اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞يَسۡتَبۡشِرُونَ بِنِعۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٖ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (171)

لما بَيَّنَ - تعالى - أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ، بيَّن - هنا - أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رُزِقوا من النعيم ، ولذلك أعاد لفظَ لاستبشارِ .

فإن قيلَ : أليس الذي ذكر فَرَحَهم بأحوالِ أنفسهم - والفرحُ عينُ الاستبشارِ - فلزم التكرارُ ؟ فالجوابُ من وجهين :

أحدهما : أن الاستبشارَ هو الفرحُ التامُّ ، فلا يلزم التكرارُ .

الثاني : لَعَلَّ المرادَ حصولُ الفرحِ بما حصل في الحالِ ، وحصولُ الاستبشارِ بما عرفوا أنّ النعمةَ العظيمةَ تحصل لهم في الآخرةِ .

فإن قيلَ : ما الفرقُ بين النعمةِ والفَضْلِ ، فإنَّ العطفَ يقتضي المغايرةَ ؟

فالجواب : أن النعمةَ هي الثواب ، والفَضْل : هو التفضُّل الزائد .

وقيل : النعمة : المغفرة ، والفَضْل : الثواب الزائد .

وقيل : للتأكيد .

روى الترمذيّ عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لِلشَّهِيْدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خَصَالٍ : يُغْفَرُ لَهُ ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، ويُجارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَيأمَنُ الْفَزَعَ الأكْبَرَ ، وَيُوضَعٌُ عَلَى رَأسِهِ تَاجُ الْوقارِ ، الْيَاقُوَتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، ويُزَوَّج اثنتينِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقارِبِه " {[6189]} ، قال : هذا حديثٌ حَسَنٌ ، صحيحٌ ، غريبٌ ، وهذا تفسيرُ النعمةِ والفضلِ ، وهذا في الترمذيِّ وابن ماجه ستٌّ ، وهي في العدد سبعةٌ .

فصل

وهذه الآية تدلُّ على أنّ الإنسانَ يكون فَرحُهُ واستبشارُهُ - بصلاحِ حالِ إخوانِهِ - أتم من استبشاره بسَعَادةِ نَفْسِهِ ، لأنهُ - تعالى - مدَحَهم على ذلك بكونهم أوَّلَ ما استبشروا فرحوا بإخوانهم ، ثم ذكر - بعده - استبشارهم بأنفسهم ، فقال : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } .

قوله : { وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ } قرأ الكِسائيُّ بِكَسْرِ " أن " على الاستئنافِ{[6190]} .

وقال الزمخشري : إن قراءة الكسرِ اعتراضٌ .

واستشكلَ كونها اعتراضاً ؛ لأنها لم تقع بين شيئين متلازمين .

ويمكن أن يُجاب عنه بأن " الذين استجابوا " يجوز أن يكون تابعاً ل " الذين لم يلحقوا " - نعتاً ، أو بدلاً ، على ما سيأتي - فعلى هذا لا يتصور الاعتراض .

ويؤيدُ كونها للاستئناف قراءةُ عبد الله ومصحفُه : والله لا يضيع{[6191]} ، وقرأ باقي{[6192]} السبعةِ بالفتحِ ؛ عَطْفاً على قوله : " بنعمة " لأنها بتأويل مصدر ، أي : يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل منه وعدم إضاعةِ الله أجْرَ المؤمنين .

فإن قيل : لم قال : " يستبشرون " من غير عطف ؟

فالجوابُ فيه أوجهٌ :

أحدها : أنه استئنافٌ متعلِّقٌ بهم أنفسهم ، دون { الذين لم يلحقوا بهم } لاختلافِ متعلِّقٍ البشارتين .

الثاني : أنه تأكيدٌ للأولِ ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل بيانَ مُتَعَلِّقِ الاستبشارِ الأولِ ، وإليهِ ذَهَبَ الزمخشري .

الثالثُ : انه بدلٌ من الفعل الأول ، ومعنى كونه بدلاً : أنه لما كان متعلقه بياناً لمتعلق الأول حَسُن أن يقال : بدل منه ، وإلا فكيف يبدل فعلٌ من فعل موافقٍ له لفظاً ومعنًى ؟ وهذا في المعنى يئول إلى وجه التأكيد .

الرابعُ : أنه حال من فاعل " يحزنون " و " يحزنون " عاملٌ فيه ، أي : ولا هم يحزنون حال كونهم مستبشرين بنعمة . وهو بعيدٌ ، لوجهين :

أحدهما : أن الظاهر اختلافُ مَنْ نفي عنه الحُزْن ومن استبشرَ .

الثاني : أن نفي الحزن ليس مقيَّداً ليكون أبلغ في البشارة ، والحال قَيْدٌ فيه ، فيفوت هذا المعنى .

فصل

والمقصودُ - من هذا الكلام - أن إيصال الثواب العظيم إلى الشهداء ليس مخصوصاً بهم ، بل كل مؤمنٍ يستحق شيئاً من الأجر والثوابِ ، فإن الله تعالى يوصِّل ثوابه إليه ، ولا يُضيعه .


[6189]:أخرجه الترمذي (1663) وابن ماجه (2799) عن المقدام بن معديكرب. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وللحديث شاهد عن عبادة بن الصامت. أخرجه أحمد والطبراني كما في "مجمع الزوائد" (5/293) ورجاله ثقات وشاهد آخر عن ابن عمر. يرويه الطبراني في "المعجم الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (5/293) وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف.
[6190]:انظر: السبعة 219، والحجة 3/98، وحجة القراءات 181، وإعراب القراءات 1/122، والعنوان 81، وشرح الطيبة 4/178، وشرح شعلة 326، وإتحاف 1/494.
[6191]:انظر: المحرر الوجيز 1/541، والبحر المحيط 3/121، والدر المصون 2/259.
[6192]:ينظر السابق.