ثم أكد - سبحانه - حكم التحويل ، وبين عدم تفاوت الأمر باستقبال المسجد الحرام في حالتي السفر أو الحضر . فقال - تعالى - : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } . . .
أي : ومن أي موضع خرجت وإلى أم مكان آخر سرت ، فول - يا محمد - وجهك عند صلاتك إلى المسجد الحرام ، وإن هذا التوجه شطره لهو الحق الذي لا شك فيه عند ربك ، فحافظوا على ذلك أيها المؤمنون وأطيعوا الله - تعالى - في كل ما يأمركم به ، ويتهاكم عنه ، لأنه - سبحانه - ليس بساه عن أعمالكم ، ولا بغافل عنها ، ولكنه محصيها عليكم ، وسيجازيكم الجزاء الذي تستحقونه عليها يوم القيامة .
ثم يعود فيؤكد الأمر بالاتجاه إلى القبلة الجديدة المختارة مع تنويع التعقيب :
( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك ، وما الله بغافل عما تعملون ) . .
والأمر في هذه المرة يخلو من الحديث عن أهل الكتاب وموقفهم ، ويتضمن الاتجاه إلى المسجد الحرام حيثما خرج النبي [ ص ] وحيثما كان ، مع توكيد أنه الحق من ربه . ومع التحذير الخفي من الميل عن هذا الحق . التحذير الذي يتضمنه قوله : ( وما الله بغافل عما تعملون ) . . وهو الذي يشي بأنه كانت هناك حالة واقعة وراءه في قلوب بعض المسلمين تقتضي هذا التوكيد وهذا التحذير الشديد .
هذا أمر ثالث من الله تعالى{[2956]} باستقبال المسجد الحرام ، من جميع أقطار الأرض .
وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات ، فقيل : تأكيد لأنه أول ناسخ وقع ، في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره ، وقيل : بل هو منزل على أحوال ، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة ، والثاني لمن هو في مكة غائبًا عنها ، والثالث لمن هو في بقية البلدان ، هكذا وجهه فخر الدين الرازي . وقال القرطبي : الأول لمن هو بمكة ، والثاني لمن هو في بقية الأمصار ، والثالث لمن خرج ، في الأسفار ، ورجح هذا الجواب القرطبي ، وقيل : إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق ، فقال : أولا { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } إلى قوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها ؛
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنّهُ لَلْحَقّ مِن رّبّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ومن أيّ موضع خرجت إلى أيّ موضع وجهت فولّ يا محمد وجهك ، يقول : حوّل وجهك . وقد دللنا على أن التولية في هذا الموضع شطر المسجد الحرام ، إنما هي الإقبال بالوجه نحوه وقد بينا معنى الشطر فيما مضى .
وأما قوله : وَإنّهُ لَلْحَقّ مِنْ رَبّكَ فإنه يعني تعالى ذكره : وإن التوجه شطره للحقّ الذي لا شك فيه من عند ربك ، فحافظوا عليه ، وأطيعوا الله في توجهكم قبله .
وأما قوله : وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ فإنه يقول : فإن الله تعالى ذكره ليس بساه عن أعمالكم ولا بغافل عنها ، ولكنه محصيها لكم حتى يجازيكم بها يوم القيامة .
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 149 )
وقوله تعالى : { ومن حيث خرجت } ، معناه حيث كنت وأنّى توجهت من مشارق الأرض ومغاربها ، ثم تكررت هذه الآية تأكيداً من الله تعالى ، لأن موقع التحويل كان صعباً في نفوسهم جداً فأكد الأمر ليرى الناس التهمم به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه( {[1407]} ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن حيث خرجت}... ومن أين توجهت من الأرض،
{فول وجهك شطر المسجد الحرام}، يقول: فحول وجهك في الصلاة تلقاء المسجد الحرام،
{وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ": ومن أيّ موضع خرجت إلى أيّ موضع وجهت "فولّ "يا محمد وجهك، يقول: حوّل وجهك. وقد دللنا على أن التولية في هذا الموضع شطر المسجد الحرام، إنما هي الإقبال بالوجه نحوه وقد بينا معنى الشطر فيما مضى
"وَإنّهُ لَلْحَقّ مِنْ رَبّكَ": وإن التوجه شطره للحقّ الذي لا شك فيه من عند ربك، فحافظوا عليه، وأطيعوا الله في توجهكم قبله.
"وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ": فإن الله تعالى ذكره ليس بساه عن أعمالكم ولا بغافل عنها، ولكنه محصيها لكم حتى يجازيكم بها يوم القيامة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
ثم أكد الله أمره في استقبال الكعبة، لما جرى من خوض المشركين ومساعدة المنافقين، بإعادته... تبييناً لِنَبِيِّهِ وصرفاً له عن الاغترار بقول اليهود: أنهم يتبعونه إن عاد.
{وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يقول ذلك ترغيباً لهم في الخير. والثاني: تحذيراً من المخالفة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل في تكرار قوله تعالى:"فول وجهك شطر المسجد الحرام" قولان:
أحدهما: أنه لما كان فرضا، نسخ ما قبله، كان من مواضع التأكيد لينصرف إلى الحال الثانية بعد الحال الأولى على يقين.
والثاني: أنه مقدم لما يأتي بعده ويتصل به، فأشبه الاسم الذي تكرره لتخبر عنه بأخبار كثيرة...
ومعنى قوله "وإنه للحق "الدلالة على وجوب المحافظة -من حيث كان حقا لله فيه طاعة -،
" وما الله بغافل عما تعملون "هاهنا التهديد كما يقول الملك لعبيده: ليس يخفى علي ما أنتم فيه، ومثله قوله:"إن ربك لبالمرصاد".
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {ومن حيث خرجت}، معناه حيث كنت وأنّى توجهت من مشارق الأرض ومغاربها، ثم تكررت هذه الآية تأكيداً من الله تعالى، لأن موقع التحويل كان صعباً في نفوسهم جداً، فأكد الأمر ليرى الناس التهمم به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه...
اعلم أن أول ما في هذه الآية من البحث أن الله تعالى قال قبل هذه الآيات: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أن الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون} وذكر ههنا ثانيا قوله تعالى: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون} وذكر ثالثا قوله: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة} فهل في هذا التكرار فائدة أم لا؟
(أولها): أن يكون الإنسان في المسجد الحرام.
(وثانيها): أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد.
(وثالثها): أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض.
فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى، والثانية على الثانية، والثالثة على الثالثة. لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للعبد،فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات.
(والجواب الثاني): أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة:
أما في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر هذه القبلة حق، لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل،
وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق، وشهادة الله بكونه حقا مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقا.
وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظيره قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون}.
(والجواب الثالث): أنه تعالى قال في الآية الأولى: {فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلبا لرضا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال: {فلنولينك قبلة ترضاها} فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك} أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل، ثم أنه تعالى قال ثالثا: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، ولا تولوا فيصير ذلك التولي سببا للطعن في دينكم،
والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة، والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخا البتة.
أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام
والثاني مقرون بقوله تعالى: {ولكل وجهة هو موليها} أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك}.
والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمر القبلة فكانت هذه عللا ثلاثا قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة نظيره أن يقال: ألزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال: ألزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله: {وإنه للحق من ربك} ثم يقال: الزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك،
وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وكذلك ما كرر في قوله تعالى: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين}.
(والجواب الخامس): أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات.
أما قوله تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون} يعني ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق وهم يعرفونه ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} وبأنه قد اشتاق إلى مولده ودين آبائه فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله وكشف عن وهنه وضعفه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: ومن التفت بقلبه في صلاته إلى غير ربه لم تنفعه وجهة وجه بدنه إلى الكعبة، لأن ذلك حكم حق حقيقته توجه القلب ومن التفت بقلبه إلى شيء من الخلق في صلاته فهو مثل الذي استدبر بوجهه عن شطر قبلته، فكما يتداعى الإجزاء الفقهي باستدبار الكعبة حساً فكذلك يتداعى القبول باستدبار وجه القلب عن الرب غيباً، فلذلك أقبل هذا الخطاب على الذين آمنوا والذين أسلموا، لأنه هو صلى الله عليه وسلم مبرأ عن مثله -انتهى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عُطف قولُه: {ومن حيث خرجت} على قوله: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144] عَطْف حكم على حكم من جنسِه للإعلام بأن استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة لا تَهاوُن في القيام به ولو في حالة العذر كالسفر، فالمراد من {حَيث خرجتَ} من كل مكان خرجتَ مسافراً لأن السفر مظنة المشقة في الاهتداء لجهة الكعبة فربما يتوهم متوهم سقوط الاستقبال عنه، وفي معظم هاته الآية مع قوله: {وإنه للحق من ربك} زيادةُ اهتمام بأمر القبلة يؤكد قوله في الآية السابقة: {الحق من ربك} [البقرة: 147].
وقوله: {وما الله بغافل عما تعملون} زيادة تحذير من التساهل في أمر القبلة.