قوله تعالى : { يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله } . أي وبأن الله ، وقرأ الكسائي بكسر الألف على الاستئناف .
قوله تعالى : { لا يضيع أجر المؤمنين } .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تكفل الله لمن جاهد في سبيله ، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته ، أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة . وقال : " والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً ، اللون لون الدم والريح ريح المسك " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد ابن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا علي بن الحسن الدارابجردي ، أنا عبد الله بن يزيد المقري ، أنا سعيد ، حدثني محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة .
وقوله { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } استئناف مبين لما هم عليه من سرور يتعلق بذواتهم . بعد أن بين - سبحانه - سرورهم بحال الذين لم يلحقوا بهم .
والمعنى أن هؤلاء الشهداء يستبشرون بحال إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم . كما أنهم يستبشرون ايضاً لأنفسهم بسبب ما أنعم الله به عليهم من نعم جزيلة وبسبب ما تفضل به عليهم من زيادة الكرامة ، وسمو المنزلة .
وهذا يدل على أن هؤلاء الشهداء لا يهتمون بشأن أنفسهم فقط . وإنما يهتمون أيضا بأحوال إخوانهم الذين تركوهم فى الدنيا ، وفى ذلك ما فيه من صفاء نفوسهم ، وطهارة قلوبهم ، حيث أحبوا الخير لغيرهم كما أحبوه لأنفسهم ، بل إن تقديم استبشارهم بحال إخوانهم على استبشارهم بما يتعلق بأنفسهم ليشعر بأن اهتمامهم بحال إخوانهم أشد من اهتمامهم بحال أنفسهم .
ويرى بعضهم أن الضمير فى قوله { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ } يعود على الذين لم يلحقوا بهم فتكون جملة { يَسْتَبْشِرُونَ } حالا من الذين لم يلحقوا بهم . وعليه يكون المعنى : أن هؤلاء الذين لم يلحقوا بهم لا خوف عليهم ولا حزن ، فهم مستبشرون بنعمة من الله وفضل . . . " .
وقوله { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } معطوف { نِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } ، وهذا على قراءة الجمهور بفتح همزة أن على معنى وبأن .
وقرأ الكسائى " وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين " ، بكسر همزة إن على الاستئناف والمقصود من الآية الكريمة بيان أن كل مؤمن يخاف مقام ربه وينهى نفسه عن الهوى ، ويجاهد فى سبيل إعلاء كلمة الله فإن الله - تعالى - لا يضيع شيئا من أجره ، بل يعطيه من الجزاء الحسن - بفضله وإحسانه - أكثر مما يستحق .
وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم " عند ربهم " ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل ، ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين . وأنه لا يضيع أجر المؤمنين . .
فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء - الذين قتلوا في سبيل الله ؟ - وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ؛ وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس ، عن هذه الرحلة إلى جوار الله ، مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة !
إنها تعديل كامل لمفهوم الموت - متى كان في سبيل الله - وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم ، وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم . وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها ، بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة ، كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة . وحيث تستقر في مجال فسيح عريض ، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة ، ومن حياة إلى حياة !
ووفقا لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين ، سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة - في سبيل الله - وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات الحديث عن هذه الغزوة . فيرجع إليها هناك .
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }
يقول جل ثناؤه : { يَسْتَبْشِرُونَ } يفرحون ، { بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّهِ } يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه ، { وفَضْلٍ } يقول : وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجهاد أعدائه . { وأنّ الله لا يُضِيع أجْر المُؤْمِنِينَ } . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن أبي إسحاق : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّهِ وفَضْلٍ } . . . الاَية ، لما عاينوا من وفاء الموعود وعظيْم الثواب .
