ثم رسم - سبحانه - لعباده المنهج الذى لو ابتعوه لعاشوا آمنين مطمئنين فقال : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } .
والإنفاق : بذل المال فى المصالح المتنوعة التى أحلها الله - تعالى - ، كالمأكل والمشرب ، والملبس ، والمسكن ، وإعطاء كل ذى حق حقه . .
والسعة : البسطة فى المال والرزق .
أى : على كل من أعطاه الله - تعالى - سعة وبسطة فى المال والرزق ، أن ينفق مما أعطاه الله - تعالى - وأن لا يبخل ، فإن البخل صفة قبيحة ، ولا سيما فى الأغنياء .
فعيكم - أيها الآباء - أن تعطوا بسخاء كل من يستحقون العطاء ، وعلى رأسهم الأمهات لأولادكم ، اللائى يقمن بإرضاعهم بعد مفارقتكم لهن ، وأن لا تبخلوا عليهن فى أجرة الرضاع ، أو فى النفقة على الأولاد .
ثم قال - تعالى - : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله . . } أى : ومن كان رزقه ضيقا وليس واسعا .
. . فلينفق على قدر ماله ورزقه وطاقته ، مما آتاه الله - تعالى - من رزق .
وقوله : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا . . } تعليل لما قبله ، أى : فلينفق كل إنسان على نفسه وعلى زوجه ، وعلى أولاده ، وعلى أقاربه ، وعلى غيرهم . على حسب حاله ، فإن كان موسرا أنفق على حسب يسره ، وإن كان معسرا أنفق على حسب عسره . . . لأن الله - تعالى - لا يكلف نفسا إلا بقدر ما أعطاها من طاقة أو رزق .
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب سأل عن أبى عبيدة فقيل له : إنه يلبس الغليظ من الثياب ، ويأكل الخشن من الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ماذا يصنع أذا أخذها : فلما أخذها ، ما لبث أن لبس ألين الثياب ، وأكل أطيب الطعام . . . فجاء الرسول فأخبره فقال عمر : رحم الله أبا عبيدة ، لقد عمل بهذه الآية : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله . . } .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببشارة لمن يتبع أمره فقال : { سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } أى : سيجعل الله - تعالى - بفضله وإحسانه - اليسر بعد العسر ، والسعة بعد الضيق ، والغنى بعد الفقر . . لمن شاء من عباده ، لأنه - سبحانه - هو الذى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وهو بعباده خبير بصير .
قال الإمام ابن كثير : وقد روى الإمام أحمد عن أبى هريرة قال : دخل رجل على أهله . فلما رأى ما بهم من الفاقة خرج إلى البرية ، لما رأت امرأته ذلك قامت إلى الرحى فوضعتها ، وإلى التنور فسجرته - أى أوقدته - ، ثم قالت : اللهم ارزقنا ، فنظرت ، فإذا الجفنة قد امتلأت . .
قال : وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئا ، قال : فرجع الزوج فقال لأهله : أأصبتم بعدى شيئا ؟ فقالت امرأته : نعم من ربنا . . .
فذكر الرجل ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : أما إنه لو لم ترفعها ، لم تزل تدور إلى يوم القيامة . .
وبعد هذه التشريعات الحكيمة التى تتعلق بالطلاق وما يترتب عليه من آثار ، وبعد هذا التذكير المتكرر بوجوب تقوى الله - تعالى - والمحافظة على أداء تكاليفه ، وبعد هذا الوعظ والمثر فى قلوب الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر . . .
وقوله : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } أي : لينفق على المولود والده ، أو وليه ، بحسب قدرته ، { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا } كقوله : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] .
روى ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حَكَّام ، عن أبي سنان قال : سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة ، فقيل : إنه يلبس الغليظ من الثياب ، ويأكل أخشن الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها : فما لبث أن لبس اللين من الثياب ، وأكل أطيب الطعام ، فجاءه الرسول فأخبره ، فقال : رحمه الله ، تأول هذه الآية : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ }{[29001]}
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، أخبرني أبي ، أخبرني ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري - واسمه الحارث - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة نفر ، كان لأحدهم عشرة دنانير ، فتصدق منها بدينار . وكان لآخر عشر أواق ، فتصدق منها بأوقية . وكان لآخر مائة أوقية ، فتصدق منها بعشر أواق " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هم في الأجر سواء ، كل قد تصدق بعشر ماله ، قال الله تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } {[29002]}
وقوله : { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } وعد منه تعالى ، ووعده حق ، لا يخلفه ، وهذه كقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [ الشرح : 5 ، 6 ]
وقد روى الإمام أحمد حديثا يحسن أن نذكره ها هنا ، فقال : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرَام ، حدثنا شَهْر بن حَوْشَب قال : قال أبو هريرة : بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء ، فجاء الرجل من سفره ، فدخل على امرأته جائعا قد أصاب{[29003]} مَسْغَبَةً شديدة ، فقال لامرأته : عندك شيء ؟ قالت : نعم ، أبشر ، أتاك رزق الله ، فاستحثها ، فقال : ويحك ! ابتغي إن كان عندك شيء . قالت نعم ، هُنَيهة - ترجو رحمة الله - حتى إذا طال عليه الطوى{[29004]} قال : ويحك ! قومي فابتغي إن كان عندك شيء فائتيني به ، فإني قد بُلغتُ وجَهِدتُ . فقال : نعم ، الآن يُنضح التنور فلا تعجل . فلما أن سكت عنها ساعة وتحيّنت أن يقول لها ، قالت من عند نفسها : لو قمتُ فنظرتُ إلى تنوري ؟ فقامَتْ فنظرَت إلى تَنورها ملآن من جنُوبَ الغنم ، ورَحييها تطحنَان . فقامت إلى الرحى فنَفضتها ، واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم .
قال أبو هريرة : فوالذي نفس أبي القاسم بيده ، هو{[29005]} قول محمد صلى الله عليه وسلم : " لو أخذت ما في رَحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة " {[29006]}
وقال في موضع آخر : حدثنا أبو عامر ، حدثنا أبو بكر ، عن هشام ، عن محمد - وهو ابن سيرين - عن أبي هريرة قال : دخل رجل على أهله ، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البَرِيَّة ، فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها ، وإلى التنور فسَجَرته ، ثم قالت : اللهم ارزقنا . فنظرت ، فإذا الجفنة قد امتلأت ، قال : وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئًا ، قال : فرجع الزوج قال : أصبتم بعدي شيئا ؟ قالت امرأته : نعم ، من ربنا . قام إلى الرحى ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه لو لم ترفعها ، لم تزل تدور إلى يوم القيامة " {[29007]}