الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ} (133)

قوله تعالى : { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ } : يجوز أن يكون " الغنيُّ " ذو الرحمة خبرين أو وصفين ، و " إن يشأ " وما بعده خبر الأول أو يكون الغنيّ وصفاً ، و " ذو الرحمة " خبر ، والجملة الشرطية خبر ثان أو مستأنف . وقوله " ما يشاء " يجوز أن تكون " ما " واقعةً على ما هو من جنس الآدميِّين ، وإنما أتى ب " ما " وهي لغير العاقل للإِبهام الحاصل . ويجوز أن تكون واقعة على غير العاقل وأنه يأتي بجنس آخر ، ويجوز أن تكون واقعة على النوع من العقلاء كما تقدم .

قوله { كَمَآ أَنشَأَكُمْ } فيه وجهان أحدهما : أنه مصدر على غير الصدر لقوله " ويَسْتخلف " ، لأنَّ معنى يستخلف يُنْشئْ . والثاني : أنها نعت مصدر محذوف تقديره : استخلافاً مثل ما أنشأكم . وقوله { مِنْ ذرِّيَّة } متعلق بأنشأكم . وفي " مِنْ " هذه أوجه أحدها : أنها لابتداء الغاية أي : ابتدأ إنشاءكم من ذرية قوم . والثاني : أنها تبعيضية قاله ابن عطية . الثالث : بمعنى البدل ، قال الطبري وتبعه مكي بن أبي طالب " هي كقولك : " أخذت من ثوبي درهماً " أي : بدله وعوضه ، وكون " مِنْ " بمعنى البدل قليل أو ممتنع ، وما ورد منه مؤولٌ كقوله تعالى : { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً }

[ الزخرف : 60 ] وقوله :

جاريةٌ لم تَأْكُلِ المرقَّقَا *** ولم تَذُقْ من البقول الفُسْتُقا

أي : بدلكم وبدل البقول ، والمعنى : من أولاد قوم متقدمين أصلهم آدم . وقال الزمخشري : " من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثلِ صفتكم وهم أهل سفينة نوح " . وقرأ أُبَيّ بن كعب " ذَرِّيَّة " بفتح الذال ، وأبان بن عثمان " ذَرِيَّة " بتخفيف الراء مكسورة ، ويروى عنه أيضاً " ذَرْية " بوزن ضَرْبَة وقد تقدَّم تحقيق ذلك .