وبعد أن بشر الله - تعالى - المؤمنين بهزيمة أعدائهم أمامهم ، أتبع ذلك ببشارة أخرى ، وهى أن هؤلاء المنافقين وإخوانهم فى الكفر ، يخشون المؤمنين خشية شديدة ، فقال - سبحانه - : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله . . } .
والرهبة : مصدر رهب ، بمعنى خاف ، يقال : رهب فلان فلانا ، إذا خافه خوفا شديدا من داهل نفسه . . .
أي : لأنتم - أيها المؤمنون - أشد خوفا فى نفوس هؤلاء المنافقين واليهود ، من ربهم الذى خلقهم وأوجدهم .
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } تعليل لسبب جبنهم وخوفهم ، واسم الإشارة يعود إلى كون المؤمنين أشد رهبة فى صدور المنافقين واليهود من الله - تعالى - .
أي : أنتم أشد رهبة فى قلوبهم من الله - تعالى - : بسبب أنهم قوم لا يفقهون الحق ، ولا يعلمون شيئا عن عظمة الله - سبحانه - وجلاله وقدرته .
والمقصود من هذه الآية الكريمة ، تهوين أمر هؤلاء الأعداء فى نفوس المؤمنين وبيان أن هؤلاء الاعداء قد بلغ الجبن والخور فيهم مبلغا كبيرا ، لدرجة أن خشيتهم لكم ، اشد من خشيتهم لله - تعالى - .
والتعبير بالرهبة للإشعار بأنها رهبة خفية لا يعلمها إلا الله - تعالى - وأن هؤلاء المنافقين واليهود ، مهما تظاهروا أمام المؤمنين بالبأس والقوة . فهم فى قرارة نفوسهم يخافون المؤمنين خوفا شديدا .
قال صاحب الكشاف : رهبة مصدر رهب المبنى للمفعول ، كأنه قيل أشد مرهوبية .
وقوله : { فِي صُدُورِهِمْ } دلالة على نفاقهم . يعنى : أنهم يظهرون لكم فى العلانية خوف الله ، وأنتم أهيب فى صدورهم من الله - تعالى - .
فإن قلت : كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشد ؟ ، قلت : معناه أن رهبتهم فى السر منكم ، أشد من رهبتهم من الله التى يظهرونها لكم . وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله . . . فأنت ترى أن الآية الكريمة قد قررت حقيقة راسخة فى نفوس المنافقين وأشباههم ، وإن كانوا يحاولون إخفاءها وسترها ، وهى أن خشيتهم من الناس أشد من خشيتهم من الله - تعالى - .
ثم يقرر حقيقة قائمة في نفوس المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب : ( لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله . ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ) .
فهم يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله . ولو خافوا الله ما خافوا أحدا من عباده . فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة . ولا يجتمع في قلب خوف من الله وخوف من شيء سواه . فالعزة لله جميعا ، وكل قوى الكون خاضعة لأمره ، ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها )فمم يخاف إذن ذلك الذي يخاف الله ? ولكن الذين لا يفقهون هذه الحقيقة يخافون عباد الله أشد مما يخافون الله . . ( ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ) . .
وهكذا يكشف عن حقيقة القوم الواقعة . ويقرر في الوقت ذاته تلك الحقيقة المجردة . ويمضي يقرر حالة قائمة في نفوس المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب ، تنشأ من حقيقتهم السابقة ، ورهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله .
القول في تأويل قوله تعالى : { لأنتُمْ أَشَدّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَفْقَهُونَ * لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرًى مّحَصّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّىَ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأنتم أيها المؤمنون أشدّ رهبة في صدور اليهود من بني النضير من الله : يقول : هم يرهبونهم أشدّ من رهبتهم من الله ذَلكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ يقول تعالى ذكره : هذه الرهبة التي لكم في صدور هؤلاء اليهود التي هي أشد من رهبتهم من الله من أجل أنهم قوم لا يفقهون ، قدر عظمة الله ، فهم لذلك يستخفّون بمعاصيه ، ولا يرهبون عقابه قدر رهبته منكم .
لما كان المقصود من ذكر وهن المنافقين في القتال تشديد نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأنفُسِ المؤمنين حتى لا يرهبوهم ولا يخشوا مساندتهم لأهل حرب المسلمين أحلاف المنافقين قريظة وخيبر أعقب ذلك بإعلام المؤمنين بأن المنافقين وأحلافهم يخشون المسلمين خشية شديدة وُصفت شدتها بأنها أشد من خشيتهم الله تعالى ، فإن خشية جميع الخلق من الله أعظم خشية فإذا بلغت الخشية في قلب أحد أن تكون أعظم من خشية الله فذلك منتهى الخشية .
والمقصود تشديد نفوس المسلمين ليعلموا أن عدوّهم مُرهَب منهم ، وذلك مما يزيد المسلمين إقداماً في محاربتهم إذ ليس سياق الكلام للتسجيل على المنافقين واليهود قلة رهبتهم لله بل إعلام المسلمين بأنهم أرهب لهم من كل أعظم الرهبات .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين .
والصدور مراد بها : النفوس والضمائر لأن محل أجهزتها في الصدور .
والرَّهبة : مصدر رهب ، أي خاف .
