وعند هذا الحد من قصة نوح مع قومه ، تنتقل السورة الكريمة انتقالا سريعا بقارئها إلى الحديث عن مشركى مكة ، الذين أنكروا أن يكون القرآن من عند الله ، ووقفوا من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - موقفا يشبه موقف قوم نوح منه - عليه السلام - فترد عليهم بقوله - تعالى - :
أَمْ { يَقُولُونَ افتراه قُلْ . . . } .
وأم هنا منقطعة بمعنى بل التى للإضراب ، وهو انتقال المتكلم من غرض إلى آخر .
والافتراء : الكذب المتعمد الذى لا توجد أدنى شبهة لقائله .
والإِجرام : اكتساب الجرم وهو الشئ القبيح الذي يستحق فاعله العقاب .
يقال : أجرم فلان وجرم واجترم ، بمعنى اقتراف الذنب الموجب للعقوبة وللمفسرين فى معنى هذه الآية اتجاهان :
الاتجاه الأول يرى أصحابه : أنها معترضة بين أجزاء قصة نوح مع قومه ، وأنها فى شأن مشركى مكة الذين أنكروا أن يكون القرآن من عند الله .
وعليه يكون المعنى . لقد سقنا لك يا محمد من أخبار السابقين ما هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل ، ولكن المشركين من قومك لم يعتبروا بذلك ، بل يقولون إنك قد افتريت هذا القرآن ، قل لهم : إن كنت قد افتريته - على سبيل الفرض - فعلى وحدى تقع عقوبة إجرامى وافترائى الكذب ، وأنا برئ من عقوبة إجرامكم وافترائكم الكذب .
أما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه أن الآية الكريمة ليست معترضة ، وإنما هى من قصة نوح عليه السلام - وعليه يكون المعنى : بل أيقول قوم نوح إن نوحا - عليه السلام - قد افترى واختلق ما جاء به من عند نفسه ثم نسبه إلى الله - تعالى - قل لهم إن كنت قد افتريته فعلى سوء عاقبة إجرامى وكذبى ، وأنا برئ مما تقترفونه من منكرات ، وما تكتبسونه من ذنوب .
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أرجح ، لأن التعبير عن أفكارهم بيقولون ، وعن الرد عليهم بقل ، الدالين على الحال والاستقبال ، يقوى أن الآية الكريمة فى شأن مشركى مكة .
وقد اقتصر الإِمام ابن جرير على الاتجاه الأول ، ولم يذكر شيئا عن الاتجاه الثانى مما يدل على ترجيحه للاتجاه الأول فقال ما ملخصه : يقول - تعالى - ذكره : " أيقول يا محمد هؤلاء المشركون من قومك : افترى محمد هذا القرآن وهذا الخبر عن نوح ، قل لهم : إن افتريته فتخرصته واختلقته فعلى إثمى فى افترائى ما اقتربت على ربى دونكم . . وأنا برئ مما تذنبون وتأثمون فى حقى وحق ربكم . . . "
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا من مجادلة قوم نوح له ، ومن تطاولهم عليه ، ومن تحديهم لدعوته ، كما حكت لنا رده عليهم بأسلوب حكيم ، جعلهم يعجزون عن مجابهته فماذا كان من شأنه وشأنهم بعد ذلك ؟
وعند هذا المقطع من قصة نوح ، يلتفت السياق لفتة عجيبة ، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة ، التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول [ ص ] ودعواهم أن محمدا يفتري هذا القصص . فيرد هذا القول قبل أن يمضي في استكمال قصة نوح :
( أم يقولون افتراه ؟ قل : إن افتريته فعلي إجرامي ، وأنا بريء مما تجرمون ) . .
فالافتراء إجرام ، قل لهم : إن كنت فعلته فعلي تبعته ، وأنا أعرف إنه إجرام فمستبعد أن أرتكبه ، وأنا بريء مما تجرمون من تهمة الافتراء إلى جوار غيرها من الشرك والتكذيب .
وهذا الاعتراض لا يخالف سياق القصة في القرآن ، لأنها إنما جاءت لتأدية غرض من هذا في السياق .
