هذه قراءة العامة : أعني كسر اللام ، وجزم المضارع بها .
وحكى أبو معاذ{[57099]} القارئ : «لِيُنْفِقَ » بنصب الفعل على أنها لام «كي » نصب الفعل بعدها بإضمار «أن » ويتعلق الحرف حينئذ بمحذوف ، أي : شرعنا ذلك لينفق .
وقرأ العامة : «قُدِرَ » مخففاً .
وابن أبي عبلة{[57100]} : «قُدِّرَ » مشدداً .
فصل في وجوب النفقة للولد على الوالد
قال القرطبي{[57101]} : هذه الآية أصل وجوب النفقة للولد على الوالد دون الأم ، خلافاً لمحمد بن الموَّاز إذ يقول : إنها على الأبوين على قَدْر الميراث .
قال ابن العربيّ{[57102]} : ولعل محمداً أراد أنها على الأم عند عدم الأب ، وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم : «تَقُولُ لَكَ المَرأةُ : أنفِقْ عليَّ وإلاَّ طلِّقْنِي ، ويقُولُ لَكَ العَبْدُ : أنفِقْ عَلي واستَعْمِلْنِي ، ويقُولُ لَكَ ابْنُكَ : أنفِقْ عليَّ إلى مَنْ تكلُني ؟ »{[57103]} ، فقد تعارض القُرآن [ والسُّنة ]{[57104]} وتواردا في شرعة واحدة .
قوله : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا } من المال ، والمعنى لا يكلف الله الفقير مثل ما يكلف الغني { سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } أي : بعد الضيق غنى وبعد الشدة سعة .
فصل في اختلاف الزوجين في قبض النفقة
قال ابن تيمية : إذا اختلف الزوجان في قبض النفقة والكسوة ، فقال القاضي أبو يعلى وأتباعه : إن القول قول الزَّوجة ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي كما لو اختلف اثنان في قبض سائر الحقوق مثل الصَّداق ، وثمن المبيع ونحو ذلك ، ومذهب مالك بخلاف ذلك .
وقال الغزالي : فيها وجهان : وحسنوا قول الزوج .
قال ابن تيمية : وكذلك يجيء لأصحاب أحمد وجهان كما لو كان الصداق منفعة حصلت لها ، فقالت : حصلت من غيرك وقال : بل حصلت منّي مثل أن يصدقها تعليم قصيدة أو غيرها مما يجوز جعله صداقاً فإنها إذا تعلمت من غيره كان عليه الأجرة ، فإن قال : أنا علمتها وقالت : بل غيره ، ففيها وجهان ، فهكذا في النَّفقة ، فإنها لا بُدَّ أن تكون قد ارتزقت في الزمن الماضي ، وهو يقول : أنا رزقتها ، وهي تقول : بل غيره .
والصَّواب المقطُوع به أنه لا يقبل قولها في ذلك مطلقاً ؛ فإن هذا فيه فساد عظيم على هذا القول في مذهب الشَّافعي ، وقول أحمد الموافق له ولا يجيء ذلك على مذهب مالك ، ولا على مذهب أبي حنيفة ، وقول أحمد الموافق له ؛ فإنا إذا قلنا : إن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان لم يقبل دعواها بالنفقة الماضية ، وإنما يجيء على قولنا إن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان ، كما هو المشهور من مذهب أحمد ، وهو قول الشافعي .
والعُمْدَة في ذلك الأمر المعروف عن عمر بن الخطاب ؛ قال ابن المُنذِر : إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غلبوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا ، أو يطلقوا ؛ فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ، وليس قبول الزوجة في ذلك مأثوراً عن أحمد ، ولا ملائماً لأصوله ، فإنه في تداعي الزوجين وغيرهما يرجح من تشهد له اليد الحكمية العرفية دون اليد الحسية ، ومعلوم أن المدعى عليه يترجح تارة باليد في الأعيان وببراءة الذمة في الحقوق ، فكما أن في اليد لم يلتفت إلى مُجرَّد الحس ، بل يرجع إلى اليد الحكمية التي يستدلّ عليها بالأفعال والتصرفات ؛ إذ الأَصل في الدعاوى ترجيح مَنِ الظَّاهرُ معهُ . والظهور يستدلّ عليه بالأفعال والتصرفات والأمور العادية ، كما يستدلّ عليها بمجرد اليد الحسية ، فإذا كانت العادة الغالبة والعرف المعروف يقتضي وجود فعل لم يكن الظاهر عدمه حتى يرجح قول من يدعي عدمه .
