قوله تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب } نزلت في النضر بن الحارث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء ، { ولولا أجل مسمى } قال ابن عباس : ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم يعني : لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب . وقيل : يوم بدر{ لجاءهم العذاب ولبأتينهم } يعني : العذاب وقيل الأجل ، { بغتة وهم لا يشعرون } بإتيانه .
وقوله - عز وجل - : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب . . . } بيان للون آخر من ألوان انطماس بصيرة هؤلاء الكافرين ، ومن سفاهاتهم وجهالاتهم . أى : أن هؤلاء المشكرين لم يكتفوا تبكذيبك - أيها الرسول الكريم - بل أضافوا إلى ذلك ، التطاول عليك ، لسوء أدبهم ، وعدم فهمهم لوظيفتك . بدليل أنهم يطلبون منك أن تنزل عليهم العذاب بعجلة وبدون إبطاء ، على سبيل التحدى لك . كما قالوا فى موطن آخر : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ثم يبين الله - تعالى - حكمته فى تأخير عذابه عنهم إلى حين فيقول : { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب . . . } . أى : يستعجلك المشركون يا محمد فى نزول العذاب بهم ، والحق أنه لولا أجل مسمى ، ووقت معين ، حدده الله - تعالى - فى علمه لنزول العذاب بهم ، لجاءهم العذاب فى الوقت الذى طلبوه ، بدون إبطاء أو تأخير .
ومع ذلك فقل لهم - أيها الرسول الكريم - إن هذا العذاب آت لا ريب فيه فى الوقت الذى يشاؤه الله - تعالى - ، وإن هذا العذاب المدمر المهلك : { لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أى : ليحلن عليهم فجأة وبدون مقدمات ، والحال أنهم لا يشعرون به ، بل ياتيهم بغتة فيبهتهم ، ويستأصل شأفتهم .
ثم يمضي في الحديث عن أولئك المشركين . عن استعجالهم بالعذاب . وجهنم منهم قريب :
( ويستعجلونك بالعذاب ، ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ، وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون . يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ويقول : ذوقوا ما كنتم تعملون ) . .
ولقد كان المشركون يسمعون النذير ، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين ؛ فيستعجلون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالعذاب على سبيل التحدي . وكثيرا ما يكون إمهال الله استدراجا للظالمين ليزدادوا عتوا وفسادا . أو امتحانا للمؤمنين ليزدادوا إيمانا وثباتا ؛ وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات . أو استبقاء لمن يعلم سبحانه أن فيهم خيرا من أؤلئك المنحرفين حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى . أو استخراجا لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه ولو كان آباؤهم من الضالين . . أو لغير هذا وذاك من تدبير الله المستور . .
ولكن المشركين لم يكونوا يدركون شيئا من حكمة الله وتدبيره ، فكانوا يستعجلون بالعذاب على سبيل التحدي . . ( ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ) . . وهنا يوعدهم الله بمجيء العذاب الذي يستعجلونه . مجيئه في حينه . ولكن حيث لا ينتظرونه ولا يتوقعونه . وحيث يبهتون له ويفاجأون به : ( وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ) . .
ولقد جاءهم هذا العذاب من بعد في بدر وصدق الله . ورأوا بأعينهم كيف يحق وعد الله . ولم يأخذهم الله بالهلاك الكامل كأخذ المكذبين قبلهم ؛ كما أنه لم يستجب لهم في إظهار خارقة مادية كي لا يحق عليهم وعده بهلاك من يكذبون بعد الخارقة المادية . لأنه قدر للكثيرين منهم أن يؤمنوا فيما بعد ، وأن يكونوا من خيرة جند الإسلام ؛ وأخرج من ظهورهم من حملوا الراية جيلا بعد جيل ، إلى أمد طويل . وكان ذلك كله وفق تدبير الله الذي لا يعلمه إلا الله .
يقول تعالى مخبرا عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم ، وبأس الله أن يحل عليهم ، كما قال تعالى : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، وقال هاهنا : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ } أي : لولا ما حَتَّم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه .
ثم قال : { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } أي : فجأة ، { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مّسَمّى لّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ويستعجلك يا محمد هؤلاء القائلون من قومك : لولا أنزل عليه آية من ربه بالعذاب ، ويقولون : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ ولولا أجل سميته لهم فلا أهلكهم حتى يستوفوه ويبلغوه ، لجاءهم العذاب عاجلاً . وقوله : وَلَيَأْتِيَنّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يقول : وليأتينهم العذاب فجأة وهم لا يشعرون بوقت مجيئه قبل مجيئه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعَذَابِ قال : قال ناس من جهلة هذه الأمة اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ . . . الاَية .
عطف على جملة : { وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربّه } [ العنكبوت : 50 ] استقصاء في الرد على شبهاتهم وإبطالاً لتَعِلاَّت إعراضهم الناشىء عن المكابرة ، وهم يخيلون أنهم إنما أعرضوا لعدم اقتناعهم بآية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومناسبة وقوعه هذا أنه لما ذكر كفرهم بالله وكان النبي عليه الصلاة والسلام ينذرهم على ذلك بالعذاب وكانوا يستعجلونه به ذكر توركهم عليه عقب ذكر الكفر . واستعجال العذاب : طلب تعجيله وهو العذاب الذي تُوعدوا به . وقصدهم من ذلك الاستخفاف بالوعيد . وتقدم الكلام على تركيب : { يستعجلونك بالعذاب } في قوله تعالى : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } في سورة [ يونس : 11 ]
قوله : { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة في سورة } [ الرعد : 6 ] . والتعريف في ( العذاب ) تعريف الجنس . وحُكي استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجيب منها كما في قوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] .
وقد أبطل ما قصدوه بقوله : { ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب } وذلك أن حلول العذاب ليس بيد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولا جارياً على طلبهم واستبطائهم فإن الله هو المقدر لوقت حلوله بهم في أجل قدره بعلمه .
والمسمَّى أريد به المعيّن المحدود أي في علم الله تعالى . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى } في سورة [ الحج : 5 ] .
والمعنى : لولا الأجل المعين لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلاً لأن كفرهم يستحق تعجيل عقابهم ولكن أراد الله تأخيره لحِكَم عَلِمَها ، منها إمهالهم ليؤمن منهم من آمن بعد الوعيد ، وليعلموا أن الله لا يستفزه استعجالهم العذاب لأنه حكيم لا يخالف ما قدره بحكمته ، حليم يمهل عباده . فالمعنى : لولا أجل مسمى لجاءهم العذاب في وقت طلبهم تعجيله ، ثم أنذرهم بأنه آتيهم بغتة وأن إتيانه محقق لما دل عليه لام القسم ونون التوكيد وذلك عند حلول الأجل المقدّر له . وقد حل بهم عذاب يوم بدر بغتة كما قال تعالى : { ولو تَوَاعَدْتم لاختلفتم في الميعاد } [ الأنفال : 42 ] فاستأصل صناديدهم يومئذ وسُقط في أيديهم .