البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ وَإِنَّهُۥ لَلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (149)

{ ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } : لما ذكر تعالى أن لكل وجهة يتولاها ، أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام من أي مكان خرج ، لأن قوله : { فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك } ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة .

فبين بهذا الأمر الثاني تساوي الحالين إقامة وسفراً في أنه مأمور باستقبال البيت الحرام ، ثم عطف عليه : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ، ليبين مساواتهم له في ذلك ، أي في حالة السفر ، والأولى في حالة الإقامة .

وقرأ عبد الله بن عمير : ومن حيث بالفتح ، فتح تخفيفاً .

وقد تقدم القول في حيث في قوله : { حيث شئتما } .

{ وإنه للحق من ربك } : هذا إخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق ، أي الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل .

وفي الأول قال : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } ، حيث كان الكلام مع سفهائهم الذين اعترضوا في تحويل القبلة ، فردّ عليهم بأشياء منها : أن علماءهم يعلمون أن تحويل القبلة حق من عند الله ، وختم آخر هذه الآية بما ختم به آخر تلك من قوله : { وما الله بغافل عما تعملون } في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو التحويل من جهة إلى جهة ، وذلك مهو محض التعبد .

فالجهات كلها بالنسبة إلى البارئ تعالى مستوية ، فكونه خص باستقبال هذه زماناً ، ونسخ ذلك باستقبال جهة أخرى متأبدة ، لا يظهر في ذلك في بادي الرأي إلا أنه تعبد محض .

فلم يبق في ذلك إلا امتثال ما أمر الله به ، فأخبر تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم ، بل هو المطلع عليها ، المجازي بالثواب من امتثل أمره ، وبالعقاب من خالفه .

وجاء في قوله : { الحق من ربك } في المكانين ، وفي قوله : { وما الله } في المكانين ، فحيث نبه على استدلال حكمته بالنظر إلى أفعاله ، ذكر الرب المقتضي للنعم ، لننظر منها إلى المنعم ، ونستدل بها عليه ، ولما انتهى إلى ذكر الوعيد ، ذكر لفظ الله المقتضي للعبادة التي من أخل بها استحق أليم العذاب .

/خ157