هذا كلام معترض في وسط هذه القصة ، مؤكد لها ومقرر بشأنها{[14579]} . يقول تعالى لمحمد{[14580]} صلى الله عليه وسلم : أم يقول{[14581]} هؤلاء الكافرون الجاحدون : افترى هذا وافتعله من عنده { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي : فإثم ذلك علي ، { وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ } أي : ليس ذلك مفتعلا ولا مفترى{[14582]} ، لأني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه .
وقوله تعالى : { أم يقولون افتراه } الآية ، قال الطبري وغيره من المتأولين والمؤلفين في التفسير{[6318]} : إن هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي شأن محمد صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش ، وذلك أنهم قالوا : افترى القرآن وافترى هذه القصة على نوح ، فنزلت الآية في ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لو صح بسند وجب الوقوف عنده ، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه السلام ، ويبقى اتساق الآية مطرداً ، ويكون الضمير في قوله { افتراه } عائداً إلى العذاب الذي توعدهم به أو على جميع أخباره ، وأوقع الافتراء على العذاب من حيث يقع على الإخبار به . والمعنى : أم يقول هؤلاء الكفرة افترى نوح هذا التوعد بالعذاب وأراد الإرهاب علينا بذلك{[6319]} ؛ ثم يطرد باقي الآية على هذا .
و { أم } هي التي بمعنى بل يقولون ، و «الإجرام » مصدر أجرم يجرم إذا جنى ، يقال : جرم وأجرم بمعنى ، ومن ذلك قول الشاعر :
طريد عشيرة ووهين ذنب*** بما جرمت يدي وجنى لساني{[6320]}
جملة معترضة بين جملة أجزاء القصة وليست من القصة ، ومن جعلها منها فقد أبعد ، وهي تأكيد لنظيرها السابق في أول السورة . ومناسبة هذا الاعتراض أن تفاصيل القصة التي لا يعلمها المخاطبون تفاصيل عجيبة تدعو المنكرين إلى أن يتذكروا إنكارهم ويعيدوا ذكره .
وكون ذلك مطابقاً لما حصل في زمن نوح عليه السلام وشاهدة بكتب بني إسرائيل يدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم لأن علمه بذلك مع أميته وبعد قومه عن أهل الكتاب آية على أنه وحي من الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فالاستفهام الذي يؤذن به حرف { أم } المختصّ بعطف الاستفهام استفهام إنكاري . وموقع الإنكار بديع لتضمنه الحجّة عليهم .
و { أم } هنا للإضراب للانتقال من غرض لغرض .
وضمير النصب عائد إلى القرآن المفهوم من السياق .
وجملة { قل } مفصولة عن التي قبلها لوقوعها في سياق المحاورة كما تقدم غير مرة .
وأمِرَ النبيءُ صلى الله عليه وسلم أن يعرض عن مجادلتهم بالدليل لأنهم ليسوا بأهل لذلك إذ قد أقيمت عليهم الحجة غير مرة فلم تغن فيهم شيئاً ، فلذلك أجيبوا بأنه لو فرض ذلك لكانت تبعة افترائه على نفسه لا ينالهم منها شيء .
وتقديم ( عليّ ) مؤذن بالقصر ، أي إجرامي عليّ لا عَليكم فلماذا تكثرون ادّعاء الافتراء كأنكم ستؤاخَذُون بتبعته . وهذا جار على طريقة الاستدراج لهم والكلام المنصف .
ومعنى جعل الافتراء فعلاً للشرط : أنه إن كان وقع الافتراء كقوله : { إن كنت قلته فقد علِمْته } [ المائدة : 116 ] .
ولما كان الافتراء على الله إجراماً عدل في الجواب عن التعبير بالافتراء مع أنهُ المدعى إلى التعبير بالإجرام فلا حاجة إلى تقدير : فعليّ إجرام افترائي .
وذكر حرف ( على ) مع الإجرام مؤذن بأن الإجرام مؤاخذ به كما تَقتضيه مادة الإجرام .
والإجرام : اكتساب الجرم وهو الذنب ، فهو يقتضي المؤاخذة لا محالة .
وجملة { وأنا بريء مما تجرمون } معطوفة على جملة الشرط والجزاء ، فهي ابتدائية . وظاهرها أنها تذييل للكلام وتأييده بمقابله ، أي فإجرامِي عليّ لا عليكم كما أن إجرامكم لا تنالني منه تَبعة . ولا حاجة إلى تقدير المضاف في قوله : { مما تجرمون } أي تبعته وإنما هو تقدير معنى لا تقدير إعراب ، والشيءُ يؤكد بضدّه كقوله : { لاَ أعبد ما تَبعدُون ولا أنتم عابدون ما أعبد } [ الكافرون : 2 ، 3 ] .
