فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (12)

{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات } أي : خلقهنّ وأحكمهنّ وفرغ منهنّ ، كما في قول الشاعر :

وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود إذ صبغ السوابغ تبع

والضمير في : " قضاهنّ " إما راجع إلى السماء على المعنى ؛ لأنها سبع سماوات ، أو مبهم مفسر بسبع سماوات ، وانتصاب { سبع سماوات } على التفسير ، أو على البدل من الضمير . وقيل : إن انتصابه على أنه المفعول الثاني لقضاهنّ ؛ لأنه مضمن معنى صبرهنّ . وقيل : على الحال ، أي قضاهنّ حال كونهنّ معدودات بسبع ، ويكون قضى بمعنى : صنع ، وقيل : على التمييز ، ومعنى { فِي يَوْمَيْنِ } كما سبق في قوله : { خَلَقَ الأرض في يَوْمَيْنِ } ، فالجملة ستة أيام ، كما في قوله سبحانه : { خُلِقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ هود : 7 ] ، وقد تقدّم بيانه في سورة الأعراف . قال مجاهد : ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون . قال عبد الله بن سلام : خلق الأرض في يوم الأحد ، ويوم الاثنين ، وقدّر فيها أقواتها يوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء ، وخلق السماوات في يوم الخميس ويوم الجمعة ، وقوله : { وأوحى في كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } عطف على قضاهنّ . قال قتادة والسدّي : أي خلق فيها شمسها ، وقمرها ، ونجومها ، وأفلاكها ، وما فيها من الملائكة ، والبحار ، والبرد ، والثلوج . وقيل المعنى : أوحى فيها ما أراده وما أمر به ، والإيحاء قد يكون بمعنى : الأمر كما في قوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى } [ الزلزلة : 5 ] ، وقوله : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } [ المائدة : 111 ] أي أمرتهم .

وقد استشكل الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] ، فإن ما في هذه الآية من قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } مشعر بأن خلقها متأخر عن خلق الأرض ، وظاهره يخالف قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } ، فقيل : إن { ثم } في { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } ليست للتراخي الزماني بل للتراخي الرتبي ، فيندفع الإشكال من أصله . وعلى تقدير أنها للتراخي الزماني ، فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدّم على خلق السماء ، ودحوها بمعنى بسطها ، وهو أمر زائد على مجرّد خلقها ، فهي متقدّمة خلقاً متأخرة دحواً ، وهذا ظاهر ، ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله : { وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح } أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلؤلؤ المصابيح ، وانتصاب { حافظا } على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي وحفظناها حفظاً ، أو على أنه مفعول لأجله على تقدير : وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً ، والأوّل أولى . قال أبو حبان : في الوجه الثاني هو تكلف ، وعدول عن السهل البين ، والمراد بالحفظ : حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم ذكره { تَقْدِيرُ العزيز العليم } أي البليغ القدرة الكثير العلم .