غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ وَإِنَّهُۥ لَلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (149)

142

{ ومن حيث خرجت } ومن أي بلد خرجت يا محمد { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } إذا صليت { وإنه } وإن هذا المأمور به { للحق } الذي يجب أن يقبل ويعمل به حال كونه { من ربك وما الله بغافلٍ عما يعملون } وعد للمتشاغلين ووعيد للمتغافلين .

واعلم أن أمر التولية ذكره الله تعالى ثلاث مرات ، وللعلماء في سبب التكرير أقوال :

أولها : أن الآية الأولى محمولة على أن يكون المكلف حاضر المسجد الحرام ، والثانية على أن يكون غائباً عنه ولكن يكون في البلد ، والثالثة على أن يكون خارج البلد في أقطار الأرض ، فقد يمكن أن يتوهم للقريب من التكليف ما ليس للبعيد فأزيل ذلك الوهم .

وثانيها : أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر ، وذلك أنه أكد الأول بأن أهل الكتاب يعلمون حقيته بشهادة التوراة والإنجيل ، وأكد الثاني بإخبار الله تعالى عن حقيته وكفى به شهيداً ، وأتبع الثالث غرض التحويل وهو قوله { لئلا يكون للناس عليكم حجة } كما أن قوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } وأمثال ذلك تكرر حيث نيط بكل منها فائدة .

وثالثها : أن الآية الأولى توهم أن التحويل إنما فعل رضا للنبي صلى الله عليه وسلم وطلباً لهواه حيث قال { فلنولينك قبلةً ترضاها } فأزيل الوهم بتكرار الأمر وتعقيبه بقوله { وإنه للحق من ربك } أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك وهواك كقبلة اليهود والمنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والتشهي ، ولكنها حق من ربك بعد أنها وافقت رضاك ، وفي الثالثة بيان الغرض .

ورابعها : أن الأولى لتعميم الأحوال والثانية لتعميم الأمكنة ، والثالثة لتعميم الأزمنة إشعاراً بأنها لا تصير منسوخة ألبتة .

وخامسها : الزم هذه القبلة فإنها التي كنت تهواها ، الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى . الزم هذه القبلة فبها ينقطع عنك حجج العدا وهذا قريب من الثالث .

وسادسها : هذه الواقعة أولى الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرير لمزيد التأكيد والتقرير .

وسابعها : قلت : الآية الأولى مشتملة على تكليف خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم { فلنولينك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } ثم على تكليف عام له ولأمته { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } والآية الثانية { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام } لأجل تكليف أخص وهو تكليف الالتفات عما سوى الله إلى الله وهو تكليف الصدّيقين وهو سنة خليل الرحمان صلى الله عليه وسلم

{ وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 49 ] ومما يؤيد هذا التأويل تعقيبه بقوله { وإنه للحق من ربك } لم يستظهر على هذا إلا بشهادة نفسه حيث لم يبق إلا هو وهو مقام الفناء في الله بخلاف الآية الأولى فإنها أكدت بشهادة الغير . وأيضاً اقتصر ههنا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة لأن هذه المرتبة وهي المسجد الحرام - حرام لا يليق بكل أحد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد . وأيضاً قدم على الآية قوله { ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات } فدل على أن المذكور بعدها مرتبة السابقين { ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } [ فاطر : 32 ] لما كان من المحتمل أن يظن أن التكليف الأخص ناسخ للتكليف الخاص منه والعام له ولأمته ، كرر الآية الأولى بعينها ليعلم أن حكمها باقٍ بالنسبة إلى عموم المكلفين والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .

قوله { لئلا يكون } أي ولوا لأجل هذا الغرض . وقال الزجاج : يتعلق بمحذوف أي عرفتكم لئلا يكون الناس عليكم حجة . و الناس قيل للعموم ، وقيل هم اليهود كانوا يطعنون بأنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ويقولون ما درى محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه . وقيل : هم العرب قالوا : إنه يقول أنا على دين إبراهيم ، ولما ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم . وإنما أطلق الحجة على قول المعاندين لأن المراد بها المحاجة ، أو سماها حجة تهكماً أو طباقاً أو بناءً على معتقدهم لأنهم يسوقونها سياق الحجة . وقد تكون الحجة باطلة قال تعالى { حجتهم داحضة عند ربهم }

[ الشورى : 16 ] وكل كلام يقصد به غلبة الغير حجة ، وعلى هذا فالاستثناء متصل . والمراد بالذين ظلموا المعاندون من اليهود القائلون بأنه ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء ، أو بعض العرب القائلون بأن محمداً عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية .

وقيل : الاستثناء منقطع . وقيل : " إلا " بمعنى الواو وأنشد شعر :

وكل أخٍ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان

يعني والفرقدان . وإذا طعنوا في دينكم من غير ما سببٍ { فلا تخشوهم } فإنهم لا يضرونكم { واخشون } واحذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم على وفق مصلحتكم ، فعلى المرء أن ينصب بين عينيه في كل أفعاله وتروكه خشية الله ويقطع الرجاء والخوف عمن سواه . قوله { ولأتم } قيل : معطوف على { لئلا } أي حوّلتكم إلى هذه القبلة لحكمتين : إحداهما انقطاع حجتهم ، والثانية إتمام النعمة بحصول شرف قبلة إبراهيم . وقيل : متعلقة محذوف معناه ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك . وقيل : معطوف على علة مقدرة كأنه قال : واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم وهذا الإتمام لا ينافي ما أنزل في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] فإن لله تعالى في كل وقت نعمة على المكلفين ولها تمام بحسبها ، فهذا إتمام النعمة في أمر القبلة ، وذاك تمام النعمة في أمر الدين على الإطلاق وعن علي عليه السلام : تمام النعمة الموت على الإسلام . وفي الحديث " تمام النعمة دخول الجنة " .