال تعالى : { إنما هو } أي الإله المفهوم من لفظ { إلهين } الذي لا يستحق غيره أن يطلق عليه هذا الضمير إلا مجازاً ، لأنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً إلا على ما وجوده من ذاته { إله } أي يستحق هذا الوصف على الإطلاق .

ولما كان السياق مفهماً للوحدانية من النهي عن التثنية ، وكان ربما تعنت متعنت بأن المراد إثبات الإله الدال على الجنس ، قال رافعاً لكل شبهة : { واحد } أي لا يمكن أن يثني بوجه ولا أن يجزأ لغناء المطلق عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه ، فكونوا ممن يسجد له طوعاً ولا تكونوا ممن لا يسجد له إلا كرهاً .

ولما كان أسلوب الغيبة لا يعين الإله في المتكلم ، التفت إلى أسلوب التكلم فقال تعالى : { فإياي } أي ذلك الواحد أنا وحدي لا شريك لي ، فمن لم يوحدني أوقعت به بقوتي ما لا يطيقه لعجزه .

ولما كانت الوحدانية مما لا يخفى على عاقل ، وكانت مركوزة في كل فطرة بدليل الاضطراب عند المحن ، والشدائد والفتن ، وكانت الرهبة - كما مضى عن الحرالي في البقرة - خاصة بالخوف مما خالف العاصي فيه العلم ، عبر بها فقال تعالى : { فارهبون * } مختصاً بذلك ولا تخافوا شيئاً غيري من صنم ولا غيره ، فإنه ليس لشيء من ذلك قدرة ، وإن أودعته فإنه لا يتمكن من إنفاذها ، فالأمر كله إليّ وحدي .