واختلف القراء في قراءة قوله : { وأنّ اللّه لا يُضِيعُ أجْر المُؤْمِنِينَ } ، فقرأ ذلك بعضهم بفتح الألف من «أنّ » بمعنى : يستبشرون بنعمة من الله وفضل ، وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . وبكسر الألف على الاستئناف¹ واحتج من قرأ ذلك كذلك بأنها في قراءة عبد الله : «وفَضْلٍ واللّهُ لا يُضِيعُ أجْر المُؤْمِنِينَ » قالوا : فذلك دليل على أن قوله : «وإِنّ الله » مستأنف غير متصل بالأول .
ومعنى قوله : { لا يُضِيعُ أجْر المُؤْمِنِينَ } : لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بما جاءه من عند الله .
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك : { وأنّ الله } بفتح الألف ، لإجماع الحجة من القراء على ذلك .
{ يستبشرون } كرره للتأكيد وليعلق به ما هو بيان لقوله : { ألا خوف عليهم } ويجوز أن يكون الأول بحال إخوانهم وهذا بحال أنفسهم . { بنعمة من الله } ثوابا لأعمالهم . { وفضل } زيادة عليه كقوله تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } وتنكيرهما للتعظيم . { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } من جملة المستبشر به عطف على فضل . وقرأ الكسائي بالكسر على أنه استئناف معترض دال على أن ذلك أجر لهم على إيمانهم مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة .
ثم أكد تعالى استبشارهم بقوله : { يستبشرون بنعمة } ثم بين تعالى بقوله : { وفضل } فوقع إدخاله إياهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد ، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال ، وقرأ الكسائي وجماعة من أهل العلم : » وإن الله «- بكسر الألف من » أن « ، وقرأ باقي السبعة وجمهور العلماء : » وأن الله «- بفتح الألف ، فمن قرأ بالفتح فذلك داخل فيما يستبشر به ، المعنى ، بنعمة وبأن الله ، ومن قرأ بالكسر فهو إخبار مستأنف ، وقرأ عبد الله < وفضل والله لا يضيع > .
ضمير { يستبشرون بنعمة من الله } يجوز أن يعود إلى الذين لم يلحقوا بهم فتكون الجملة حالاً من الذين لم يلحقوا بهم أي لا خوف عليهم ولا حزن فهم مستبشرون بنعمة من الله ، ويحتمل أن يكون تكريراً لقوله : { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا } والضمير ل { الذين قُتِلوا في سبيل الله } ، وفائدة التكرير تحقيق معنى البشارة كقوله : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] فكرّر أغويناهم ، ولأنّ هذا استبشار منه عائد لأنفسهم ، ومنه عائد لرفاقهم الذين استجابوا لله من بعد القرح ، والأولى عائدة لإخوانهم . والنعمة : هي ما يكون به صلاح ، والفضل : الزيادة في النعمة .
وقوله : { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } قرأه الجمهور بفتح همزة ( أنّ ) على أنه عطف على { نعمةٍ من الله وفضلٍ } ، والمقصود من ذلك تفخيم ما حصل لهم من الاستبشار وانشراح الأنفس بأنْ جمع الله لهم المسرّة الجثمانية الجزئية والمسرّة العقليّة الكلية ، فإنّ إدراك الحقائق الكلية لذّة روحانية عظيمة لشرف الحقائق الكلية وشرف العلم بها ، وحصول المسرّة للنفس من انكشافها لها وإدراكها ، أي استبشروا بأنّ عَلِموا حقيقة كليّة وسرّاً جليلاً من أسرار العِلم بصفات الله وكمالاته ، التي تعمّ آثارها ، أهل الكمال كلَّهم ، فتشمل الذين أدركوها وغيرهم ، ولولا هذا المعنى الجليل لم يكن داع إلى زيادة { وأن الله لا يضيع أجرالمؤمنين } إذ لم يحصل بزيادته زيادةُ نعمة وفضل للمستبشرين مِن جنس النعمة والفضل الأولين ، بل حصلت نعمة وفضل آخران .
وقرأه الكسائي بكسر همزة ( إنّ ) على أنه عطف على جملة { يستبشرون } في معنى التذييل فهو غير داخل فيما استبشر به الشهداء . ويجوز أن تكون الجملة على هذا الوجه ابتداء كلام ، فتكون الواو للاستئناف .