اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ وَإِنَّهُۥ لَلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (149)

قوله تعالى : " مِنْ حَيْثُ " متعلق بقوله : " فولّ وَجْهَكَ " و " خرجت " في محلّ جر بإضافة " حيث " إليها ، وقرأ عبد الله{[1917]} بالفتح ، وقد تقدم أنها إحدى اللغات ، ولا تكون هنا شرطية ، لعدم زيادة " ما " ، والهاء في قوله : { وَإِنَّهُ للحَقُّ } الكلام فيها كالكلام عليها فيما تقدّم .

وقرئ " تعلمون " بالياء والتاء ، وهما واضحتان كما تقدم .

فصل في الكلام على الآية

اعلم أنه - تبارك وتعالى - قال أولاً : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] وذكر هاهنا ثانياً قوله تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .

ثم ذكر ثالثاً قوله : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } فما فائدة هذا التكرار ؟ فيه أقوال :

أحدها : أن الأحوال ثلاثة :

أولها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام .

وثانيها : أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد .

وثالثها : أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض .

فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى ، والثانية على الثانية ، والثالثة على الثالثة ؛ لأنه قد يتوهّم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد ، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله - تعالى - هذه الآيات .

والجواب : أنه علق بها كل مرة فائدة زائدة ، ففي الأولى بين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر هذه القبلة حقّ ؛ لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل .

وفي الثانية بين أنه - تعالى - يشهد أن ذلك حقّ ، وشهادة الله بكونه حقّاً مغايرة لعلم أهل الكتاب [ حقّاً ] .

وفي الثالثة بين [ فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجّة ]{[1918]} ، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة في المرات واحدة من هذه الفوائد ، ونظيره قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }

[ البقرة : 79 ] .

وثالثها : لما قال في الأولى : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } فربما توهم متوهم أن هذا التحويل لمجرد رضاه فأزال هذا الوهم الفاسد بقوله عز وجل ثانياً : { وَمِنْ حَيْثُما خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } { وَإنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أي : إن التحويل ليس لمجرد رضاك ، بل لأجل أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فاستقبالها ليس لمجرد الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي يقيمون عليها بمجرّد الهوى والميل .

ثم قال تعالى ثالثاً : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }{[1919]}والمراد منه الدوام على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات ، وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً .

ورابعها : أنه قرن كل آية بمعنى ، فقرن الأولى وهي القبلة التي يرضاها ويحبّها بالقبلة التي كانوا يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وقرن الآية الثانية بقوله : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } أي : لكل صاحب ملّة قبلة يتوجّه إليها ، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها حقٌّ ، وقرن الثالثة بقطع الله - تعالى - حجّة من خاض من اليهود في أمر القِبْلَةِ ، فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمراً بالتزام القبلة .

نظيره أن يقال : الزم هذه القبلة كأنها القبلة التي كنت تهواها ، ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى ، وهو قوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك ، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 16 ] وكذلك ما كرر في قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 8 ] .

وخامسها : أن هذه الواقعة أوّل الوقائع التي ظهر النَّسخ فيها في شرعنا ، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير ، وإزالة الشبهة ، وإيضاح البينات .

أما قوله سبحانه وتعالى : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } يعني : ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق ، وهم يعرفونه ، ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم :{ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] وبأنه قد اشتاق إلى مولده ، ودين آبائه ، فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله . [ وقد تقدم الكلام على نفي الغَفْلة وعدم ذكر العلم ]{[1920]} .


[1917]:- وقرأ بها عبد الله بن عمير كما في البحر: 1/ 613، وانظر الدر المصون: 1/407.
[1918]:- في أ: العلة، وهي قطع حجة اليهود.
[1919]:- سقط في ب.
[1920]:- سقط في ب.