أحدها : أنه قد وجد كسوة ونفقة وإنما تنازعا في المنفق ، فقال هو : مني ، وقالت هي : من غيرك ، فهنا الأصل عدم غيره ، ثم إنها تطالب بتعيين ذلك الغير ، فإن ادعت ممتنعاً لم يقبل بحال ، وإن ادعت ممكناً فهو محل التردُّد ، فإن إنفاقه واجب ، والأمر الحادث يضاف إلى السبب القوي دون الضعيف .
والأصل الثاني : أن العادة والعرف إذا قضي بوجود أمر فهل القول قول نافيه ، أو قول مثبته .
والأصل الثالث : أن ما يتعذر إقامة البينة عليه لا يكلف إقامة البينة عليه كالوطء ، ومن المعلوم أن المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها ورسوله ليس فيها شهادة على المرأة بذلك ؛ لأن ذلك ليس من الأمر بالمعروف ، ولهذا لم يفعله أحد على عهد سلف الأمة ولا يفعله جماهير بني آدم ، وفعله إما متعذّر أو متعسر ، فإنه إن أطعمها مما يأكل فليس عنده من يشهد على إطعامها وإن ناولها طعاماً كلَّ يوم فمن المتعسّر شهود في كل وقت ، وقد يكونان ساكنين حيث لا شهود ، وهذا ظاهر بيِّن .
الأصل الرابع : أن المرأة مفرطة بترك أخذ نفقتها منه بالمعروف ، ومطالبته بها إذا كان لا ينفق ، بخلاف ما إذا كان غائباً ، وهي الصُّورة التي روي عن عمر أنه أمر فيها بنفقة الماضي ، بل قد يقال : إن ذلك رضا منها بترك النفقة ، وليس هذا قولاً بسقوط النفقة في الماضي ، بل بأن هذا دليل من جهة العرف على أنها إما أن تكون قد أنفق عليها ، أو تكون راضية بترك النفقة .
وهذا أصل خامس : وهو أن العادة المعروفة تدل على أن المرأة إذا سكتت مدة طويلة عن المطالبة بالنفقة مع القدرة على الطلب كانت راضية بسقوطها .
فصل في النفقة والكسوة بالمعروف
وأما النفقة والكسوة بالمعروف وهي الواجبة بنصّ القرآن ، فهو ما كان في عرف الناس في حالهما نوعاً وقدراً وصفة ، وإن كان ذلك يتنوّع بتنوّع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار ، والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد والعرف عندهم .
وقال بعضهم : هي مقدَّرة بالشَّرع نوعاً وقدراً مُدًّا من حنطة ، أو مدًّا ونصفاً أو مدَّين قياساً على الإطعام الواجب في الكفارة . والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علماً وعملاً قديماً وحديثاً لقول الله تعالى : { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف }[ البقرة : 233 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - لهند : «خُذِي مَا يَكْفيكِ وَولدَكِ بالمَعْرُوفِ »{[57105]} ، ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً ، ولو كان ذلك مقدّراً بشرع لبينه لها قدراً ونوعاً كما بين فرائض الزكوات والديات .
وقال - عليه الصلاة والسلام - في خطبته ب «عرفات » : «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف »{[57106]} .
ومن المعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحال الزوجة في حاجتها ، وبتنوع الزمان والمكان وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره ، فليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة ، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف ولا كفاية طعام الشتاء مثل طعام الصيف ولا طعام البلاد الحارَّة كالباردة ، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير كالمعروف في بلاد الفاكهة والخبز .
«وقال - عليه الصلاة والسلام - للذي سأله : مَا حَقُّ زَوجةِ أحدنّا عليْهِ ؟ .
قال : " تُطْعِمُها إذَا أكَلْتَ ، وتَكسُوهَا إذَا اكتَسيْتَ ، ولا تَضْرِبِ الوَجْهَ ولا تُقَبِّحْ ولا تَهْجُر إلاَّ في البيْتِ " {[57107]} .
وهكذا قال في نفقة المماليك : «هُمْ إخْوانُكُمْ وخَولكُمْ جعلهُم اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ فَمَن كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدهِ فليُطْعِمْهُ ممَّا يأكلُ ، وَليُلْبِسْهُ ممَّا يَلبسُ ولا تُكلِّفُوهُمْ ما يَغلبُهُمْ فإن كلَّفْتُموهُمْ فأعينُوهُمْ »{[57108]} .
ففي الزوجة والمملُوك أمر واحد ، فالواجب على هذا هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع ، والقدرة ، وصفة الإنفاق .
فأما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلاً كالبُرِّ ، ولا موزوناً كالخبز ، ولا ثمن ذلك كالدَّراهم ، بل يرجع في ذلك إلى العرف ، فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن تكون عادتهم أكل التَّمْر والشعير فيعطيها ذلك ، أو تكون عادتهم أكل الخبز والأدم ، فيعطيها ذلك والطبيخ ، فيعطيها ذلك ، وإن كان عادتهم أن يعطيها حباً فتطحنه في البيت فعل ذلك ، وإن كان يطحن في الطَّاحون ويخبز في البيت فعل ذلك ، وإن كان يخبز في غير البيت فعل ذلك ، وإن كان يشتري مخبُوزاً من السُّوق فعل ذلك ، وكذلك الطَّبيخ ونحوه ، فذلك هو المعروف فلا يتعيَّن عليه دراهم ولا حَبُّ أصلاً ، فإن تعيين ذلك من المنكر ليس من المعروف ، وهو مصرٌّ بها تارة ، وبه تارة ، وبهما أخرى ، وكذلك القدر لا يتعين مقدراً مطرداً ، بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات .
وأما الإنفاق ، فقد قيل : إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة .
وقيل : لا يجب التمليك ، وهو الصَّواب ، فإن ذلك ليس من المعروف ، بل عرف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزلة فيأكل هو وزوجته ومملوكه جميعاً تارة ، وتارة أفراداً ، ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه ، ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم تتصرف فيها تصرف الملاك ، بل من عاشر امرأته بمثل هذا كان عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف ، وتضارّا في العشرة ، وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرار لا عند العشرة بالمعروف .
وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم أوجب للزوجة مثل ما أوجب للمملوك كما تقدم .
وقد اتَّفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته ، فدل على عدم وجوب التمليك في حق الزوجة .
وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل ، ويكسوها إذا اكتسى ، وكان ذلك هو المعروف لمثلها في بلدها ، فلا حق لها سوى ذلك ، وإن أنكرت ذلك فعلى الحاكم أن يجبره أن ينفق بالمعروف ، ليس على الحاكم بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقاً أو حَبّ مقدر مطلقاً ، لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما .
قال القرطبي{[57109]} في قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ } أي : «لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصَّغير على قدر وسعه ، فيوسع إذا كان موسعاً عليه ، ومن كان فقيراً فعلى قدر ذلك ، فتقدر النَّفقة بحسب حال المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة » .
وقال الشافعي رحمه الله : النفقة محدودة ، ولا اجتهاد للحاكم ولا المفتي فيها وتقديرها هو بحال الزَّوج وحده من يُسره وعُسْره ، ولا اعتبار بحالها ، فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس ، فيلزم الزوج الموسر مدَّان ، والمتوسط مد ونصف والمعسر مُدّ ؛ لظاهر قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } .
فجعل الاعتبار بحال الزوج في اليُسْر والعُسْر ؛ ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة ؛ لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها ، وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها ، فقدرت قطعاً للخصومة لهذه الآية ، ولقوله تعالى : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } .
وأجاب القرطبي : بأن هذه الآية لا تعطي أكثر من الفرق بين الغني والفقير ، وأنها تختلف بعُسْر الزوج ويُسْره ، فأما أنه لا اعتبار بحال الزوجة فليس فيها ، وقد قال تعالى : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } [ البقرة : 233 ] ، وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقها ؛ لأنه لم يخص في ذلك واحداً منهما ، وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام لهند : «خُذِي ما يَكْفيكِ وولَدَك بالمعرُوفِ » ، فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان .