قوله تعالى :{ فقضاهن سبع سماوات في يومين } أي : أتمهن وفرغ من خلقهن ، { وأوحى في كل سماء أمرها } قال عطاء عن ابن عباس : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله . وقال قتادة والسدي : يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها . وقال مقاتل : وأوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي ، وذلك يوم الخميس والجمعة . { وزينا السماء الدنيا بمصابيح } كواكب ، { وحفظاً } لها ونصب ( حفظاً ) على المصدر ، أي : حفظناها بالكواكب حفظاً من الشياطين الذين يسترقون السمع ، { ذلك } الذي ذكر من صنعه ، { تقدير العزيز } في ملكه ، { العليم } بحفظه .
ثم فصل - سبحانه - بديع صنعه فى خلق السموات فقال : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ . . . } أى : ففرغ من خلقهن وتسويتهن على أبدع صورة وأحكم صنع فى مقدار يومين .
والضمير فى قوله { فَقَضَاهُنَّ } إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سبع سموات ، وإما مبهم يفسره ما بعده وهو سبع سموات .
وقوله : { وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } أى : وأوحى فى كل منها ما أراده وما أمر به ، وخلق فيها ما اقتضته حكمته من الملائكة ومن خلق لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .
وقوله : { وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً } أى : وزينا السماء الدنيا أى القريبة منكم - بكواكب مضيئة ، وحفظناها عظيما من الاختلال والاضطراب والسقوط { ذلك } الذى ذكرناه لكم من خلق السموات والأرض ، وخلق ما فيهما .
{ تَقْدِيرُ العزيز العليم } أى : تقدير الله - القاهر - لكل شئ . والعليم بما ظهر وبما بطن فى هذا الكون .
وقد أخذ العلماء من هذه الآيات الكريمة أن خلق الأرض وما عليها من جبال ومن أقوات للعباد قد تم فى أربعة أيام ، وأن خلق السموات كان فى يومين فيكون مجموع الأيام التى خلق الله - تعالى - فيها السموات والأرض وما بينهما ستة أيام .
وقد جاء ذلك فى آيات متعددة ، منها قوله - تعالى - : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وقوله - سبحانه - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ . . . } كما أخذ العلماء منها - أيضا - : أن خلق الأرض متقدم على خلق السموات بدليل قوله - تعالى - بعد حديثه عن خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء وهى دخان .
وبدليل قوله - تعالى - فى آية أخرى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وعلى هذا الرأى سار جمهور العلماء ، وردوا على من قال بأن خلق السموات متقدم على خلق الأرض ، لأن الله - تعالى يقول فى سورة النازعات : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا . رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا . وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا . والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } أى : بسطها .
ردوا عليهم بما روى عن ابن عباس من أنه سئل عن الجمع بين الآيات التى معنا ، وبين آيات سورة النازعات فقال : إنه - تعالى - خلق الأرض أولا غير مدحورة ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسى والأنهار وغيرهما .
أى : أن أصل خلق الأرض كان قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها كان بعد خلق السماء ، وردوا عليهم - أيضا - بأن لفظ " بعد " فى قوله - تعالى - { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } بمعنى مع أى : والأرض مع ذلك بسطها ومهدها لسكنى أهلها فيها .
وردوا عليهم - أيضا - بأنه - تعاىل - لما خلق الأرض غير مدحوة ، وهى أهل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه قد خلق بالفعل لوجود أصله فيها .
قال بعض العلماء : والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، - وإن لم يكن موجودا بالفعل - قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ . . . } فقوله : { خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم } أى : بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذى هو أصلكم .
كما أخذ منها العلماء أن وجود هذا الكون ، بتلك الصورة البديعة ، المتمثلة فى هذه الأرض وما أقلت . وفى هذه السموات وما أظلت . . من أكبر الأدلة التى تحمل العقلاء على إخلاص العبادة لله الواحد القهار .
( فقضاهن سبع سماوات في يومين ) . . ( وأوحى في كل سماء أمرها ) . .
واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم . أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله . والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها ، على هدى من الله وتوجيه ؛ أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديداً . فقد تكون درجة البعد سماء . وقد تكون المجرة الواحدة سماء . وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات . . وقد يكون غير ذلك . مما تحتمله لفظه سماء وهو كثير .
( وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ) . .
والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد . فقد تكون هي أقرب المجرات إلينا وهي المعروفة بسكة التبان والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية ! وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء . وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح .
( وحفظاً ) . . من الشياطين . . كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن . . ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئاً مفصلاً . أكثر من الإشارات السريعة في القرآن . فحسبنا هذا . .
( ذلك تقدير العزيز العليم ) . .
وهل يقدر هذا كله ? ويمسك الوجود كله ، ويدبر الوجود كله . . إلا العزيز القوي القادر ? وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر ?
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } أي : ففرغ من تسويتهن سبع سموات في يومين ، أي : آخرين ، وهما يوم الخميس ويوم الجمعة .
{ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } أي : ورتب مقررا في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة ، وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو ، { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } وهن الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض ، { وَحِفْظًا } أي : حرسا من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى .
{ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي : العزيز الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره ، العليم بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم .
قال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد بن السري ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي سعيد{[25641]} البقال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - قال هناد : قرأت سائر الحديث - أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض ، فقال : " خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب ، فهذه أربعة : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } لمن سأل ، قال : " وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه ، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال ، حين يموت من مات ، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس ، وفي الثالثة آدم ، وأسكنه الجنة ، وأمر إبليس بالسجود له ، وأخرجه منها في آخر ساعة " . ثم قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد ؟ قال : " ثم استوى على العرش " . قالوا : قد أصبت لو أتممت ! قالوا :
ثم استراح . فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، فنزل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ . فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [ ق : 38 ] {[25642]} .
هذا الحديث فيه غرابة . فأما حديث ابن جريج ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : " خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل " فقد رواه مسلم ، والنسائي في كتابيهما ، عن حديث ابن جريج ، به{[25643]} . وهو من غرائب الصحيح ، وقد عَلَّله البخاري في التاريخ فقال : رواه بعضهم عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] {[25644]} عن كعب الأحبار ، وهو الأصح .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىَ فِي كُلّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } .
يقول تعالى ذكره : ففرغ من خلقهن سبع سموات في يومين ، وذلك يوم الخميس ويوم الجمعة ، كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : استوى إلى السماء وهي دخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ففتقها ، فجعلها سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة . وإنما سُمّي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض .
وقوله : وأوْحَى فِي كُلّ سَماءٍ أمْرَها يقول : وألقى في كل سماء من السموات السبع ما أراد من الخلق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وأوْحَى فِي كُلّ سَماءٍ أمْرَها قال : ما أمر الله به وأراده .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وأوْحَى فِي كُلّ سَماءٍ أمْرَهاقال : خلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد ، وما لا يعلم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأوْحَى فِي كُلّ سَماءٍ أمْرَها : خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها .
وقوله : وَزَيّنا السّماءَ الدّنْيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظا يقول تعالى ذكره : وزيّنا السماء الدنيا إليكم أيها الناس بالكواكب وهي المصابيح ، كما :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ زَيّنا الدّنْيا بِمَصَابِيحَ قال : ثم زين السماء بالكواكب ، فجعلها زينة وَحِفْظا من الشياطين .
واختلف أهل العربية في وجه نصبه قوله : وَحِفْظا فقال بعض نحويي البصرة : نصب بمعنى : وحفظناها حفظا ، كأنه قال : ونحفظها حفظا ، لأنه حين قال : زَيّناها بِمَصابِيحَ قد أخبر أنه قد نظر في أمرها وتعهدها ، فهذا يدلّ على الحفظ ، كأنه قال : وحفظناها حفظا . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : نصب ذلك على معنى : وحفظا زيناها ، لأن الواو لو سقطت لكان إنا زينا السماء الدنيا حفظا وهذا القول الثاني أقرب عندنا للصحة من الأوّل .
وقد بيّنا العلة في نظير ذلك في غير موضع من هذا الكتاب ، فأغنى ذلك عن إعادته .
وقوله : ذلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ يقول تعالى ذكره : هذا الذي وصفت لكم من خلقي السماء والأرض وما فيهما ، وتزييني السماء الدنيا بزينة الكواكب ، على ما بينت تقدير العزيز في نقمته من أعدائه ، العليم بسرائر عباده وعلانيتهم ، وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم .
{ فقضاهن سبع سماوات } فخلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن ، والضمير ل { السماء } على المعنى أو مبهم ، و{ سبع سموات } حال على الأول وتمييز على الثاني . { في يومين } قيل خلق السموات يوم الخميس والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة . { وأوحى في كل سماء أمرها } شأنها وما يتأتى منها بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا . وقيل أوحى إلى أهلها بأوامره ونواهيه . { وزينا السماء الدنيا بمصابيح } فإن الكواكب كلها ترى كأنها تتلألأ عليها . { وحفظا } أي وحفظناها من الآفات ، أو من المسترقة حفظا . وقيل مفعول له على المعنى كأنه قال : وخصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظا . { ذلك تقدير العزيز العليم } البالغ في القدرة والعلم .
وقوله تعالى : { فقضاهن } معناه : صنعهن وأوجدهن ، ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داود أو صنع السوابغ تبع{[10048]}
وقوله تعالى : { وأوحى في كل سماء أمرها } قال مجاهد وقتادة : أوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ما شاء تعالى من الأمور التي بها قوامها وصلاحها . قال السدي وقتادة : ومن الأمور التي هي لغيرها مثل ما فيها من جبال البرد ونحوه ، وأضاف الأمر إليها من حيث هو فيها ، ثم أخبر تعالى أن الكواكب زين بها السماء الدنيا ، وذلك ظاهر اللفظ وهو بحسب ما يقتضيه حسن البصر .
وقوله تعالى : { وحفظاً } منصوب بإضمار فعل ، أي وحفظناها حفظاً .
وقوله : { ذلك } إشارة إلى جميع ما ذكر ، أو أوجده ، بقدرته وعزته ، وأحكمه بعلمه .
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِى يَوْمَيْنِ } .
تفريع على قوله : { فَقَالَ لَهَا وللأرْضضِ ائْتِيَا } [ فصلت : 11 ] .
والقضاء : الإِيجاد الإِبداعي لأن فيه معنى الإِتمام والحكم ، فهو يقتضي الابتكار والإِسراع ، كقول أبي ذؤيب الهذلي :
وعليهما مسرودتان قَضاهما *** دَاود أو صَنَعُ السوابغِ تُبَّعُ
وضَمير { فقضاهن } عائد إلى السماوات على اعتبار تأنيث لفظها ، وهذا تفنن . وانتصب { سَبْعَ سموات } على أنه حال من ضمير « قضاهن » أو عطف بيان له ، وجُوّز أن يكون مفعولاً ثانياً ل « قضاهن » لتضمين « قضاهن » معنى صيرهن ، وهذا كقوله في سورة البقرة ( 29 ) { فسواهن سبع سماوات } .
وكان خلق السماوات في يومين قبل أربعة الأيام التي خُلقت فيها الأرض وما فيها . وقد بيَّنَّا في سورة البقرة أن الأظهر أن خلق السماء كان قبل خلق الأرض وهو المناسب لقواعد علم الهيئة . وليس في هذه الآية ما يقتضي ذلك . وإنما كانت مدة خلق السماوات السبع أقصر من مدة خلق الأرض مع أن عوالم السماوات أعظم وأكثر لأن الله خلق السماوات بكيفية أسرع فلعل خلق السماوات كان بانفصال بعضها عن بعض وتفرقع أحجامها بعضها عن خروج بعض آخر منه ، وهو الذي قَرَّبه حكماء اليونان الأقدمون بما سَمَّوه صدور العقول العشرة بعضها عن بعض ، وكانت سرعة انبثاق بعضها عن بعض مَعلولة لأحوال مناسبة لما تركبت به من الجواهر . وأما خلق الأرض فالأشبه أنه بطريقة التولُّد المبطىء لأنها تكونت من العناصر الطبيعية فكان تولد بعضها عن بعض أيضاً { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [ المدثر : 31 ] .
وهذه الأيام كانت هي مبدأ الاصطلاح على ترتيب أيام الأسبوع وقد خاض المفسرون في تعيين مبدأ هذه الأيام ، فأما كتب اليهود ففيها أن مبدأ هذه الأيام هو الأحد وأن سادسها هو يوم الجمعة وأن يوم السبت جعله الله خِلواً من الخلْق ليوافق طقوس دينهم الجاعلة يومَ السبت يوم راحة للناس ودوابّهم اقتداء بإنْهَاءِ خلق العالَمين . وعلى هذا الاعتبار جرى العرب في تسمية الأيام ابتداء من الأحد الذي هو بمعنى أول أو واحد ، واسمه في العربية القديمة ( أَول ) وذلك سرى إليهم من تعاليم اليهود أو من تعاليم أسبق كانت هي الأصل الأصيل لاصطلاح الأمتين . والذي تشهد له الأخبار من السنة أن الله خلق آدم يوم الجمعة وأنه آخر أيام الأسبوع ، وأنه خير أيام الأسبوع وأفضلها ، وأن اليهود والنصارى اختلفوا في تعيين اليوم الأفضل من الأسبوع ، وأن الله هدى إليه المسلمين . قال النبي فهذا اليوم ( أي الجمعة ) هو اليوم الذي اختلفوا فيه فَهدانا الله إليه فالناسُ لنا فيه تبع اليهودُ غداً والنصارى بعد غدٍ . ولا خلاف في أن الله خلق آدم بعد تمام خلق السماء والأرض فتعين أن يكون يومُ خلقه هو اليوم السابع .
وقد رَوى مسلم في « صحيحه » عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « أن الله ابتدأ الخلق يوم السبت » . وقد ضعّفه البخاري وابن المديني بأنه من كلام كَعب الأحبار حدّث به أبَا هريرة وإنما اشتبه على بعض رواةِ سنده فظنه مرفوعاً .
ولهذه تفصيلات ليس وراءها طائل وإنما ألمْمنَا بها هنا لئلا يعروَ التفسير عنها فيقع من يراها في غيرِهِ في حَيْرةٍ وإنما مقصد القرآن العِبرة .
{ وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا } .
والوحي : الكلام الخفي ، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قوللٍ ، ومنه قوله تعالى حكاية عن زكرياء { فأوحى إليهم } [ مريم : 11 ] أي أومأ إليهم بما يدل على معنى : سَبحوا بُكرة وعشياً . وقول أبي دُؤاد :
يَرمُون بالخُطب الطِّوالِ وتارةً *** وَحْيَ الملاَحظ خيفةَ الرُّقَباء
ثم يتوسع فيه فيطلق على إلهام الله تعالى المخلوقات لما تتطلبه مما فيه صلاحها كقوله : { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً } [ النحل : 68 ] أي جَبَلها على إدراك ذلك وتطلّبه ، ويطلق على تسخير الله تعالى بعض مخلوقاته لقبول أثر قدرته كقوله : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } [ الزلزلة : 1 ] إلى قوله : { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزلة : 5 ] .
والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته ، فهو أوحى في السماوات بتقادير نُظُم جاذبيتها ، وتقادير سير كواكبها ، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها ، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعملون ، قال تعالى : { وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27 ] وقال : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] .
و { أمرها } بمعنى شأنها ، وهو يصدق بكل ما هو من ملابساتها من سكانها وكواكبها وتماسك جرمها والجاذبية بينها وبين ما يجاورها . وذلك مقابل قوله في خلق الأرض { وجعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } [ فصلت : 10 ] . { وانتصب أمرها } على نزع الخافض ، أي بأمرها أو على تضمين أَوحَى معنى قدَّر أو أودَع .
ووقع الالتفات من طريق الغيبة إلى طريق التكلم في قوله : { وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح } تجديداً لنشاط السامعين لطول استعمال طريق الغيبة ابتداءً من قوله : { بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ } [ فصلت : 9 ] مع إظهار العناية بتخصيص هذا الصنع الذي ينفع الناس ديناً ودُنيا وهو خلق النجوم الدقيقة والشهب بتخصيصه بالذكر من بين عموم { وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أمْرَهَا } ، فما السماء الدنيا إلا من جملة السماوات ، وما النجوم والشُّهُب إلا من جملة أمرها .
والمصابيح : جمع مصباح ، وهو ما يوقد بالنار في الزيت للإضاءة وهو مشتق من الصباح لأنهم يحاولون أن يجعلوه خلفاً عن الصباح . والمراد بالمصابيح : النجوم ، استعير لها المصابيح لما يبدو من نورها .
وانتصب { حفظاً } على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف دل عليه فعل { زيَّنَّا } . والتقدير : وجعلنَاها حفظاً . والمراد : حفظاً للسماء من الشياطين المسترقة للسمع . وتقدم الكلام على نظيره في سورة الصّافات .
{ ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم }
الإِشارة إلى المذكور من قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا } [ فصلت : 10 ] إلى قوله : { وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح وَحِفْظاً } . والتقدير : وضْع الشيء على مقدار معيَّن ، وتقدم نظيره في سورة يَس . وتقدم وجهُ إيثار وصفي { العَزِيزِ العَلِيمِ } بالذكر .