وقوله : { في صدورهم } ل { رهبة } فهي رهبة أولئك .
وضمير { صدورهم } عائد إلى { الذين نافقوا } [ الحشر : 11 ] و { الذين كفروا من أهل الكتاب } [ الحشر : 11 ] إذ ليس اسم أحد الفريقين أولى بعود الضمير إليه مع صلاحية الضمير لكليهما ، ولأن المقصودِين بالقتال هم يهود قريظة وخيبر وأما المنافقون فكانوا أعواناً لهم .
وإسناد { أشَدّ } إلى ضمير المسلمين المخاطبين إسناد سببيّ كأنه قيل : لرهبتكم في صدورهم أشد من رهبة فيها . فالرهبة في معنى المصدر المضاف إلى مفعوله ، وكل مصدر لفعل متعدّ يحتمل أن يضاف إلى فاعله أو إلى مفعوله ، ولذلك فسره الزمخشري بأشد مرهوبية .
و { من الله } هو المفضل عليه ، وهو على حذف مضاف ، أي من رهبة الله ، أي من رهبتهم الله كما قال النابغة :
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وَعِلٍ في ذي المطارة عاقل
وهذا تركيب غريب النسج بديعه . والمألوف في أداء مثل هذا المعنى أن يقال : لَرهبتهم منكم في صدورهم أشد من رهبتهم من الله ، فحُوّل عن هذا النسج إلى النسج الذي حبك عليه في الآية ، ليتأتّى الابتداء بضمير المسلمين اهتماماً به وليكون متعلّق الرهبة ذوات المسلمين لتوقع بطشهم وليأتي التمييز المحول عن الفاعل لما فيه من خصوصية الإِجمال مع التفصيل كما تقرر في خصوصية قوله تعالى : { واشتعل الرأس شيباً } [ مريم : 4 ] دون : واشتعل شيبُ رأسي . وليتأتى حذف المضاف في تركيب { من الله } ، إذ التقدير : من رهبة الله لأن حذفه لا يحسن إلا إذا كان موقعه متصلاً بلفظ { رهبة } ، إذ لا يحسن أن يقال : لرهبتهم أشد من الله . وانظر ما تقدم عند تفسير قوله تعالى : { إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية } في سورة [ النساء : 77 ] .
فاليهود والمنافقون من شأنهم أن يخشوا الله .
أما اليهود فلأنهم أهل دين فَهُم يخافون الله ويحذرون عقاب الدنيا وعقاب الآخرة . وأما المنافقون فهم مشركون وهم يعترفون بأن الله تعالى هو الإله الأعظم ، وأنه أولى الموجودات بأن يخشى لأنه ربّ الجميع وهم لا يثبتون البعث والجزاءَ فخشيتهم الله قاصرة على خشية عذاب الدنيا من خسف وقحط واستئصال ونحو ذلك وليس وراء ذلك خشية . وهذا بشارة للنبيء والمسلمين بأن الله أوقع الرعب منهم في نفوس عدوّهم كما قال النبي : نُصِرت بالرعب مسيرة شهر .
ووجه وصف الرهبة بأنها في صدورهم الإِشارة إلى أنها رهبة جدُّ خفيّة ، أي أنهم يتظاهرون بالاستعداد لحرب المسلمين ويتطاولون بالشجاعة ليرهبهم المسلمون وما هم بتلك المثابة فأطلع الله رسوله على دخيلتهم فليس قوله : { في صدورهم } وصفاً كاشفاً .
وإذ قد حصلت البشارة من الخبر عن الرعب الذي في قلوبهم ثُنّي عنان الكلام إلى مذمّة هؤلاء الأعداء من جراء كونهم أخوفَ للناس منهم لله تعالى بأن ذلك من قلة فقه نفوسهم ، ولو فقهوا لكانوا أخوف لله منهم للناس فنظروا فيما يخلصهم من عقاب التفريط في النظر في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلموا صدقهُ فنجَوا من عواقب كفرهم به في الدنيا والآخرة فكانت رهبتهم من المسلمين هذه الرهبة مصيبة عليهم وفائدة للمسلمين .
فالجملة معترضة بين البيان ومبيّنه .
والإِشارة بذلك إلى المذكور من قوله : { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله } واجتلاب اسم الإِشارة ليتميز الأمر المحكوم عليه أتم تمييز لغرابته .
والباء للسببية والمجرورُ خبر عن اسم الإِشارة ، أي سبب ذلك المذكور وهو انتفاء فقاهتهم .
وإقحام لفظ { قوم } لما يؤذن به من أن عدم فقه أنفسهم أمر عرفوا به جميعاً وصار من مقومات قَوميتهم لا يخلو عنه أحد منهم ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله : { لآيات لقوم يعقلون } في سورة [ البقرة : 164 ] .
والفقه : فهم المعاني الخفية ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } في سورة [ النساء : 78 ] ، وقوله : { انظر كيف نصرّف الآيات لعلّهم يفقهون } في سورة [ الأنعام : 65 ] ، ذلك أنهم تَبِعوا دواعي الخوف المشاهد وذهلوا عن الخوف المغيب عن أبصارهم ، وهو خوف الله فكان ذلك من قلة فهمهم للخفيّات .