قوله تعالى : { وربك الغني } ، عن خلقه .
قوله تعالى : { ذو الرحمة } ، قال ابن عباس : بأوليائه وأهل طاعته ، وقال الكلبي : بخلقه ذو التجاوز .
قوله تعالى : { إن يشأ يذهبكم } ، يهلككم ، وعيد لأهل مكة .
قوله تعالى : { ويستخلف } ، ويخلف وينشئ .
قوله تعالى : { من بعدكم ما يشاء } . خلقاً غيركم أمثل وأطوع .
قوله تعالى : { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } ، أي : آبائهم الماضين قرناً بعد قرن .
ثم صرح - سبحانه - بغناه عن كل عمل وعن كل عامل ، وبأنه هو صاحب الرحمة الواسعة ، والقدرة النافذة فقال : { وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة } .
أى : وربك يا محمد هو الغنى عن جميع خلقه من كل الوجوه ، وهم الفقراء إليه فى جميع أحوالهم ، وهو وحده صاحب الرحمة الواسعة العامة التى شملت جميع خلقه .
والجملة الكريمة تفيد الحصر . وقوله : وربك مبتدأ ، والغنى خبره ، وقوله { ذُو الرحمة } خبر بعد خبر . وجوز أن يكون هو الخبر و " الغنى " صفة لربك .
وفى هذه الجملة تنبيه إلى أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل وغيره ، ليس لنفعه - سبحانه - ، بل لترحمه على العباد ، وتمهيد لقوله بعد ذلك .
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ } أى : أنه - سبحانه - إن يشأ إذهابكم إيها الناس بالإهلاك لفعل ذلك فهو قدير على كل شىء وعلى أن يشىء بعد إذهابكم ما يشاء من الخلق الذين يعملون بطاعته ، ولا يكونون أمثالكم .
والكاف فى قوله : { كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } فى موضع نصب والمعنى : إن الله - تعالى - قادر على أن يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافه مثل ما أنشأكم من ذرية قوم آخرين . ونظريه قوله - تعالى - { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً } وقوله { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ }
على أن الله - سبحانه - إنما يرسل رسله رحمة بالعباد ؛ فهو غني عنهم ؛ وعن إيمانهم به وعبادتهم له . وإذا أحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة . كذلك تتجلى رحمته في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك ، وهو القادر على أن يهلكه ، وينشئ جيلا آخر يستخلفه :
( وربك الغني ذو الرحمة . إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء . كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) .
فلا ينس الناس أنهم باقون برحمة الله ؛ وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله ؛ وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه . فليس هو سلطاناً أصيلاً ، ولا وجودا مختارا . فما لأحد في نشأته ووجوده من يد ؛ وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة . وذهابهم واستخلاف غيرهم هين على الله . كما أنه أنشأهم من ذرية جيل غبر . واستخلفوا هم من بعده بقدر من الله .
إنها طرقات قوية وإيقاعات عنيفة على قلوب الظالمين من شياطين الإنس والجن الذين يمكرون ويتطاولون ، ويحرمون ويحللون ، ويجادلون في شرع الله بما يشرعون . . وهم هكذا في قبضة الله يبقيهم كيف شاء ، ويذهب بهم أنى شاء ، ويستخلف من بعدهم ما يشاء . . كما أنها ايقاعات من التثبيت والطمأنينة والثقة في قلوب العصبة المسلمة ، التي تلقى العنت من كيد الشياطين ومكرهم ؛ ومن أذى المجرمين وعدائهم . . فهؤلاء هم في قبضة الله ضعافا حتى وهم يتجبرون في الأرض ويمكرون !
يقول [ تعالى ]{[11240]} { وَرَبُّكَ } يا محمد { الْغَنِيُّ } أي : عن جميع خلقه من جميع الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، { ذُو الرَّحْمَةِ } أي : وهو مع ذلك رحيم بهم رؤوف ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] .
{ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي : إذا خالفتم أمره { وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ } أي : قوما آخرين ، أي : يعملون بطاعته{[11241]} ، { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } أي : هو قادر على ذلك ، سهل عليه ، يسير لديه ، كما أذهب القرون الأوَل وأتى بالذي بعدها{[11242]} كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين ، كما قال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا } [ النساء : 133 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ فاطر : 15 - 17 ] ، وقال تعالى : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة قال : سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية : { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } الذرية : الأصل ، والذرية : النسل .
{ وَرَبُّكَ الغنى ذُو الرحمة } .
عُطفْت جملة : { وربك الغني } على جملة : { وما ربُّك بغافل عمّا يعملون } [ الأنعام : 132 ] إخباراً عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله ، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد ، وفي الجملة الثّانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله : { إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم } [ الزمر : 7 ] ، وكناية عن رحمته إذْ أمهل المشركين ولم يعجّل لهم العذاب ، كما قال : { وربُّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب } في سورة الكهف ( 58 ) .
وقوله : { وربك } إظهار ، في مقام الإضمار ، ومقتضى الظاهر أن يقال : وهو الغنيّ ذو الرّحمة ، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الربّ من دلالة على العناية بصلاح المربوب ، ولتكون الجملة مستقلّة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحِكَم ، وللتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم .
والغنيّ : هو الّذي لا يحتاج إلى غيره ، والغنيّ الحقيقي هو الله تعالى لأنَّه لا يحتاج إلى غيره بحال ، وقد قال علماء الكلام : إنّ صفة الغِنَى الثّابتة لله تعالى يَشمل معناها وجوب الوجود ، لأنّ افتقار الممكن إلى الموجد المختارِ ، الّذي يرجح طَرف وجوده على طرف عدمه ، هو أشدّ الافتقار ، وأحسب أنّ معنى الغِنى لا يثبت في اللّغة للشّيء إلاّ باعتبار أنّه موجود فلا يشمل معْنى الغنى صفة الوجود في متعارف اللّغة . إلاّ أن يكون ذلك اصطلاحاً للمتكلّمين خاصّاً بمعنى الغِنى المطلق . وممّا يدلّ على ما قُلتهُ أنّ من أسمائه تعالى المغني ، ولم يُعتبر في معناه أنَّه موجد الموجودات . وتقدّم الكلام على معنى الغنيّ عند قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً } في سورة النّساء ( 135 ) .
وتعريف المسند باللاّم مقتض تخصيصه بالمسند إليه ، أي قصر الغنى على الله ، وهو قصرٌ ادّعائي باعتبار أنّ غنى غير الله تعالى لمّا كان غنى ناقصاً نُزّل منزلة العدم ، أي ربّك الغنيّ لا غيره ، وغناه تعالى حقيقي . وذكر وصف الغنيّ هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه ، وهو : { إن يشأ يذهبكم } فهو من تقديم الدّليل بين يدي الدّعوى ، تذكيراً بتقريب حصول الجزم بالدّعوى .
و { ذو الرحمة } خبر ثان . وعدل عن أن يوصف بوصف الرّحيم إلى وصفه بأنّه : { ذو الرحمة } : لأنّ الغنيّ وصف ذاتي لله لا ينتفع الخلائق إلاّ بلوازم ذلك الوصف ، وهي جوده عليهم ، لأنَّه لا ينقص شيئاً من غناه ، بخلاف صفة الرّحمة فإنّ تعلّقها ينفع الخلائق ، فأوثرت بكلمة { ذو } لأنّ { ذو } كلمة يتوصّل بها إلى الوصف بالأجناس ، ومعناها صاحب ، وهي تشعر بقوّة أو وفرة ما تضاف إليه ، فلا يقال ذو إنصاف إلاّ لمن كان قوي الإنصاف ، ولا يقال ذُو مال لمن عنده مال قليل ، والمقصُود من الوصف بذي الرّحمة ، هنا تمهيد لمعنى الإمهال الّذي في قوله : { إن يشأ يذهبكم } ، أي فلا يقولنّ أحد لماذا لم يُذهب هؤلاء المكذّبين ، أي أنَّه لرحمته أمهلهم إعذاراً لهم .
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ } .
استئناف لتهديد المشركين الّذين كانوا يكذّبون الإنذار بعذاب الإهلاك ، فيقولون : { متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } [ السجدة : 28 ] وذلك ما يؤذن به قوله عقبه : { إنَّ مَا توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين } [ الأنعام : 134 ] .
فالخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه التعريض بمن يغفل عن ذلك من المشركين ، ويجوز أن يكون إقبالاً على خطاب المشركين فيكون تهديداً صريحاً .
والمعنى : إن يشأ الله يعجّل بإفنائكم ويستخلفْ من بعدكم من يشاءُ ممّن يؤمن به كما قال : { وإن تَتَوَلَّوْا يستبدِلْ قوما غيرَكم ثمّ لا يَكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] أي فما إمهاله إيَّاكم إلاّ لأنَّه الغنيّ ذو الرّحمة . وجملة الشّرط وجوابه خبرٌ ثالث عن المبتدأ . ومفعول : { يشأ } محذوف على طريقته المألوفة في حذف مفعول المشيئة .
والإذهاب مجاز في الإعدام كقوله : { وإنَّا على ذهاب به لقادرون } [ المؤمنون : 18 ] .
والاستخلاف : جعل الخَلف عن الشّيء ، والخَلَف : العوض عن شيء فائت ، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد ، و { مَا } موصولة عامّة ، أي : ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته ، وهذا تعريض بالاستئصال لأنّ ظاهر الضّمير يفيد العموم .
والتّشبيه في قوله : { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى ، لا في كون المنشَئات مُخرجة من بقايا المعدومات ، ويجوز أن يكون التّشبيه في إنشاء موجودات من بقايا معدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرّية من أنجاهم الله في السّفينة مع نوح عليه السّلام ، فيكون الكلام تعريضاً بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب .
وكاف التّشبيه في محلّ نصب نيابة عن المفعول المطلق ، لأنَّها وصف لمحذوف تقديره : استخلافاً كما أنشأكم ، فإنّ الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف . و { مِنْ } ابتدائية ، ومعنى الذرّية واشتقاقها تقدّم عند قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } في سورة البقرة ( 124 ) .
ووصف قوم } ب { آخرين } للدّلالة على المغايرة ، أي قوم ليسوا من قبائل العرب ، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشيء أقواماً من أقوام يخالفونهم في اللّغة والعوائد والمواطن ، وهذا كناية عن تباعد العصور ، وتسلسل المنشآت لأنّ الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلاّ في أزمنة بعيدة ، فشتّان بين أحوال قوم نوح وبين أحوال العرب المخاطَبين ، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة .