قوله تعالى : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم }نزلت في النضر بن الحارث ، وكان كثير الجدل وكان يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، وكان ينكر البعث وإحياء من صار تراباً . قوله تعالى : { ويتبع } أي : يتبع في جداله في الله بغير علم ، { كل شيطان مريد } والمريد : المتمرد الغالي العاتي المستمر في الشر .
وبعد هذا الافتتاح الذى يغرس الخوف فى النفوس ، ويحملها على تقوى الله وخشيته ، ساقت السورة حال نوع من الناس يجادل بالباطل ، ويتبع خطوات الشيطان ، فقال - تعالى - : { وَمِنَ الناس . . } .
و { مِنَ } فى قوله { وَمِنَ الناس } للتبعيض . وقوله { يُجَادِلُ } من الجدال بمعنى المفاوضة على سبيل المنازعة والمخاصمة والمغالبة ، مأخوذ من جدلت الحبل . أى : أحكمت فتله ، كأن المتجادلين يحاول كل واحد منهما أن يقوى رأيه ، ويضعف رأى صاحبه .
والمراد بالمجادلة فى الله : المجادلة فى ذاته وصفاته وتشريعاته .
وقوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من الفاعل فى يجادل . وهى حال موضحة لما تشعر به المجادلة هنا من الجهل والعناد .
أى : ومن الناس قوم استولى عليهم الجهل والعناد ، لأنهم يجادلون وينازعون فى ذات الله وصفاته ، وفى وحيه وفى أحكامه بغير مستند من علم عقلى أو نقلى ، وبغير دليل أو ما يشبه الدليل .
وقوله - سبحانه - { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } معطوف على ما قبله . والمريد والمتمرد : البالغ أقصى الغاية فى الشر والفساد ، يقال : مرد فلان على كذا - من باب نصر وظرف - إذا عتا وتجبر واستمر على ذلك .
وأصل المادة للملاسة والتجرد ، ومنه قولهم : شجرة مرداء أى ملساء لا ورق لها . وغلام أمرد . أى : لم ينبت فى ذقنه شعر . . .
أى : يجادل فى ذات الله وصفاته بغير علم يعلمه ، ويتبع فى جداله وتطاوله وعناده ، كل شيطان عاد عن الخير ، متجرد للفساد ، لا يعرف الحق أو الصلاح ، ولا هما يعرفانه ، وإنما هو خالص للشر والغى والمنكر من القول والفعل .
وتقييد الجدال بكونه بغير علم ، يفهم منه أن الجدال بعلم لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، سائغ محمود ، ولذا قال الإمام الفخر الرازى : " هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة ، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل ، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة " ، فالمجادلة الباطلة هى المرادة من قوله - تعالى - : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً . . . } والمجادلة الحقة هى المرادة من قوله : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ . . }
في ظل هذا الهول المروع يذكر أن هنالك من يتطاول فيجادل في الله ، ولا يستشعر تقواه :
( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ، ويتبع كل شيطان مريد ، كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ) . .
والجدال في الله ، سواء في وجوده تعالى ، أو في وحدانيته ، أو في قدرته ، أو في علمه ، أو في صفة ما من صفاته . . الجدال في شيء من هذا في ظل ذلك الهول الذي ينتظر الناس جميعا ، والذي لا نجاة منه إلا بتقوى الله وبرضاه . . ذلك الجدال يبدو عجيبا من ذي عقل وقلب ، لا يتقي شر ذلك الهول المزلزل المجتاح .
وياليته كان جدالا عن علم ومعرفة ويقين . ولكنه جدال ( بغير علم )جدال التطاول المجرد من الدليل . جدال الضلال الناشيء من اتباع الشيطان . فهذا الصنف من الناس يجادل في الله بالهوى : ( ويتبع كل شيطان مريد )عات مخالف للحق متبجح .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ } .
ذكر أن هذه الاَية : نزلت في النضر بن الحارث .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ في اللّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ قال : النضْر بن الحارث .
ويعني بقوله : مَنْ يُجادِلُ في اللّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ من يخاصم في الله ، فيزعم أن الله غير قادر على إحياء من قد بَلي وصار ترابا ، بغير علم يعلمه ، بل بجهل منه بما يقول . وَيَتّبِعُ في قيله ذلك وجداله في الله بغير علم كُلّ شَيْطانٍ مّرِيدٍ .
قوله تعالى { ومن الناس } الآية ، قال ابن جريح نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وقيل في أبي جهل بن هشام ثم هي بعد تتناول كل من اتصف بهذه الصفة ، و «المجادلة » :المحاجة ، والمادة مأخوذة من الجدل وهو الفتل والمعنى : [ يجادل ]{[8303]} في قدرة الله تعالى وصفاته{[8304]} ، وكان سبب الآية كلام من ذكر وغيرهم في أن الله تعالى لا يبعث الموتى ولايقيم الأجساد من القبور ، و «الشيطان » هنا هو مغويهم من الجن ويحتمل أن يكون الشيطان من الإنس والإنحاء على متبعيه و «المريد » المتجرد من الخير للشر ومنه الأمرد ، وشجرة مردى أي عارية من الورق ، وصرح ممرد أي مملس من زجاج ، وصخرة مرداء أي ملساء .
عطف على جملة { ياأيها الناس اتقوا ربكم } [ الحج : 1 ] ، أي الناس فريقان : فريق يمتثل الأمر فيتقي الله ويخشى عذابه ، وفريق يعرض عن ذلك ويعارضه بالجدل الباطِل في شأن الله تعالى من وحدانيته وصفاته ورسالته . وهذا الفريق هم أيمة الشرك وزعماء الكفر لأنهم الذين يتصدّون للمجادلة بما لهم من أغاليط وسفسطة وما لهم من فصاحة وتمويه .
والاقتصارُ على ذكرهم إيماء إلى أنهم لولا تضليلهم قومَهم وصدهم إياهم عن متابعة الدين لاتّبع عامة المشركين الإسلام لظهور حجته وقبولها في الفطرة .
وقيل : أريد ب { من يجادل في الله } النضر بن الحارث أو غيره كما سيأتي ، فتكون ( مَن ) الموصولة صادقة على متعدد عامة لكل مَن تصدق عليه الصلة .
والمجادلة : المخاصمة والمحاجّة . والظرفية مجازية ، أي يجادل جدلاً واقعاً في شأن الله . ووصف الجدل بأنه بغير علم ، أي جدلاً ملتبساً بمغايرة العلم ، وغير العلم هو الجهل ، أي جدلاً ناشئاً عن سوء نظر وسوء تفكير فلا يعلم ما تقتضيه الألوهية من الصفات كالوحدانية والعلم وفعل ما يشاء .
واتباع الشيطان : الانقياد إلى وسوسته التي يجدها في نفسه والتي تلقاها بمعتاده والعمل بذلك دون تردد ولا عَرض على نظر واستدلال .
وكلمة ( كل ) في قوله { كل شيطان } مستعملة في معنى الكثرة . كما سيأتي قريباً عند قوله تعالى : { وعلى كل ضامر } [ الحج : 27 ] في هذه السورة . وتقدم في تفسير قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } في [ سورة البقرة : 145 ] .
والمَرِيد : صفة مُشبهة مِن مَرُد بضم الراء على عمل ، إذا عتا فيه وبلغ الغاية التي تتجاوز ما يكون عليه أصحاب ذلك العمل ، وكأنه مُحول مِن مَرَد بفتح الراء بمعنى مَرَن إلى ضم الراء للدلالة على أن الوصف صار له سجية ، فالمريد صفة مشبهة ، أي العاتي في الشيطنة .