ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة خلق الإنسان ، وعن مظاهر قدرته فى هذا الكون ، فقال - تعالى - : { خَلَقَ الإنسان . . . } .
الصلصال - الطين اليابس الذى تسمع له صوتا وصلصلة إذا قرع بشىء .
والفخار : الخزف المجوف الذى صار كذلك بعد أن أدخل فى النار .
ولا تعارض بين هذه الآية ، وبين غيرها من الآيات التى تحكى أن الإنسان خلق من تراب أو من طين أو من صلصال من حمأ مسنون .
لأن كل آية تتحدث عن مرحلة من مراحل خلق الإنسان ، لأن هذا التراب صار طينا ، ثم خمر هذا الطين فصار حمأ مسنونا ، أى : طينا أسود متغير الرائحة ، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالا كالفخار .
فالآيات الكريمة التى تحدثت عن خلق الإنسان لا يصادم بعضها بعضا ، وإنما يؤيد بعضها بعضا .
قال بعض العلماء : وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوى من العناصر ما تحتويه الأرض ، فهو يتكون من الكربون ، والأكسجين ، والحديد .
وهذه نفسها هى العناصر المكونة للتراب ، وإن اختلفت نسبها من إنسان إلى آخر ، وفى الإنسان عن التراب ، إلا أن أصنافها واحدة .
إلا أن هذا الذى اثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمى للنص القرآنى .
فقد تكون الحقيقة القرآنية تعنى هذا الذى أثبته العلم ، أو تعنى شيئا آخر سواه ، وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التى يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب ، أو من طين ، أو من صلصال .
والذى ننبه إليه بشدة ، هو ضرورة عدم قصر النص القرآنى على كشف علمى بشرى ، قابل للخطأ والصواب ، وقابل للتعديل والتبديل ، كلما اتسعت معارف الإنسان ، وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة .
والمعنى : خلق - سبحانه - بقدرته أباكم آدم الذى هو أصلكم ، وعنه تفرع جنسكم من طين يابس يشبه الفخار فى يبوسته وصلابته .
ثم ينتقل من الامتنان عليهما بآلاء الله في الكون ، إلى الامتنان عليهما بآلائه في ذوات أنفسهما ، وفي خاصة وجودهما وإنشائهما :
( خلق الإنسان من صلصال كالفخار . وخلق الجان من مارج من نار . . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .
ونعمة الإيجاد والإنشاء أصل النعمة . والمسافة بين الوجود وعدم الوجود ابتداء مسافة لا تقاس أبعادها بأي مقياس مما يألفه البشر . فجميع المقاييس التي في أيدي البشر أو التي تدركها عقولهم ، هي مقاييس للفارق بين موجود وموجود . أما المسافة بين الموجود وغير الموجود فلا تدركها مدارك البشر بحال ! ونحسب الجن كذلك ، فإن هم إلا خلق مقاييسه مقاييس المخلوقات !
فحين يمتن الله على الجن والإنس بنعمة الإيجاد والإنشاء ؛ فإنما يمتن عليهما بالنعمة التي تفوق حد الإدراك .
ثم يقرر الحق سبحانه مادة خلق الإنس والجن ، وهي كذلك من خلق الله . والصلصال : الطين إذا يبس وصار له صوت وصلصلة عند الضرب عليه . وقد تكون هذه حلقة في سلسلة النشأة من الطين أو من التراب . كما أنها قد تكون تعبيرا عن حقيقة الوحدة بين مادة الإنسان ومادة الأرض في عناصر التكوين .
[ وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي من العناصر ما تحتويه الأرض . فهو يتكون من الكربون ، والأكسجين ، والأيدروجين ، والفوسفور ، والكبريت ، والآزوت ، والكالسيوم ، والبوتاسيوم ، والصوديوم ، والكلور ، والمغنسيوم ، والحديد ، والمنجنيز ، والنحاس ، واليود ، والفلورين ، والكوبالت ، والزنك ، والسلكون ، والألمنيوم . وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب . وإن اختلفت نسبها في إنسان عن الآخر ، وفي الإنسان عن التراب . إلا أن أصنافها واحدة ] .
إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآني . فقد تكون الحقيقة القرآنية تعني هذا الذي أثبته العلم ، أو تعني شيئا آخر سواه . وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب ، أو طين أو صلصال .
والذي ننبه إليه بشدة هو ضرورة عدم قصر النص القرآني على كشف علمي بشري ، قابل للخطأ والصواب ، وقابل للتعديل والتبديل ، كلما اتسعت معارف الإنسان وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة . فإن بعض المخلصين من الباحثين يسارعون إلى المطابقة بين مدلول النصوص القرآنية والكشوف العلمية - تجريبية أو افتراضية - بنية بيان ما في القرآن من إعجاز . فالقرآن معجز سواء طابقت الكشوف العلمية المتأرجحة نصوصه الثابتة أم لم تطابقها . ونصوصه أوسع مدلولا من حصرها في نطاق تلك الكشوف القابلة دائما للتبديل والتعديل ، بل للخطأ والصواب من الأساس ! وكل ما يستفاد من الكشوف العلمية في تفسير نصوص القرآن ، هو توسيع مدلولها في تصورنا كلما أطلعنا العلم على شيء مما تشير إليه إشارات مجملة من آيات الله في الأنفس والآفاق ، دون أن يحمل النص القرآني على أن مدلوله هو هذا الذي كشفه العلم . إنما جواز أن يكون هذا بعض ما يشير إليه .
فأما خلق الجان من مارج من نار . فمسألة خارجة عن حدود العلوم البشرية . والمصدر الواحد فيها هو هذا القرآن . خبر الله الصادق . الذي خلق وهو أعلم بمن خلق . . والمارج : المشتعل المتحرك كألسنة النار مع الرياح ! وللجان قدرة على الحياة في هذه الأرض مع الإنس . ولكنا لا ندري كيف يعيش الجان وقبيله . فأما الأمر المستيقن فهو أنهم مخاطبون بهذا القرآن كما سبق بيانه عند تفسير قوله تعالى : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . . )وكما هو الحال هنا في سورة الرحمن .
هذا انتقال إلى الاعتبار بخلق الله الإِنسان وخلقه الجن .
والقول في مجيء المسند فعلاً كالقول في قوله : { علم القرآن } [ الرحمن : 2 ] .
والمراد بالإِنسان آدم وهو أصل الجنس وقوله : { من صلصال } تقدم نظيره في سورة الحجر ( 2 ) .
والفخار : الطين المطبوخ بالنار ويُسمى الخزَف . وظاهر كلام المفسرين أن قوله : { كالفخار } صفة ل { صلصال } . وصرح بذلك الكواشي في « تلخيص التبصرة » ولم يعرجوا على فائدة هذا الوصف . والذي يظهر لي أن يكون كالفخار حالاً من { الإنسان } ، أي خلقه من صلصال فصار الإِنسان كالفخار في صورة خاصة وصلابة .
والمعنى أنه صلصال يابس يشبه يبس الطين المطبوخ والمشبه غير المشبه به ، وقد عبر عنه بالحمأ المسنون ، والطين اللازب ، والتراب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.