وفي هذه الجملة توجيه بديع وهو إفادة تبرئة نفسه من أن يفتريَ القرآن فإنّ افتراء القرآن دعوى باطلة ادعَوها عليه فهي إجرام منهم عليه ، فيكون المعنى وأنا بريء من قولكم الذي تجرمونه عليّ باطلاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر الله تعالى كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، فقال: {أم يقولون افتراه}:... قالوا: محمد يقول هذا القرآن من تلقاء نفسه، وليس من الله، {قل إن افتريته} يعني تقولته من تلقاء نفسي، {فعلي إجرامي}، فعلي خطيئتي بافترائي على الله، {وأنا بريء مما تجرمون} يعني بريء من خطاياكم، يعني كفركم بالله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أيقول يا محمد هؤلاء المشركون من قومك: افترى محمد هذا القرآن؟ وهذا الخبرَ عن نوح؟ قل لهم:"إن افتريته" فتخرّصته واختلقته "فَعَلَيّ إجْرَامي "يقول: فعليّ إثمي في افترائي ما افتريت على ربي دونكم، لا تؤاخَذُون بذنبي ولا إثمي ولا أؤاخذ بذنبكم.
"وأنا بَرِيءٌ مِمّا تُجْرِمُونَ" يقول: وأنا بريء مما تذنبون وتأثمون بربكم من افترائكم عليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مهما وصفتموني فإني أُجِيبُ اللّهَ... وكُلٌّ مُطَالَبٌ بفعله دون فِعْلِ صاحبِه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المعنى: إن صح وثبت أني افتريته، فعلي عقوبة إجرامي أي افترائي. وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عني وتتألبوا عليّ {وَأَنَاْ بَرِيئ} يعني ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه. ومعنى {مّمَّا تُجْرَمُونَ} من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أم يقولون افتراه} الآية، قال الطبري وغيره من المتأولين والمؤلفين في التفسير: إن هذه الآية اعترضت في قصة نوح وهي شأن محمد صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش، وذلك أنهم قالوا: افترى القرآن وافترى هذه القصة على نوح، فنزلت الآية في ذلك. قال القاضي أبو محمد: وهذا لو صح بسند وجب الوقوف عنده، وإلا فهو يحتمل أن يكون في شأن نوح عليه السلام، ويبقى اتساق الآية مطرداً، ويكون الضمير في قوله {افتراه} عائداً إلى العذاب الذي توعدهم به أو على جميع أخباره، وأوقع الافتراء على العذاب من حيث يقع على الإخبار به. والمعنى: أم يقول هؤلاء الكفرة افترى نوح هذا التوعد بالعذاب وأراد الإرهاب علينا بذلك؛ ثم يطرد باقي الآية على هذا...
اعلم أن معنى افتراه: اختلقه وافتعله، وجاء به من عند نفسه، والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم.
