قوله تعالى : " مِنْ حَيْثُ " متعلق بقوله : " فولّ وَجْهَكَ " و " خرجت " في محلّ جر بإضافة " حيث " إليها ، وقرأ عبد الله{[1917]} بالفتح ، وقد تقدم أنها إحدى اللغات ، ولا تكون هنا شرطية ، لعدم زيادة " ما " ، والهاء في قوله : { وَإِنَّهُ للحَقُّ } الكلام فيها كالكلام عليها فيما تقدّم .
وقرئ " تعلمون " بالياء والتاء ، وهما واضحتان كما تقدم .
اعلم أنه - تبارك وتعالى - قال أولاً : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] وذكر هاهنا ثانياً قوله تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
ثم ذكر ثالثاً قوله : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } فما فائدة هذا التكرار ؟ فيه أقوال :
أولها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام .
وثانيها : أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد .
وثالثها : أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض .
فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى ، والثانية على الثانية ، والثالثة على الثالثة ؛ لأنه قد يتوهّم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد ، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله - تعالى - هذه الآيات .
والجواب : أنه علق بها كل مرة فائدة زائدة ، ففي الأولى بين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر هذه القبلة حقّ ؛ لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل .
وفي الثانية بين أنه - تعالى - يشهد أن ذلك حقّ ، وشهادة الله بكونه حقّاً مغايرة لعلم أهل الكتاب [ حقّاً ] .
وفي الثالثة بين [ فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجّة ]{[1918]} ، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة في المرات واحدة من هذه الفوائد ، ونظيره قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }
وثالثها : لما قال في الأولى : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } فربما توهم متوهم أن هذا التحويل لمجرد رضاه فأزال هذا الوهم الفاسد بقوله عز وجل ثانياً : { وَمِنْ حَيْثُما خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } { وَإنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أي : إن التحويل ليس لمجرد رضاك ، بل لأجل أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فاستقبالها ليس لمجرد الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي يقيمون عليها بمجرّد الهوى والميل .
ثم قال تعالى ثالثاً : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }{[1919]}والمراد منه الدوام على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات ، وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً .
ورابعها : أنه قرن كل آية بمعنى ، فقرن الأولى وهي القبلة التي يرضاها ويحبّها بالقبلة التي كانوا يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وقرن الآية الثانية بقوله : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } أي : لكل صاحب ملّة قبلة يتوجّه إليها ، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها حقٌّ ، وقرن الثالثة بقطع الله - تعالى - حجّة من خاض من اليهود في أمر القِبْلَةِ ، فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمراً بالتزام القبلة .
نظيره أن يقال : الزم هذه القبلة كأنها القبلة التي كنت تهواها ، ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى ، وهو قوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك ، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 16 ] وكذلك ما كرر في قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 8 ] .
وخامسها : أن هذه الواقعة أوّل الوقائع التي ظهر النَّسخ فيها في شرعنا ، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير ، وإزالة الشبهة ، وإيضاح البينات .
أما قوله سبحانه وتعالى : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } يعني : ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق ، وهم يعرفونه ، ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم :{ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] وبأنه قد اشتاق إلى مولده ، ودين آبائه ، فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله . [ وقد تقدم الكلام على نفي الغَفْلة وعدم ذكر العلم ]{[1920]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.