وبعد أن بين - سبحانه - أحكام أصحاب الأعذار المقبولة ، أتبع ذلك ببيان أحكام الأعذار الكاذبة ، والصفات القبيحة ، فقال تعالى : { إِنَّمَا السبيل . . . . القوم الفاسقين } .
فهذه الآيات الكريمة بيان لما سيكون من أمر المنافقين الذين قعدوا في المدينة بدون عذر ، بعد أن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم والمؤمنون من تبوك .
والمعنى : إذا كان الضعفاء والمرضى ومن حكمهم ، لا إثم ولا عقوبة عليهم بسبب تخلفهم عن الجهاد ، فإن " السبيل " أي الإِثم والعقوبة { عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ } في التخلف " وهم أغنياء " أى يمكلون كل وسائل الجهاد من مال وقوة وعدة .
وقوله : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } استئناف تعليلي مسبوق لمزيد مذمتهم .
أى : استأذنوك مع غناهم وقدرتهم على القتال ، لأنهم لخو قلوبهم من الإِيمان ، ولسوقط همتهم وجبنهم ، رضوا لأنفسهم أن يبقوا في المدينة مع الخالف من النساء والصبيان والعجزة .
وقوله : { وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } بيان لسوء مصيرهم .
أى : وبسبب هذا الإِصرار على النفاق ، والتمادى في الفسوق العصيان ، ختم الله - تعالى - على قلوبهم ، فصارت لا تعلم ما يترتب على ذلك من مصائب دينية ودنيوية وأخروية .
يتألف هذا الجزء من بقية سورة التوبة - التي سبق الشطر الأكبر منها في الجزء العاشر - ومن سورة يونس . . وسنمضي أولاً مع بقية سورة التوبة : أما سورة يونس فسنعرف بها في موضعا من هذا الجزء إن شاء اللّه .
لقد جاء في الجزء العاشر عن سورة التوبة هذه الفقرات التي تكشف عن طبيعتها ؛ وعن الملابسات والظروف التي أحاطت بنزولها ؛ وعن أهميتها في بيان العلاقات النهائية بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى ؛ وفي بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام أيضا :
" هذه السورة المدنية ، من أواخر ما نزل من القرآن - إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن - ومن ثم قد تضمنت أحكاماً نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض ؛ كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته ، وتحديد قيمه ومقاماته ، وأوضاع كل طائفة فيه ، وكل طبقة من طبقاته ؛ ووصف واقع هذا المجتمع بجملته ، وواقع كل طائفة منه وكل طبقة وصفاً دقيقا مصورا مبينا .
" والسورة - بهذا الاعتبار - ذات أهمية خاصة في بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام ومراحله وخطواته - حين تراجع الأحكام النهائية التي تضمنتها مع الأحكام المرحلية التي جاءت في السور قبلها - وهذه المراجعة تكشف عن مدى مرونة ذلك المنهج ، وعن مدى حسمه كذلك . وبدون هذه المراجعة تختلط هذه الصور والأحكام والقواعد ؛ كما يقع كلما انتزعت الآيات التي تتضمن أحكاماً مرحلية فجعلت نهائية ؛ ثم أريد للآيات التي تتضمن الأحكام النهائية أن تفسر وتؤول لتطابق تلك الأحكام المرحلية ؛ وبخاصة في موضوع الجهاد الإسلامي ، وعلاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى . . . " . .
كذلك ذكرنا في تقديم السورة أنها ذات مقاطع - مع وحدة موضوعها وجوها وملابساتها - يتولى كل مقطع بيان الأحكام النهائية في موضوعه . . وقد تناول المقطع الأول منها بيان أحكام العلاقات النهائية بين المسلمين والمشركين في الجزيرة العربية . كما تناول المقطع الثاني بيان أحكام العلاقات النهائية بين المسلمين وأهل الكتاب عامة . ثم تولى المقطع الثالث النعي على المتثاقلين الذين دعوا إلى التجهز لغزوة تبوك - أي غزو أهل الكتاب المتجمعين على أطراف الجزيرة للانقضاض على الإسلام والمجتمع الإسلامي - كما تولى المقطع الرابع فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم ، ووصف أحوالهم النفسية والعملية ، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها ، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد ، وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف المسلم ، وإيذاء رسول اللّه - [ ص ] - والخلص من المؤمنين .
يصاحب هذا الكشف تحذير الخلص من المؤمنين من كيد المنافقين ، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء ، والمفاصلة بين الفريقين ، وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله . . .
وهذه المقاطع الأربعة قد سيقت بجملتها في الجَزء العاشر . . إلا بقية في الحديث عن المتخلفين ، وعن حدود التبعة في التخلف عن الجهاد . .
ولقد كانت آخر آية في الجزء العاشر هي قوله تعالى :
( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، حرج إذا نصحوا للّه ورسوله . ما على المحسنين من سبيل ، واللّه غفور رحيم . ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت : لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ) .
أما التكملة التي يبدأ بها هذا الجزء فهي قوله تعالى :
( إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، وطبع اللّه على قلوبهم ، فهم لا يعلمون . يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم . قل لا تعتذروا ، لن نؤمن لكم ، قد نبأنا اللّه من أخباركم ، وسيرى اللّه عملكم ورسوله ، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون . سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ؛ فأعرضوا عنهم إنهم رجس ، ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم ، فإن ترضوا عنهم فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين )
وقد كان هذا من إنباء اللّه - سبحانه - لنبيه - [ ص ] - عما سيكون من حال المنافقين المتخلفين وأعذارهم إذا رجع من الغزوة سالماً هو ومن معه من المسلمين الخلص ؛ وتوجيه له ولهم إلى ما يجب أن يجيبوهم به ، وما يجب أن يعاملوهم به كذلك .
بعد ذلك يجيء المقطع الخامس في السورة وهو يتولى تصنيف المجتمع المسلم بجملته في هذه الفترة - من الفتح إلى تبوك - ومنه نعلم - كما قلنا في تقديم السورة - أنه كان إلى جوار السابقين المخلصين من المهاجرين والانصار - وهم الذين كانوا يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية - جماعات أخرى . . الأعراب ، وفيهم المخلصون والمنافقون . والمنافقون من أهل المدينة ، وآخرون خلطوا عملاَ صالحاً وآخر سيئا ولم يتم انطباعهم بالطابع الإسلامي ، ولم يصهروا في بوتقة الإسلام تماماً . وطائفة مجهولة الحال لا تعرف حقيقة مصيرها ، متروك أمرها لله وفق ما يعلمه من حقيقة حالها ومآلها . ومتآمرون يتسترون باسم الإسلام ، ويدبرون المكائد ، ويتصلون بأعداء الإسلام في الخارج . . والنصوص القرآنية تتحدث عن هذه الجماعات كلها في اختصار مفيد ؛ وتقرر كيف تعامل في المجتمع المسلم ؛ وتوجه رسول اللّه [ ص ] والخلص من المسلمين إلى طريقة التعامل مع كل منهم في مثل هذه النصوص :
( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله . والله عليم حكيم . ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ، ويتربص بكم الدوائر . عليهم دائرة السوء ، والله سميع عليم . ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول . ألا إنها قربة لهم ، سيدخلهم الله في رحمته ، إن الله غفور رحيم ) . .
( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، ذلك الفوز العظيم ) . .
( وممن حولكم من الأعراب منافقون ، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ، لا تعلمهم نحن نعلمهم ، سنعذبهم مرتين ، ثم يردون إلى عذاب عظيم ) . .
( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا ، عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم . خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ، والله سميع عليم . . . ) .
( وآخرون مرجون لأمر الله ، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، والله عليم حكيم ) . .
( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ؛ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ، والله يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبدا ، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، والله يحب المطهرين ) . .
وسنحاول أن نتبين من هم المقصودون بكل فئة من هذه الفئات ، في ثنايا استعراض النصوص فيما بعد تفصيلا .
فأما المقطع السادس والأخير في السورة ، فيتضمن تقريرا لطبيعة البيعة الإسلامية مع الله سبحانه على الجهاد في سبيله ؛ وطبيعة هذا الجهاد وحدوده وكيفيته ؛ وواجب أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فيه . . كذلك يتضمن ضرورة المفاضلة الكاملة بين المسلمين ومن عداهم على أساس العقيدة وحدها ؛ وإقامة العلاقات بينهم وبين من عداهم على هذه الوشيجة دون سواها ؛ بما في ذلك أهلهم وقرابتهم وعشيرتهم . . ثم يتضمن بياناً لمصائر الذين تخلفوا عن الغزوة غير منافقين ولا متآمرين ؛ مع ذكر بعض أحوال المنافقين ومواقفهم المميزة لهم تجاه الأوامر القرآنية . . وذلك في مثل هذه النصوص :
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ، وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن . ومن أوفى بعهده ، من اللّه ? فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم ) .
( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه ، إن إبراهيم لأوّاه حليم ) .
( لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة - من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم - ثم تاب عليهم ، إنه بهم رؤوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا ، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ، ثم تاب عليهم ليتوبوا ، إن اللّه هو التواب الرحيم ) .
( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه ، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ، ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون . وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) .
( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ، واعلموا أن اللّه مع المتقين ) .
( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول : أيكم زادته هذه إيماناً ? فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم ، وماتوا وهم كافرون ) .
( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد ? ثم انصرفوا ، صرف اللّه قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) . .
وفي النهاية تختم السورة بصفة رسول اللّه - [ ص ] - وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده ، والاكتفاء بكفالته سبحانه :
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم . فإن تولوا فقل : حسبي اللّه ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ) . .
وسنحاول بعد هذا الاستعراض السريع أن نواجه النصوص القرآنية الباقية في السورة بالتفصيل . . واللّه المعين . .
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ، ولا يجد لهم الرسول - [ ص ] - ما يحملهم عليه إلى أرض المعركة . . من جناح ولا حرج إذا هم تخلفوا عن المعركة . . إنما الجناح والحرج على الذين يستأذنون رسول اللّه - [ ص ] - في القعود وهم أغنياء قادرون ، لا يقعدهم عذر حقيقي عن الخروج . . إنما الجناح والحرج على هؤلاء القادرين الذين يرضون أن يقعدوا قعدة الخوالف في الدور . .
هؤلاء هم المؤاخذون يتخلفهم عن الخروج ، والاستئذان في القعود ، ذلك أنهم ناكلون متثاقلون ، ولا يؤدون حق اللّه عليهم وقد أغناهم وأقدرهم ؛ ولا يؤدون حق الإسلام وقد حماهم وأعزهم ؛ ولا يؤدون حق المجتمع الذي يعيشون فيه وقد أكرمهم وكفلهم . . ومن ثم يختار اللّه - سبحانه - لهم هذا الوصف :
( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) . .
فهو سقوط الهمة ، وضعف العزيمة ، والرضا بأن يكونوا مع النساء والأطفال والعجزة الذين يخلفون في الدور لعجزهم عن تكاليف الجهاد . . وهم معذورون . . فأما أولئك فما هم بمعذورين !
( وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون ) . .
فقد أغلق اللّه فيهم منافذ الشعور والعلم ، وعطل فيهم أجهزة الاستقبال والإدراك ، بما ارتضوه هم لأنفسهم من الخمول والبلادة والوخم ، والاحتجاب عن مزاولة النشاط الحركي الحي المتفتح المنطلق الوثاب ! وما يؤثر الإنسان السلامة الذليلة والراحة البليدة إلا وقد فرغت نفسه من دوافع التطلع والتذوق والتجربة والمعرفة ، فوق ما فرغت من دوافع الوجود والشهود والتأثر والتأثير في واقع الحياة . وإن بلادة الراحة لتغلق المنافذ والمشاعر ، وتطبع على القلوب والعقول . والحركة دليل الحياة ، ومحرك في الوقت ذاته للحياة . ومواجهة الخطر تستثير كوامن النفس وطاقات العقل ، وتشد العضل ، وتكشف عن الاستعدادات المخبوءة التي تنتفض عند الحاجة ، وتدرب الطاقات البشرية على العمل وتشحذها للتلبية والاستجابة . . وكل أولئك ألوان من العلم والمعرفة والتفتح يحرمها طلاب الراحة البليدة والسلامة الذليلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عاب أهل السعة، فقال: {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف}، يعني مع النساء بالمدينة، وهم المنافقون، {وطبع الله على قلوبهم}، يعني وختم على قلوبهم بالكفر، يعني المنافقين، {فهم لا يعلمون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما السبيل بالعقوبة على أهل العذر، يا محمد، ولكنها على الذين يستأذنونك في التخلف خِلافَك، وترك الجهاد معك، وهم أهل غنى وقوّةٍ وطاقةٍ للجهاد والغزو، نفاقًا وشكًّا في وعد الله ووعيده (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف)، يقول: رضوا بأن يجلسوا بعدك مع النساء = وهن "الخوالف"، خلف الرجال في البيوت، ويتركوا الغزو معك (وطبع الله على قلوبهم)، يقول: وختم الله على قلوبهم بما كسبوا من الذنوب (فهم لا يعلمون)، سوء عاقبتهم، بتخلفهم عنك، وتركهم الجهاد معك، وما عليهم من قبيح الثناء في الدنيا، وعظيم البلاء في الآخرة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يريد السبيل بالعقوبة والملامة على الذين يتأخرون عنك في الخروج إلى الجهادِ ولهم الأُهبة والمُكْنَة، وتساعدهم على الخروج الاستطاعةُ والقدرةُ؛ فإِذا استأذنوك للخروج وأظهروا لم يَصْدقُوا، فهم مُسْتَوجِبُونَ للنكير عليهم، لأنَّ مَنْ صَدَقَ في الولاء لا يحتشم من مقاساةِ العناء، والذي هو في الولاءِ مماذِقٌ وللصِّدقِ مفَارِقٌ يتعلَّلُ بما لا أصل له، لأنه حُرِمَ الخلوصَ فيما هو أَهْلٌ له...
قوله جلّ ذكره: {رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ}... والإسلام يثني على الشجاعة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} يعني أن السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان الله تعالى إياهم...
إنه تعالى لما قال في الآية الأولى: {ما على المحسنين من سبيل} قال في هذه الآية إنما السبيل على من كان كذا وكذا، ثم الذين قالوا في الآية الأولى المراد {ما على المحسنين من سبيل} في أمر الغزو والجهاد، وأن نفي السبيل في تلك الآية مخصوص بهذا الحكم. قالوا: السبيل الذي نفاه عن المحسنين هو الذي أثبته في هؤلاء المنافقين، وهو الذي يختص بالجهاد، والمعنى: أن هؤلاء الأغنياء الذين يستأذنوك في التخلف سبيل الله عليهم لازم، وتكليفه عليهم بالذهاب إلى الغزو متوجه، ولا عذر لهم البتة في التخلف...
{وطبع الله على قلوبهم} يعني أن السبب في نفرتهم عن الجهاد، هو أن الله طبع على قلوبهم، فلأجل ذلك الطبع لا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نفى السبيل عمن وصفهكر على ذم من انتفى عنه هذا الوصف فقال تعالى: {إنما السبيل} أي باللوم وغيره {على الذين يستأذنونك} أي يطلبون إذنك في التخلف عنك راغبين فيه {وهم أغنياء} أي فلا عذر لهم في التخلف عنك وعدم مواساتك، وتضمن قوله تعالى مستأنفاً: {رضوا بأن يكونوا} أي كوناً كأنه جبلة لهم {مع الخوالف} انتفاء الضعف والمرض عنهم من حيث إنه علل فعلهم برضاهم بالتخلف فأفهم ذلك أنه لا علة لهم سواه، وأفهم أيضاً أن كل من كان كذلك كان مثلهم ولو أنه ضعيف أو مريض، وكرر ذكر الخوالف تكريراً لعيبهم برضاهم بالكون في عداد النساء إذ كان ذلك من أعظم المعايب عند العرب، وسمى الفاعل للطبع حيث حذفه من الأولى: ولما ذكره، عظم الأمر فاقتضى ذلك عظم الطبع فنفى مطلق العلم فقال عاطفاً على "رضوا ": {وطبع الله} أي الذي له القدرة الكاملة والعلم المحيط {على قلوبهم} ثم سبب عن ذلك الرضى والطبع قوله: {فهم لا يعلمون} أي لا علم لهم فلذلك جهلوا ما في الجهاد من منافع الدارين لهم فلذلك رضوا بما لا يرضى به عاقل، وهو أبلغ من نفي الفقه في الأولى، وزاد المناسبة حسناً ضم الأعراب في هذه الآيات إلى أهل الحاضرة وهم بعيدون من الفقه جديرون بعدم العلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما بين أن كل أولئك ما عليهم من سبيل بقي بيان من عليهم السبيل في تلك الحال فذكرهم بقوله: {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء} الواضح السوي الموصل إلى المؤاخذة والمعاقبة بالحق.
{على الذين يستأذنونك وهم أغنياء} أي يطلبون الإذن لهم في القعود والتخلف عن النفر، والحال أنهم أغنياء في حال هذا الاستئذان ومن قبله، قادرون على إعداد العدة له من زاد ورواحل وغير ذلك، ولماذا؟
{رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف والخالفين، من النساء والأطفال والمعذورين، بل مع الفاسدي الأخلاق المفسدين.
{وطبع الله على قلوبهم} فأحاط بهم ما جروا عليه من خطاياهم وذنوبهم، بحسب سنن الله تعالى في أمثالهم.
{فهم لا يعلمون} كنه حالهم، ولا سوء مآلهم، وما هو سببه من أعمالهم.
فأما حالهم في التخلف وطلب القعود مع الخوالف بغير أدنى عذر فهو رضا بالذل والمهانة في الدنيا، لأن تخلف الأفراد عن القتال الذي تقوم به الشعوب والأقوام، ورضاء الرجال الانتظام في سلك النساء والأطفال، يعد في عرف العرب والعجم من أعظم مظاهر الخزي والعار، وهو في حكم الإسلام أقوى آيات الكفر والنفاق.
وأما مآلهم وسوء عاقبتهم فيه فهو ما فضحهم الله به في هذه السورة، وما شرعه لرسوله وللمؤمنين من جهادهم وإهانتهم، وعدم العود إلى معاملتهم بظاهر إسلامهم، وما عده لهم من العذاب الأليم، والخزي الدائم في نار الجحيم.
وهاتان الآيتان بمعنى الآيتين [86، 87] ولكن أسند فعل الطبع على القلوب في هذه الآية إلى اسمه عز وجل، وهنالك أسند إلى المفعول، والمراد من كل منهما، وهو بيان سنة الله تعالى وقدره في علاقة الأعمال بالعقائد والسجايا والأخلاق، إلا أن التصريح باسم الله تعالى فيه مزيد إهانة لهم. وعبر هنا بالعلم وهناك بالفقه، والمراد واحد، وهو الإدراك والعرفان الصحيح الذي يبعث على العمل بمقتضاه، ولكن المتبادر من العلم تيقن المعلوم، ومن الفقه تأثير العلم في النفس...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنما الجناح والحرج على الذين يستأذنون رسول اللّه -[ص]- في القعود وهم أغنياء قادرون، لا يقعدهم عذر حقيقي عن الخروج.. إنما الجناح والحرج على هؤلاء القادرين الذين يرضون أن يقعدوا قعدة الخوالف في الدور.. هؤلاء هم المؤاخذون يتخلفهم عن الخروج، والاستئذان في القعود، ذلك أنهم ناكلون متثاقلون، ولا يؤدون حق اللّه عليهم وقد أغناهم وأقدرهم؛ ولا يؤدون حق الإسلام وقد حماهم وأعزهم؛ ولا يؤدون حق المجتمع الذي يعيشون فيه وقد أكرمهم وكفلهم.. ومن ثم يختار اللّه -سبحانه- لهم هذا الوصف: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف).. فهو سقوط الهمة، وضعف العزيمة، والرضا بأن يكونوا مع النساء والأطفال والعجزة الذين يخلفون في الدور لعجزهم عن تكاليف الجهاد.. وهم معذورون.. فأما أولئك فما هم بمعذورين!
(وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون).. فقد أغلق اللّه فيهم منافذ الشعور والعلم، وعطل فيهم أجهزة الاستقبال والإدراك، بما ارتضوه هم لأنفسهم من الخمول والبلادة والوخم، والاحتجاب عن مزاولة النشاط الحركي الحي المتفتح المنطلق الوثاب! وما يؤثر الإنسان السلامة الذليلة والراحة البليدة إلا وقد فرغت نفسه من دوافع التطلع والتذوق والتجربة والمعرفة، فوق ما فرغت من دوافع الوجود والشهود والتأثر والتأثير في واقع الحياة. وإن بلادة الراحة لتغلق المنافذ والمشاعر، وتطبع على القلوب والعقول. والحركة دليل الحياة، ومحرك في الوقت ذاته للحياة. ومواجهة الخطر تستثير كوامن النفس وطاقات العقل، وتشد العضل، وتكشف عن الاستعدادات المخبوءة التي تنتفض عند الحاجة، وتدرب الطاقات البشرية على العمل وتشحذها للتلبية والاستجابة.. وكل أولئك ألوان من العلم والمعرفة والتفتح يحرمها طلاب الراحة البليدة والسلامة الذليلة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} أي رضوا بأن يكونوا مع العواجز، بعيدين عن جبهة القتال ومتاعبه، آمنين على أنفسهم من مفاجآت الجهاد. ولا ينبغي أن يفهم من هذا السياق أن النساء المسلمات جميعا كن محرومات من شرف الجهاد والوقوف بجانب المجاهدين، بل إنهن على العكس من ذلك، فقد كان القادرات منهن على التطوع يتطوعن بالجهاد، وان لم يفرض عليهن، ويشاركن فيه مشاركة فعالة إلى جانب الرجال، وكان نصيبهن من الغنائم يقدم لهن في صورة هدايا وعطايا تعطى لهن تشجيعا على التطوع للجهاد، وتقديرا لتضحياتهن في سبيل إعلاء كلمة الله.
... ونعلم أن الغني إذا أطلق ينصرف إلى غنى المال، ولكن الغني إذا جاء بالمعنى الخاص، يكون معناه ما يدل عليه النص. فالذي لا يجد ما ينفقه أعفى. إذن: فمن يجد ما ينفقه فهو غني بطعامه. والضعيف قد أعفي، إذن: فالقويّ غنيّ بقوته. والمريض أعفى، إذن: فالصحيح غني بصحته. ومن لا يجد ما ينقله إلى مكان فقد أعفي، إذن: فمن يملك راحة فهو غني براحته. وعلى ذلك لا تأخذ كلمة "الغني "على المال فقط، بل انظر إلى من تنطبق عليه شروط الجهاد؟ إذن: فاللوم والتوبيخ والتعنيف والإثم على الأغنياء بهذه الأشياء، وطلبوا أن يقعدوا عن الجهاد...
ثم يعلمنا الحق سبحانه وتعالى بعقابهم، فيقول: {وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أمّا آخر الآية فتبين وضع الفئة الخامسة، وهم الذين لم يعذروا، ولن يُعذروا عند الله تعالى، فإنّهم قد توفرت فيهم كل الشروط، ويملكون كل مستلزمات الجهاد، فوجب عليهم حتماً، لكنّهم رغم ذلك يحاولون التملّص من أداء هذا الواجب الإِلهي الخطير، فجاؤوا إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلبون الإِذن في الانصراف عن الحرب، فبيّنت الآية أنّهم سيؤاخذون بتهربهم ويعاقبون عليه: (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء).