وقوله: {فعلي إجرامي} الإجرام: اقتراف المحظورات واكتسابها، وهذا من باب حذف المضاف، لأن المعنى: فعلي عقاب إجرامي، وفي الآية محذوف آخر وهو أن المعنى: إن كنت افتريته فعلي عقاب جرمي، وإن كنت صادقا وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه، كقوله: {أمن هو قانت آناء الليل} ولم يذكر البقية. وقوله: {وأنا بريء مما تجرمون} أي أنا بريء من عقاب جرمكم، وأكثر المفسرين على أن هذا من بقية كلام نوح عليه السلام، وهذه الآية وقعت في قصة محمد صلى الله عليه وسلم في أثناء حكاية نوح، وقولهم بعيد جدا، وأيضا قوله: {قل إن افتريته فعلى إجرامي} لا يدل على أنه كان شاكا، إلا أنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان مضمون هذه الآية نحو مضمون قوله: {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} فإن النذير من ينصح المنذر، والوكيل هو المرجوع إليه في أمر الشيء الموكول إليه، وما قبلها تعريض بنسبة نوح عليه السلام إلى الافتراء، تلاه بما تلا به ذاك من النسبة إلى الافتراء وإشارة إلى أن هذه القصص كلها للتسلية في أمر النذارة والتأسية فكأنه قيل: أيقولون لك مثل هذه الأقوال فقد قالوها لنوح كما ترى، ثم والى عليهم من الإنذار ما لم يطمعوا معه في ترك شيء مما أمرناه به أعجبهم أو أغضبهم، فلك به أسوة وحسبك به قدوة في أن تعد كلامهم عدماً وتقبل على ما أرسلناك به من بذل النصيحة بالنذارة: {أم يقولون} في القرآن {افتراه} إصراراً على ما تقولوه فدمغه الدليل وأدحضته الحجة فكأنه قيل: نعم، إنهم يقولون ذلك، فقيل: لا عليك فإنه قول يقصدون به مجرد العناد وهم يعلمون خلافه بعد ما قام عليهم من الحجج التي وصلوا معها إلى عين اليقين فلا يهمنك قولهم هذا، فإنهم يجعلونه وسيلة إلى تركك بعض ما يوحى إليك فلا تفعل، بل {قل} في جواب قولهم هذا {إن افتريته} أي قطعت كذبه {فعليَّ} أي خاصاً بي {إجرامي} أي وباله وعقابه دونكم وإذا استعلى عليَّ الإجرام عرف ذلك لأرباب العقول وظهر ظهوراً افتضح به وأنتم أعرف الناس بأني أبعد من ذلك مما بين اجتماع الضدين وارتفاع النقيضين لما تعلمون مني من طهارة الشيم وعلو الهمم وطيب الذكر وشريف القدر وكريم الأمر، هذا لو كنت قادراً على ذلك فكيف وأنا وأنتم في العجز عنه سواء {وأنا بريء} أي غاية البراءة {مما تجرمون} أي توجدون إجرامه، ليس عليَّ من إجرامكم عائد ضرر بعد أن أوضحته لكم وكشفت عنكم غطاء الشبه، إنما ضرره عليكم فاعلموا على تذكر هذا المعنى فإن سوق جوابهم على هذا الوجه أنكى لهم من إقامة حجة أخرى لأنهم يعلمون منه أنه إلزام لهم بالفضيحة لانقطاعهم لدى من له وعي، ويمكن أن يكون التقدير: هل انتبه قومك يا محمد فعلموا قبح مثل هذه الحال وأنها حال المعاندين، فرجعوا تكرماً عن ركوب مثلها واستحياء {أم يقولون افتراه} أي كذبه متعمداً استمراراً على العناد وتمادياً في البعاد كما تمادى قوم نوح فيحل بهم ما حل بهم، أي هل رجعوا بهذا المقدار من قصة قوم نوح أم هم مستمرون على ما نسبوك إليه في أوائل السورة من افترائه فيحتاجون إلى تكميل القصة بما وقع من عذابهم ليخافوا مثل مصابهم؛ وافتراء الكذب: افتعاله من قبل النفس فهو أخص من مطلق الكذب لأنه قد يكون تقليداً للغير...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
اختلف المفسرون في هذه الآية؛ فقال مقاتل وغيره: هي معترضة في قصة نوح حكاية لقول مشركي مكة في تكذيب هذه القصص الذي تقدم الرد عليه في الآية الثالثة عشرة من هذه السورة. وقال الجمهور: إنها من قصة نوح لا مقتضى لاعتراضتها في وسطها، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه، وفيه أن مثل هذه الجمل الاعتراضية معهود في القرآن كآيتي الوصية بالوالدين في أثناء موعظة لقمان لابنه بعد نهيه عن الشرك من سورته وهما {ووصينا الإنسان بوالديه} [لقمان: 14] إلى آخر الآية 15 وبعدها {يا بني إنها إن تك مثقال حبة} [لقمان: 16] الخ وكذلك الآيات 53-56 من سورة طه [20] قالوا: إنها معترضة في المحاورة بين موسى عليه السلام وفرعون عليه اللعنة.
وللجمل والآيات المعترضة في القرآن حكم وفوائد يقتضيها تلوين الخطاب لتنبيه الأذهان، ومنع السآمة وتجديد النشاط في الانتقال، والتشويق إلى سماع بقية الكلام، فمن المتوقع هنا أن يخطر في بال المشركين عند سماع ما تقدم من هذه القصة أنها مفتراة كما زعموا لاستغرابهم هذا السبك في الجدال والقوة في الاحتجاج، وأن يصدهم هذا عن استماع بقيتها، فيكون إيراد هذه الآية تجديدا للرد عليهم ولنشاطهم، وأعظم بوقعها في قلوبهم إذا كان هذا الخاطر عرض لهم عند سماع ما تقدم من القصة، فما قاله مقاتل له وجه وجيه من وجهة الأسلوب الخاص بالقرآن، وهو أقرب إلى تعبيرها عن الإنكار ب"يقولون" وعن الرد عليهم ب"قل" الدالين على الحال، وأبعد عن سياق حكى كله بفعل الماضي من الجانبين [قالوا.. قال] وهو سياق قصة نوح عليه السلام، ولكنه ليس قطعيا في الأول وإنما هو الأرجح عندي وعليه ابن جرير ومقابله ضعيف وهو لجمهور المفسرين.
{أم يقولون افتراه} أي أم يقول مشركو مكة إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افترى هذا الذي يحكيه من قصة نوح، أو أيقول قوم نوح إنه افترى هذا الذي وعدنا به من العذاب {قل إن افتريته فعلي إجرامي} أي إن كنت افتريته على الله عز وجل فرضا فهو إجرام عظيم علي إثمه وعقابه من دونكم [إذ الإجرام: الفعل القبيح الضار الذي يستحق فاعله العقاب، من الجرم الذي هو قطع الثمر قبل بدو صلاحه الذي يجعله منتفعا به كما سبق في آيات أخرى] ومن كان يؤمن أن هذا إجرام يعاقب عليه فما الذي يحمل على اقترافه، {وأنا بريء مما تجرمون} لأن حكم الله العدل أن يجزي كل امرئ بفعله {لا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] {ولها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] وتقدم هذا المعنى بما هو أعم مما هنا وهو {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} [يونس: 41] وقد أثبت عليهم الإجرام هنا ومنه أو أشده تكذيبه ووصفه بالافتراء على الله عز وجل، وهذا الأسلوب من الجدال بالتي هي أحسن يستخفه السمع، ويقبله الطمع.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة معترضة بين جملة أجزاء القصة وليست من القصة، ومن جعلها منها فقد أبعد، وهي تأكيد لنظيرها السابق في أول السورة. ومناسبة هذا الاعتراض أن تفاصيل القصة التي لا يعلمها المخاطبون تفاصيل عجيبة تدعو المنكرين إلى أن يتذكروا إنكارهم ويعيدوا ذكره، وكون ذلك مطابقاً لما حصل في زمن نوح عليه السلام وشاهدة بكتب بني إسرائيل يدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم لأن علمه بذلك مع أميته وبعد قومه عن أهل الكتاب آية على أنه وحي من الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه...
وأمِرَ النبيءُ صلى الله عليه وسلم أن يعرض عن مجادلتهم بالدليل لأنهم ليسوا بأهل لذلك إذ قد أقيمت عليهم الحجة غير مرة فلم تغن فيهم شيئاً، فلذلك أجيبوا بأنه لو فرض ذلك لكانت تبعة افترائه على نفسه لا ينالهم منها شيء. وتقديم (عليّ) مؤذن بالقصر، أي إجرامي عليّ لا عَليكم فلماذا تكثرون ادّعاء الافتراء كأنكم ستؤاخَذُون بتبعته. وهذا جار على طريقة الاستدراج لهم والكلام المنصف...
ولما كان الافتراء على الله إجراماً عدل في الجواب عن التعبير بالافتراء مع أنهُ المدعى إلى التعبير بالإجرام فلا حاجة إلى تقدير: فعليّ إجرام افترائي. وذكر حرف (على) مع الإجرام مؤذن بأن الإجرام مؤاخذ به كما تَقتضيه مادة الإجرام...
وجملة {وأنا بريء مما تجرمون}... توجيه بديع وهو إفادة تبرئة نفسه من أن يفتريَ القرآن فإنّ افتراء القرآن دعوى باطلة ادعَوها عليه فهي إجرام منهم عليه، فيكون المعنى وأنا بريء من قولكم الذي تجرمونه عليّ باطلاً...