فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ} (133)

{ وربك الغني } عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم ومع كونه غنيا عنهم فهو { ذو الرحمة } لا يكون غناؤه عنهم مانعا من رحمته لهم ، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام ، فإن الرحمة لهم مع الغني عنهم هي غاية التفضيل والتطول ، ومن جملة رحمته إرسال الرسل للخلق وإبقاؤهم بلا استئصال بالهلاك فهذا الوصف يناسب سابق الكلام ولا حقه .

{ إن يشأ يذهبكم } أيها العباد العصاة فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك ، وقيل الخطاب لأهل مكة ففيه وعيد وتهديد لهم ، والعموم أولى ويدخل فيه أهل مكة دخولا أوليا { ويستخلف } أي ينشئ ويوجد { من بعدكم } أي بعد إهلاككم { ما يشاء } من خلقه ممن هم أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } أي من نسل قوم لم يكونوا على مثل صفتكم بل كانوا طائعين ، قيل هم أهل سفينة نوح وذريتهم من بعدهم من القرون إلى زمنكم .

قال الواحدي والزمخشري : ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم ولا استخلف غيرهم رحمة لهم ولطفا بهم ، وقال الرازي : المراد منه خلق ثالث أو رابع ، واختلفوا فيه فقيل خلقا آخر من أمثال الجن والإنس .

قال القاضي : وهو الوجه الأقرب فكأنه نبه أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس ، وقال الطبري : المعنى كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم ، { والذرية الأصل } والنسل قاله أبان ابن عثمان .