وتضيف الآية بأنّ هؤلاء يكفيهم عاراً وخزياً أن يرضوا بالبقاء مع العاجزين والمرضى رغم سلامتهم وقدرتهم، ولم يهتموا بأنّهم سيحرمون من فخر الاشتراك في الجهاد: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف). وكفى به عقاباً أن يسلبهم الله القدرة على التفكر والإِدراك نتيجة أعمالهم السيئة هذه، ولذلك أبغضهم الله (وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون).
ـ تتّضح من هذه الآيات ـ بصورة جلية وواضحة ـ المعنويات القوية العالية لجنود الإِسلام، وكيف أن قلوبهم كانت تتطلع بشوق، وتتحرق عشقاً للجهاد والشهادة، وهذا الفخر والوسام مقدم على جميع الأوسمة والصفات الأُخرى التي كانوا يمتلكونها، ومن هنا يتّضح عامل هو من أهم عوامل التقدم السريع للإِسلام وتطوره وانتشاره في ذلك اليوم، وتخلفنا في الوقت الحاضر لفقداننا هذا الوسام.
كيف يمكننا أن نجعل من يبكي ألماً وحسرة لحرمانه من الجهاد، وإن كان لعذر، ومن يحاول التذرع بألف عذر وعذر من أجل الفرار من صف المجاهدين، في صف واحد ومرتبة واحدة؟
إذا رجعت إِلينا روح الإِيمان وحبّ الجهاد وعشقه، والافتخار بالشهادة في سبيل الله، ودبت في واقعنا الميت، فإنّنا سنحصل على نفس الامتيازات والانتصارات التي حققها وحصل عليها مسلمو الصدر الأوّل.
إنّ تعاستنا وتخلفنا يكمن في أننا التزمنا بالإِسلام ظاهراً، واتخذناه ردءاً دون أن ينفذ إِلى أعماقنا ووجودنا، ورغم ذلك فإننا نتوقع أن نصل بهذا الواقع إِلى مستوى المسلمين الأوائل!
ـ ونستفيد من الآيات السابقة أيضاً، أنّه لا يستثنى أحد ـ بصورة عامّة ـ من المشاركة في أمر الجهاد، من دعم المجاهدين، وإسنادهم في جهادهم، حتى المرضى والعاجزين عن حمل الأسلحة والمشاركة في ميدان الحرب، فإنّهم إن عجزوا عن ذلك فهم قادرون أن يُرغّبوا المجاهدين ويثيروا حماسهم بكلامهم وبيانهم وسلوكهم، وأن يدعموا جهادهم بذلك، وفي الحقيقة فإنّ للجهاد مراحل متعددة، فإذا عُذر الإنسان عن احدى مراحله فإنّ ذلك لا يعني سقوط بقية المراحل عن ذمته.
ـ إنّ جملة (ما على المحسنين من سبيل) أصبحت منبعاً قانونياً واسعاً في المباحث الفقهية حيث استفاد الفقهاء منها أحكاماً كثيرة، فمثلا: إذ تلفت الوديعة في يد الأمين بدون أي افراط أو تفريط منه، فإنّه لا يكون ضامناً، ومن جملة الأدلّة على هذه المسألة هي الآية المذكورة، لأنّه محسن، ولم يرتكب مخالفة، فإذا اعتبرناه مسؤولا وضامناً، فإنّ هذا يعني أنّ المحسن مؤاخذ.
ليس هناك شك في أنّ الآية المذكورة قد وردت في المجاهدين، إلاّ أنا نعلم أن مورد الآية لا ينقص من عموميتها، وبعبارة أُخرى، فإن مورد الآية لا يخصص الحكم مطلقاً.