قوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } ، مفاتح الغيب خزائنه ، جمع مفتح . واختلفوا في مفاتح الغيب .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله تعالى ، ولا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله ) .
وقال الضحاك ومقاتل : مفاتح الغيب خزائن الأرض ، وعلم نزول العذاب . وقال عطاء : ما غاب عنكم من الثواب والعقاب ، وقيل : انقضاء الآجال ، وقيل : أحوال العباد من السعادة ، والشقاوة ، وخواتيم أعمالهم ، وقيل : هي ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون ، وما يكون كيف يكون ، ومالا يكون أن لو كان كيف يكون ؟ وقال ابن مسعود : أوتي نبيكم علم كل شيء إلا علم مفاتيح الغيب .
قوله تعالى : { ويعلم ما في البر والبحر } ، قال مجاهد : البر : المفاوز والقفار ، والبحر : القرى والأمصار ، لا يحدث فيهما بشيء إلا يعلمه ، وقيل : هو البر والبحر المعروف . قوله تعالى : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } ، يريد ساقطة وثابتة ، يعني : يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه ، وقيل : يعلم كم انقلبت ظهراً لبطن إلى أن سقطت على الأرض .
قوله تعالى : { ولا حبة في ظلمات الأرض } ، قيل : هو الحب المعروف في بطون الأرض ، وقيل : هو تحت الصخرة في أسفل الأرضين .
قوله تعالى : { ولا رطب ولا يابس } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الرطب الماء ، واليابس البادية ، وقال عطاء : يريد ما ينبت وما لا ينبت ، وقيل : ولا حي ولا موات ، وقيل : هو عبارة عن كل شيء .
قوله تعالى : { إلا في كتاب مبين } ، يعني أن الكل مكتوب في اللوح المحفوظ .
ثم يمضى السياق القرآنى مع المكذبين المتعجلين للعذاب ، فيسوق لهم صورة لعلم الله الشامل الذى لا يند عنه شىء { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } .
قال القرطبى : { مَفَاتِحُ } جمع مفتح ، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح ، وهى قراءة ابن السميقع ، والمفتح عبارة عن كل ما يخل غلقاً محسوساً كان كالقفل على البيت ، أو معقولا كالنظر ، وروى ابن ماجه فى سننه وأبى حاتم البستى فى صحيحه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه " ، وهو فى الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل فى الشاهد بالمفتح إلى الغيب عن الإنسان . ولذلك قال بعضهم هو مأخوذ من قول الناس افتح على كذا ، أى : أعطنى أو علمنى ما أتوصل إليه به فالله - تعالى - عنده علم الغيب ، وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو ، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه .
والغيب : ما غاب عن علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى معرفته ، وهو يشمل الأعيان المغيبة كالملائكة والجن ، ويشمل الأعراض الخفية ومواقيت الأشياء وغير ذلك . وقدم الظرف لإفادة الاختصاص ، أى : عنده لا عند غيره مفاتيح الغيب ، وجملة " لا يعلمها إلا هو " فى موضع الحال من مفاتح ، وهى مؤكدة لمضمون ما قبلها .
ومعنى { لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } أى : لا يعلم الغيوب علماً تاماً مستقلا إلا هو - سبحانه - فأما ما أطلع عليه بعض أصفيائه من الغيوب فهو إخبار منه لهم ، فكان فى الأصل راجعاً إلى علمه هو . قال - تعالى - { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } ثم بين - سبحانه - أن علمه ليس مقصوراً على المغيبات ، وإنما هو يشملها كما يشمل المشاهدات فقال : { وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر } .
قال الراغب : أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير ، وقيل إن أصله الماء الملح دون العذب وأطلق على النهر بالتوسع أو التغليب ، والبر ما يقابله من الأرض وهو ما يسمى باليابسة .
وهذه الجملة معطوفة على جملة ، وعنده مفتاح الغيب ، لغفادة تعميم علمه - سبحانه - بالأشياء الظاهرة المتفاوتة فى الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر الناس .
وقدم ذكر البر على البحر على طريقة الترقى من الأقل إلى الأعظم ، لأن قسم البحر من الأرض أكبر من قسم البر ، وخفاياه أكثر وأعظم ، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر .
ثم صرح - سبحانه - بشمول علمه لكل كلى وجزئى ، ولكل صغير وكبير ، ولكل دقيق وجليل ، فقال - تعالى - { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .
أى : وما تسقط ورقة ما من شجرة من الأشجار ولا حبة فى باطن الأرض وأجوافها ، ولا رطب ولا يابس من الثمار أو غيرها إلا ويعلمه الله علما تاما شاملا ، لأن كل ذلك مكتوب ومحفوظ فى العلم الإلهى الثابت .
وجملة { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } معطوفة على جملة ، ويعلم ما فى البر والبحر ، لقصد زيادة التعميم فى الجزئيات الدقيقة .
والمراد بظلمات الأرض بطونها ، وكنَّى بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك ما فيه كما لا يدرك ما فى الظلمة .
وقوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } تأكيد لقوله " لا يعلمها " لأن المراد بالكتاب المبين علم الله - تعالى - الذى وسع كل شىء ، أو اللوح المحفوظ الذى هو محل معلوماته - عز وجل - .
قال الإمام الرازى : قال الزجاج : يجوز أن الله - تعالى - : أثبت كيفية المعلومات فى كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال - تعالى - : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } ثم قال الإمام الرازى : وفائدة هذا الكتاب أمور :
أحدها : أنه - تعالى - : إنما كتب هذه الأحوال فى اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علمه فى المعلومات ، وأنه لا يغيب عنه مما فى السموات والأرض شىء ، فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث فى صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقاً له .
وثانيها : أنه يجوز أن يقال : أنه - تعالى - : ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيها للمكلفين على أمر الحساب ، وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون فى الدنيا شىء ، لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التى ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى .
وثالثها : أنه - تعالى - : علم أحوال جميع الموجودات ، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل ، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات فى ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع - أيضاً - تغييرها ، وإلا لزم الكذب ، فتصير كتابة جملة الأحوال فى ذلك الكتاب موجبا تاما ، وسببا كاملا فى أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال صلى الله عليه وسلم " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " .
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أمور من أهمها :
أن علم الله - تعالى - : محيط بالكليات والجزئيات ، وبكل شىء فى هذا الكون ، وبذلك يتبين بطلان رأى بعض الفلاسفة الذين قالوا بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات .
أن علم الغيب مرده إلى الله وحده ، قال الحاكم : دل قوله تعالى { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } على بطلان قول الإمامية : إن الإمام يعلم شيئاً من الغيب " .
وقال القاسمى : قال صاحب " فتح البيان " : فى هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين وغيرهم من مدعى الكشف والإلهام ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم .
ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم سوى خطة السوء المذكورة فى قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم " من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد " قال ابن مسعود " أوتى نبيكم كل شىء إلا مفاتيح الغيب " .
وروى البخارى بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعملها إلا الله . لا يعلم أحد ما يكون فى غد إلا الله ، ولا يعلم أحد ما يكون فى الأرحام إلا الله . ولا تعمل نفس ماذا تكسب غداً ، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت ، ولا يدرى أحد متى يجىء المطر " .
وقال القرطبى : قال علماؤنا : أضاف - سبحانه علم الغيب إلى نفسه فى غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده ، فمن قال : إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر ، وكذلك من قال : إنه يعلم ما فى الرحم فهو كافر . وفى صحيح مسلم عن عائشة قالت : من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون فى غد فقد أعظم على الله الفرية ؛ والله تعالى يقول : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } ثم قال : وقد انقلبت الأحوال فى هذه الأزمان بإتيان المنجمين والكهان لا سيما بالديار المصرية فقد شاع فى رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين ، بل ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقر والدين فلجأوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال ، واستخرجوا منهم الأموال ، فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل ، ومن أديانهم على الفساد والضلال ، وكل ذلك من الكبائر لحديث النبى صلى الله عليه وسلم " من أتى عرافا فسأله عن شىء لم تقبل له صلاة أربعين يوما " والعراف هو الحازر والمنجم الذى يدعى علم الغيب .
وبمناسبة علم الله - سبحانه - بالظالمين ؛ واستطرادا في بيان حقيقة الألوهية ؛ يجلي هذه الحقيقة في مجال ضخم عميق من مجالاتها الفريدة . . مجال الغيب المكنون ، وعلم الله المحيط بهذا الغيب إحاطته بكل شيء ، ويرسم صورة فريدة لهذا العلم ؛ ويرسل سهاما بعيدة المدى تشير إلى آماده وآفاقه من بعيد : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس ، إلا في كتاب مبين ) . .
إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط ؛ الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان ، في الأرض ولا في السماء ، في البر ولا في البحر ، في جوف الأرض ولا في طباق الجو ، من حي وميت ويابس ورطب . . .
ولكن أين هذا الذي نقوله نحن - بأسلوبنا البشري المعهود - من ذلك النسق القرآني العجيب ؟ وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد ، من ذلك التصوير العميق الموحي ؟
إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول ، وعالم الغيب وعالم الشهود ، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح ، ووراء حدود هذا الكون المشهود . . وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد . وهو يرتاد - أو يحاول أن يرتاد - أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل ؛ البعيدة الآماد والآفاق والأغوار . . مفاتحها كلها عند الله ؛ لا يعلمها إلا هو . . ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر ، المكشوفة كلها لعلم الله . ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض ، لا يحصيها عد ، وعين الله على كل ورقة تسقط ، هنا وهنا وهناك . ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله . ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض ، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط . .
إنها جولة تدير الرؤوس ، وتذهل العقول . جولة في آماد من الزمان ، وآفاق من المكان ، وأغوار من المنظور والمحجوب ، والمعلوم والمجهول . . جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف ، يعيا بتصور آمادها الخيال . . وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات . .
وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز ، الناطق بمصدر هذا القرآن .
ننظر إليها من ناحية موضوعها ، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر ؛ فليس عليه طابع البشر . . إن الفكر البشري - حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع : موضوع شمول العلم وإحاطته - لا يرتاد هذه الآفاق . . إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود . إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته . . فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر ، في كل أنحاء الأرض ؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء . لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض . ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل ! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ؛ ويعبر عنه الخالق !
وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض ؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبأونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته . . فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض ؛ فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به ، ولا أن يلحظوا وجوده ، ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل ! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق !
وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق : ( ولا رطب ولا يابس ) . . إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم . . فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل . فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك ! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق !
ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة ، وكل حبة مخبوءة ، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين . وفي سجل محفوظ . . فما شأنهم بهذا ، وما فائدته لهم ؟ وما احتفالهم بتسجيله ؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك ، الذي لا يند عنه شيء في ملكه . . الصغير كالكبير ؛ والحقير كالجليل ؛ والمخبوء كالظاهر ؛ والمجهول كالمعلوم ؛ والبعيد كالقريب . .
إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع . . مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعا ، والحب المخبوءفي أطواء الأرض جميعا ، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعا . . إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري ؛ وكذلك لا تلحظه العين البشرية ؛ ولا تلم به النظرة البشرية . . إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده ؛ المشرف على كل شيء ، المحيط بكل شيء . . الحافظ لكل شيء ، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء . . الصغير كالكبير ، والحقير كالجليل ، والمخبوء كالظاهر ، والمجهول كالمعلوم ، والبعيد كالقريب . .
والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيدا حدود التصور البشري ، وحدود التعبير البشري أيضا . ويعلمون - من تجربتهم البشرية - أن مثل هذا المشهد ، لا يخطر على القلب البشري ؛ كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضا . . والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله ، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلا !
وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم . .
كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته ، فنرى آفاقا من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر ، على هذا المستوى السامق :
( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . . آماد وآفاق وأغوار في " المجهول " المطلق . في الزمان والمكان ، وفي الماضي والحاضر والمستقبل ، وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان . .
( ويعلم ما في البر والبحر ) . . آماد وآفاق وآغوار في " المنظور " ، على استواء وسعة وشمول . . تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب .
( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) . . حركة الموت والفناء ؛ وحركة السقوط والانحدار ، من علو إلى سفل ، ومن حياة إلى اندثار .
( ولا حبة في ظلمات الأرض ) . . حركة البزوغ والنماء ، المنبثقة من الغور إلى السطح ، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق .
( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) . . التعميم الشامل ، الذي يشمل الحياة والموت ، والأزدهار والذبول ؛ في كل حي على الإطلاق . .
فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق ؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال ؟ . . من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله ، في مثل هذا النص القصير . . من ؟ إلا الله !
( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . .
نقف لنقول كلمة عن ( الغيب ) و( مفاتحه ) واختصاص الله - سبحانه - " بالعلم " بها . . ذلك أن حقيقة الغيب من " مقومات التصور الإسلامي " الأساسية ؛ لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية ؛ ومن قواعد " الإيمان " الرئيسية . . وذلك أن كلمات( الغيب )و " الغيبية " تلاك في هذه الأيام كثيرا - بعد ظهور المذهب المادي - وتوضع في مقابل " العلم " و " العلمية " . . والقرآن الكريم يقرر أن هناك " غيبا لا يعلم مفاتحه " إلا الله . ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل . . وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو - سبحانه -من طاقته ومن حاجته . وأن الناس لا يعلمون - فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه - إلا ظنا ، وأن الظن لا يغني من الحق شيئا . . كما يقرر - سبحانه - أن الله قد خلق هذا الكون ، وجعل له سننا لا تتبدل ؛ وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها ؛ ويتعامل معها - في حدود طاقته وحاجته - وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينا وتأكدا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق . . دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها ، بحقيقة " الغيب " المجهول للإنسان ، والذي سيظل كذلك مجهولا ، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من الله ، ينشى ء هذا الحدث ويبرزه للوجود . . في تناسق تام في العقيدة الإسلامية ، وفي تصور المسلم الناشى ء من حقائق العقيدة . .
فهذه الحقائق بجملتها - على هذا النحو المتعدد الجوانب المتناسق المتكامل - تحتاج منا هنا - في الظلال - إلى كلمة نحاول بقدر الإمكان أن تكون مجملة ، وألا تخرج عن حدود المنهج الذي اتبعناه في الظلال أيضا .
إن الله سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب ؛ فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية :
( الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين : الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون ) . . [ البقرة : 5 - 1 ] .
والإيمان بالله - سبحانه - هو إيمان بالغيب . فذات الله - سبحانه - غيب بالقياس إلى البشر ؛ فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب ، يجدون آثار فعله ، ولا يدركون ذاته ، ولا كيفيات أفعاله .
والإيمان بالآخرة كذلك ، هو إيمان بالغيب . فالساعة بالقياس إلى البشر غيب ، وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن ، تصديقا لخبر الله سبحانه .
والغيب الذي يتحقق الإيمان بالتصديق به يشمل حقائق أخرى يذكرها القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وعقيدتهم الشاملة :
( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . وقالوا : سمعنا وأطعنا . غفرانك ربنا ، وإليك المصير ) . [ البقرة : 285 ] .
فنجد في هذا النص أن رسول الله [ ص ] والمؤمنين كذلك ، كل آمن بالله - وهو غيب - وآمن بما أنزل الله على رسوله - وما أنزل الله على رسوله فيه جانب من إطلاعه [ ص ] على جانب من الغيب بالقدر الذي قدره الله - سبحانه - كما قال في الآية الأخرى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول ) . . [ الجن : 27 - 26 ] .
وآمن بالملائكة - وهي غيب - لا يعرف عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله ، على قدر طاقتهم وحاجتهم .
ويبقى من الغيب الذي لا يقوم الإيمان إلا بالتصديق به : قدر الله - وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع - كما جاء في حديث الإيمان : " . . . والقدر خيره وشره " . . . [ اخرجه الشيخان ] "
على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب . . غيب في الماضي وغيب في الحاضر ، وغيبفي المستقبل . . غيب في نفسه وفي كيانه ، وغيب في الكون كله من حوله . . غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره ، وغيب في طبيعته وحركته . . غيب في نشأة الحياة وخط سيرها ، وغيب في طبيعتها وحركتها . . غيب فيما يجهله الإنسان ، وغيب فيما يعرفه كذلك !
ويسبح الإنسان في بحر من المجهول . . حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانة هو ذاته فضلا على ما يجري حوله في كيان الكون كله ؛ وفضلا عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله : ولكل ذره ، وكل كهرب من ذرة ؛ وكل خلية وكل جزئي من خلية !
إنه الغيب . . إنه المجهول . . والعقل البشري - تلك الذبالة القريبة المدى - إنما يسبح في بحر المجهول . فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم . ولولا عون الله له ، وتسخير هذا الكون ، وتعليمه هو بعض نواميسه ، ما استطاع شيئا . . ولكنه لا يشكر . . ( وقليل من عبادي الشكور ) . . بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف الله له من السنن ، وبما آتاه من العلم القليل . . يتبجح فيزعم أحيانا أن " الإنسان يقوم وحده " ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه ! ويتبجح أحيانا فيزعم أن " العلم " يقابل " الغيب " وأن " العلمية " في التفكير والتنظيم تقابل " الغيبية " وأنه لا لقاء بين العلم والغيب ؛ كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية !
فلنلق نظرة على وقفة " العلم " أمام " الغيب " . . في بحوث وأقوال " العلماء " من بني البشر أنفسهم - بعد أن نقف أمام كلمة الفصل التي قالها العليم الخبير عن علم الإنسان القليل - ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا ) . . . [ الإسراء : 85 ] ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) . . [ النجم : 29 ] وأن الغيب كله لله : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) [ الأنعام : 59 ] وأن الذي يعلم الغيب هو الذي يرى : ( أعنده علم الغيب فهو يرى ؟ ) . . [ النجم : 35 ] . . . وهي ناطقة بذاتها عن مدلولاتها . .
فلنلق نظرة على وقفة " العلم " أمام " الغيب " في بحوث وأقوال العلماء من بني الإنسان لا لنصدق بها كلمة الفصل من الله سبحانه - فحاشا للمؤمن أن يصدق قول الله بقول البشر - ولكننا نقف هذه الوقفة لنحاكم الذين يلوكون كلمات العلم والغيب ، والعلمية والغيبية ، إلى ما يؤمنون هم به من قول البشر ! ليعلموا أن عليهم هم أن يحاولوا " الثقافة " و " المعرفة " ليعيشوا في زمانهم ؛ ولا يكونوا متخلفين عن عقليته ومقررات تجاربه !
وليستيقنوا أن " الغيب " هو الحقيقة " العلمية " الوحيدة المستيقنة من وراء كل التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته ! وأن " العلمية " في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماما " للغيبية " . . أما الذي يقابل الغيبية حقا فهو " الجهلية " ! ! ! الجهلية التي تعيش في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر - ربما - ولكنها لا تعيش في القرن العشرين ! ! !
عالم معاصر - من أمريكا - يقول عن " الحقائق " التي يصل إليها " العلم " بجملتها :
" إن العلوم حقائق مختبرة ؛ ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته . ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود . فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ . وهي تبدأ بالاحتمالات ، وتنتهي بالاحتمالات كذلك . . وليس باليقين . . ونتائج العلوم بذلك تقريبية ، وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات ؛ ونتائجها اجتهادية ، وقابلة للتعديل بالإضافةوالحذف ، وليست نهائية . وإننا لنرى أن العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول : إن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن ، ويترك الباب مفتوحا لما قد يستجد من التعديلات " .
وهذه الكلمة تلخص حقيقة جميع النتائج التي وصل إليها العلم ، والتي يمكن أن يصل إليها كذلك . فطالما أن " الإنسان " بوسائله المحدودة ، بل بوجوده المحدود بالقياس إلى الأزل والأبد هو الذي يحاول الوصول إلى هذه النتائج ؛ فإنه من الحتم أن تكون مطبوعة بطابع هذا الإنسان ، ولها مثل خصائصه من كونها محدودة المدى ؛ وقابلة للخطأ والصواب ، والتعديل والتبديل . .
على أن الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى أية نتيجة هي التجربة والقياس . فهو يجرب ، ثم يعمم النتيجة التي يصل إليها عن طريق القياس ؛ والقياس - باعتراف العلم وأهله - وسيلة تؤدي إلى نتيجة ظنية ؛ ولا يمكن أبدا أن تكون قطعية ولا نهائية . والوسيلة الأخرى - وهي التجربة والاستقصاء بمعنى تعميم التجربة على كل ما هو من جنس ما وقعت عليه التجارب في جميع الأزمنة وفي جميع الظروف - وسيلة غير مهيأة للإنسان . وهي إحدى الوسائل الموصلة إلى نتائج قطعية . ولا سبيل إلى نتيجة قطعية وحقيقة يقينية إلا عن طريق هدى الله الذي يبينه للناس . ومن ثم يبقى علم الإنسان فيما وراء ما قرره الله له ، علما ظنيا لا يصل إلى مرتبة اليقين بحال !
على أن " الغيب " ضارب حول الإنسان فيما وراء ما يصل إليه علمه الظني ذاك . . .
هذا الكون من حوله . . إنه ما يزال يضرب في الفروض والنظريات حول مصدره ونشأته وطبيعته وحول حركته ، وحول " الزمان " ما هو وحول " المكان " وارتباطه بالزمان وارتباط ما يجري في الكون بالزمان والمكان .
والحياة . ومصدرها . ونشأتها . وطبيعتها . وخط سيرها . والمؤثرات فيها . وارتباطها بهذا الوجود " المادي " ! إن كان هناك في الكون مادة على الإطلاق ذات طبيعة غير طبيعة " الفكر " وغير طبيعة الطاقة على العموم !
" والإنسان " ما هو ؟ ما الذي يميزه من المادة ؟ وما الذي يميزه عن بقية الأحياء ؟ وكيف جاء إلى هذه الأرض وكيف يتصرف ؟ وما " العقل " الذي يتميز به ويتصرف ؟ وما مصيره بعد الموت والإنحلال ؟ . .
بل هذا الكيان الإنساني ذاته ، ما الذي يجري في داخله من تحليل وتركيب في كل لحظة ؟ وكيف يجري ؟ . .
إنها كلها ميادين للغيب ، يقف العلم على حافاتها ، ولا يكاد يقتحهما ، حتى على سبيل الظن والترجيح . وإن هي إلا فروض واحتمالات !
ولندع ما لا يشغل العلم به نفسه - إلا قليلا في هذا القرن - من حقيقة الألوهية ، وحقيقة العوالم الأخرى من ملائكة وجن وخلق لا يعلمه إلا الله . ومن حقيقة الموت ، وحقيقة الآخرة . وحقيقة الحساب والجزاء . . لندع هذا كله لحظة ففي " الغيب " القريب ، الكفاية ، ومن هذا الغيب يقف العلم وقفة التسليم ، الذي لا يخرج عنه إلا من يؤثرون المراء على " العلم " والتبجح على الإخلاص !
1 - في قاعدة بناء الكون وسلوكه :
الذرة - فيما يقول العلم الحديث - قاعدة بناء الكون . وليست هي أصغر وحدة في بناء هذا العالم . فهي مؤلفة من بروتونات [ طاقة كهربية موجبة ] والكترونات [ طاقة كهربية سالبة ] ونيوترونات [ طاقة محايدة مكونه من طاقة كهربائية موجبة وطاقة كهربائية سالبة متعادلتين ساكنتين ] وحين تحطم الذرة تتحرر الكهارب [ الإلكترونات ] ولكنها لا تسلك في المعمل سلوكا حتميا موحدا . فهي تسلك مرة كأنها أمواج ضوئية ومرة كأنها قذائف . ولا يمكن تحديد سلوكها المقبل مقدما . وإنما هي تخضع لقانون آخر - غير الحتمية - هو قانون الاحتمالات . وكذلك تسلك الذرة نفسها ، والمجموعة المحدودة من الذرات [ في صورة جزيئات ] هذا السلوك . يقول سير جيمس جيننر - الإنجليزي - الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات :
" لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق ، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقا واحدا : وهو الطريق الذي رسم من قبل ، لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته ، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول ، وألا مناص من أن الحالة [ أ ] تتبعها الحالة [ ب ] أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن هو : أن الحالة [ أ ] يحتمل أن تتبعها [ ب ] أو [ ج ] أو [ د ] أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر . نعم إن في استطاعته أن يقول : إن حدوث الحالة [ ب ] أكثر أحتمالا من حدوث الحالة [ ج ] وإن الحالة [ ج ] أكثر احتمالا من الحالة [ د ] . . وهكذا بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات [ ب ] و [ ج ] و [ د ] بعضها بالنسبة إلى بعض . ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين : أي الحالات تتبع الأخرى . لأنه يتحدث دائما عما يحتمل . أما ما يجب أن يحدث فأمره موكول إلى الأقدار - مهما تكن حقيقة هذه الأقدار ! " .
فمإذا يكون " الغيب " وماذا يكون قدر الله المغيب عن علم الإنسان ، إن لم يكن هو هذا الذي تنتهي إليه تجارب العلم الإنساني ، وتقف على عتباته في صلب الكون وذراته ؟
ويضرب مثلا لذلك إشعاع ذرات الراديوم ، وتحولها إلى رصاص وهليوم . . وهي خاضعة تماما لقدر مجهول ، وغيب مستور ، يقف دونه علم الإنسان :
" ولنضرب لذلك مثلا ماديا يريده وضوحا : من المعروف أن ذرات الراديوم وغيره من المواد ذات النشاط الإشعاعي ، تتفكك بمجرد مرور الزمن عليها ، وتخلف وراءها ذرات من الرصاص والهليوم . ولهذا فإن كتلة من الراديوم ينقص حجمها باستمرار ، ويحل مكانها رصاص وهليوم . والقانون العام الذي يتحكم في معدل التناقص غريب غاية الغرابة . ذلك أن كمية من الراديوم تنقص بنفس الطريقة التي ينقص بها عدد من السكان ، إذا لم تجد عليهم مواليد ، وكانت نسبة تعرض كل منهم للوفاة واحدة بغض النظر عن السن ؛ أو أنها تنقص كما ينقص عدد أفراد كتيبة من الجند معرضين لنيران ترسل عليهم اعتباطا ، ومن غير أن يكون أحدهم مقصودا لذاته . ومجمل القول إنه ليس لكبر السن أثر ما في ذرة الراديوم الواحدة . فإنها لا تموت لأنها قد استوفت حظها من الحياة ، بل لأن المنية قد أصابتها خبط عشواء .
" ولنوضح هذه الحقيقة بمثل مادي فنقول : إذا فرض أن بحجرتنا ألفين من ذرات الراديوم . فإن العلم لا يستطيع أن يقول : كم منها يبقى حيا بعد عام . بل كل ما يستطيعه هو أن يذكر فقط الاحتمالات التي ترجح بقاء 2000 أو 1999 أو 1998 ، وهكذا . وأكثر الأمور احتمالا في الواقع هو أن يكون العدد 1999 ، أي أن أرجح الاحتمالات هو أن ذرة واحدة لا أكثر من الألفي ذرة ، هي التي تتحلل في العام التالي .
" ولسنا ندري بأية طريقة تختار تلك الذرة المعينة من بين هذه الألفي ذرة . وقد نشعر في بادى ء الأمر بميل إلى افتراض أن هذه الذرة ستكون هي التي تتعرض للاصطدام أكثر من غيرها ، أو التي تقع في أشد الأمكنة حرارة ، أو التي يصادفها غير هذا أو ذاك من الأسباب في العام التالي . ولكن هذا كله غير صحيح ، لأنه إذا كان في استطاعة الصدمات أو الحرارة أن تفكك ذرة واحدة ، فإن في استطاعتها أيضا أن تفكك ال 1999 ذرة الباقية ، ويكون في استطاعتنا أن نعجل بتفكيك الراديوم بمجرد ضغطه أو تسخينه ؛ ولكن كل عالم من علماء الطبيعة يقرر أن ذلك مستحيل ؛ بل هو يعتقد على الأرجح أن الموت يصيب في كل عام ذرة واحدة من كل 2000 من ذرات الراديوم ، ويضطرها إلى أن تتفكك . وهذه هي نظرية " التفكك التلقائي " التي وضعها " رذرفورد " و " سدي " في عام 1903
فكيف إذن يكون القدر الغيبي إن لم يكن هو هذا الذي تتشعع به الذرات على غير اختيار منها ولا من أحد . وعلى غير علم منها ولا من أحد ؟ !
إن الرجل الذي يقول هذا الكلام ، لا يريد أن يثبت به القدر الإلهي المغيب عن الناس . بل إنه ليحاول جاهدا أن يهرب من ضغط النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري ذاته . ولكن حقيقة الغيب تفرض نفسها عليه فرضا على النحو الذي نراه !
2- وكما تفرض حقيقة " الغيب " نفسها على قاعدة بناء الكون وحركته ، فهي كذلك تفرض نفسها على قاعدة انبثاق الحياة وحركتها بنفس القوة في النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري .
يقول عالم الأحياء والنبات " رسل تشارلز إرنست " الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا :
" لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ؛ فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس ، أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة . وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية ، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة ، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذين خلق الأشياء ودبرها .
" إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإننيأؤمن بوجود الله إيمانا راسخًا " .
والذي يهمنا هنا من هذه الشهادة هو أن سر الحياة ونشأتها غيب من غيب الله ، كنشأة الكون وحركته ؛ وأن ليس لدى البشر عن ذلك إلا الاحتمالات . وصدق الله العظيم : ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) . . .
3- ونخطو خطوة واسعة لنصل إلى الإنسان . . إن الدفقة الواحدة من ماء الرجل تحتوي على نحو ستين مليونا من الحيوانات المنوية . . كلها تدخل في سباق لتلحق بالبويضة في رحم المرآة . . ولا يعلم أحد من الذي يسبق ! فهو غيب ، أو هو قدر غيبي لا علم للبشر به - بما فيهم الرجل والمرأة صاحبا الدور في هذا الأمر ! - ثم يصل السابق من بين ستين مليونا ! ويلتحم مع البويضة ليكونا معا خلية واحدة ملقحة هي التي ينتج منها الجنين . ولما كانت كل كروموسومات البويضة مؤنثة ، بينما كروموسومات الحيوان المنوي بعضها مذكر وبعضها مؤنث ؛ فإن غلبة عدد كروموسومات التذكير أو كروموسومات التأنيث في الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة ، هو الذي يقرر مصير الجنين - ذكرا أو أنثى - وهذا خاضع لقدر الله الغيبي لا علم به ولا دخل للبشر - بما فيهم أبوا الجنين أنفسهما : ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد . وكل شيء عنده بمقدار . عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ) . . [ الرعد : 9 - 8 ]( لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور . أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ، إنه عليم قدير ) . . [ الشورى : 50 - 49 ] ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك ، لا إله إلا هو فأني تصرفون ؟ ) . . . [ الزمر : 6 ] .
هذا هو " الغيب " الذي يقف أمامه " العلم " البشري ؛ ويواجهه في القرن العشرين . . بينما الذين يعيشون على فتات القرون الماضية يزعمون أن " الغيبية " تنافي " العلمية " . وأن المجتمع الذي يريد أن يعيش بعقلية علمية ينبغي له أن يتخلص من العقلية الغيبية ! ذلك بينما العلم البشري ذاته . . علم القرن العشرين . . يقول : إن كل ما يصل إليه من النتائج هو " الاحتمالات " ! وإن الحقيقة المستيقنة الوحيدة هي أن هنالك " غيبًا " لا شك فيه !
على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب ، ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة " الغيب " في العقيدة الإسلامية ، وفي التصور الإسلامي ، وفي العقلية الإسلامية .
إن القرآن الكريم - وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشى ء التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية - يقرر أن هناك عالما للغيب وعالما للشهادة . فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبا ، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولا . .
إن هنالك سننا ثابته لهذا الكون ؛ يملك " الإنسان " أن يعرف منها القدر اللازم له ، حسب طاقته وحسب حاجته ، للقيام بالخلافة في هذه الأرض . وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية ؛ وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة ، وتعمير الأرض ، وترقية الحياة ، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها . .
وإلى جانب هذه السنن الثابته - في عمومها - مشيئة الله الطليقة ؛ لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها . وهناك قدر الله الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها . فهي ليست آلية بحتة ، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها ؛ وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها . وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها " غيب " لا يعلمه أحد علم يقين ؛ وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و " الاحتمالات " . . وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضًا . .
وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة ؛ وكلها " غيب " بالقياس إليه ، وهي تجري في كيانه ! ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله ؛ وهو لا يعلمها !
وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون . وحاضره وحاضر الكون . ومستقبله ومستقبل الكون . . وذلك مع وجود السنن الثابتة ، التي يعرف بعضها ، وينتفع بها انتفاعا علميا منظما في النهوض بعبء الخلافة .
وإن " الإنسان " ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه ! وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله ! . . وكذلك كل شيء حي . . ومهما تعلم ومهما عرف ، فإن هذا لن يغير من هذا الواقع شيئا !
إن العقلية الإسلامية عقلية " غيبية علمية " لأن " الغيبية " هي " العلمية " بشهادة " العلم " والواقع . . أما التنكر للغيب فهو " الجهلية " التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة !
وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله ؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل ، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض ، والتعامل معها على قواعد ثابته . . فلا يفوت المسلم " العلم " البشري في مجاله ، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعية ؛ وهي أن هنالك غيبا لا يطلع الله عليه أحدا ، إلا من شاء ، بالقدر الذي يشاء . .
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها " الفرد " فيتجاوز مرتبة " الحيوان " الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة " الإنسان " الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ، ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ؛ وفي إحساسه بالكون ، وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الآثر في حياته على الأرض . فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ؛ ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ؛ وأن وراء الكون . . ظاهرة وخافية . . حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ، ولا تحيط بها العقول . .
. . . " لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان - كجماعة الماديين في كل زمان - يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى . . إلى عالم البهيمة ، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا " تقدمية " ! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها . فجعل صفتهم المميزة هي صفة : ( الذين يؤمنون بالغيب ) . . . والحمد لله على نعمائه ؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين " .
والذين يتحدثون عن " الغيبية " و " العلمية " يتحدثون كذلك عن " الحتمية التاريخية " كأن كل المستقبل مستيقن ! و " العلم " في هذا الزمان يقول : إن هناك " احتمالات " وليست هنالك " حتميات " !
ولقد كان ماركس من المتنبئين " بالحتميات " ! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم ؟
لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلترا ، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر . . فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفا صناعيا . . في روسيا والصين وما إليها . . ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية !
ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي . وها هو ذا خليفتهما " خروشوف " يحمل راية " التعايش السلمي " !
ولا نمضي طويلا مع هذه " الحتميات " التنبؤية ! فهي لا تستحق جدية المناقشة !
إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي حقيقة الغيب ، وكل ما عداها احتمالات . وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره . وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو . وإن هنالك - مع هذا وذلك - سننا للكون ثابته ، يملك الإنسان أن يتعرف إليها ، ويستعين بها في خلافة الأرض ، مع ترك الباب مفتوحا لقدر الله النافذ ؛ وغيب الله المجهول . . وهذا قوام الأمر كله . . ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } . .
يقول : وَعِنْدَهُ مَقاتِحُ الغَيْبِ والمفاتح : جمع مِفْتَح ، يقال فيه : مِفْتَح ومِفْتَاح ، فمن قال مِفْتَح جمعه مَفَاتح ، ومن قال مِفْتاح جمعه مَفَاتِيح .
ويعني بقوله : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ خزائن الغيب ، كالذي :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ قال : يقول : خزائن الغيب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرّة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن ابن مسعود ، قال : أعطي نبيكم كلّ شيء إلاّ مفاتح الغيب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : وَعِنْدَهُ مفاتِخُ الغَيْبِ قال : هنّ خمس : إنّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ويُنَزّلُ الغَيْثَ . . . إلى : إنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ .
فتأويل الكلام إذن : والله أعلم بالظّالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو بهم صانع ، فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه ، فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه ولم يعلموه ولن يدركوه . ويَعْلَمُ ما في البَرّ والبَحْرِ يقول : وعنده علم ما لم يغب أيضا عنكم ، لأن ما في البرّ والبحر مما هو ظاهر للعين يعلمه العباد . فكان معنى الكلام : وعند الله علم ما غاب عنكم أيها الناس مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثر بعلمه نفسه ، ويعلم أيضا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعكم ، لا يخفى عليه شيء ، لأنه لا شيء إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم . فأخبر الله تعالى أن عنده علم كل شيء كان ويكون وما هو كائن مما لم يكن بعد ، وذلك هو الغيب .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلاّ يَعْلمُها وَلا حَبّةٍ فِي ظُلُماتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ .
يقول تعالى ذكره : ولا تسقط ورقة في الصحاري والبراري ولا في الأمصار والقرى إلا الله يعلمها . وَلا حَبّةٍ فِي ظُلُماتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إلاّ فِي كِتابِ مُبِينٍ يقول : ولا شيء أيضا مما هو موجود أو مما سيوجد ولم يوجد بعد ، إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ ، مكتوب ذلك فيه ومرسوم عدده ومبلغه والوقت الذي يوجد فيه والحال التي يفني فيها . ويعني بقولين مُبِين : أنه يبين عن صحة ما هو فيه بوجود ما رسم فيه على ما رسم .
فإن قال قائل : وما وجه إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين ما لا يخفى عليه ، وهو بجميعه عالم لا يخاف نسيانه ؟ قيل له : لله تعالى فعل ما شاء ، وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانا منه لحفظته واختبارا للمتوكلين بكتابة أعمالهم ، فإنهم فيما ذكر مأمورون بكتابة أعمال العباد ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ ، حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم وقيل : إن ذلك معنى قوله : إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك مما هو أعلم به ، إما بحجة يحتجّ بها على بعض ملائكته وأما على بني آدم وغير ذلك . وقد :
حدثني زياد بن يحيى الحساني أبو الخطاب ، قال : حدثنا مالك بن سعير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحرث ، قال : ما في الأرض من شجرة ولا كمغرز إبرة ، إلا عليها ملك موكل بها يأتي الله ، يعلمه يبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} أي خزائن الغيب، لا يعلمها إلا هو، فهو يعلم متى يأتيكم العذاب في تفسير الحسن، وبعضهم يقول: مفاتح الغيب هي قوله: {إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلَيْمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
ذكروا عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس لا يعلمهنّ إلا الله: {إن الله عنده علم الساعة}... إلى آخر الآية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ).
هذا -واللَّه أعلم- يحتمل أن يكون صلة قوله: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)، وصلة قوله: (مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) كانوا يطلبون منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ويسألونه أشياء من التوسيع في الرزق، وغير ذلك مما كان يعدهم من الكرامة والمنزلة والسعة، وكان يوعدهم بالعذاب ويخوفهم بالهلاك، فيستعجلون ذلك منه ويطلبون منه ما أوعدهم فقال: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)، ليس ذلك عندي، لا يعلم ذلك إلا هو.
ومفاتح: من المفتح، ليس من المفتاح؛ لأن المفتاح، يكون جمعه مفاتيح، والمفتح: يقال في النصر والمعونة؛ يقال: فتح اللَّه عليه بلدة كذا، أي: نصره وجعله غالبًا عليهم، ويقال فيما يحدثه ويستفيد منه: فتح فلان على فلان باب كذا، أي: علمه علم ذلك.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ).
أي: من عنده يستفاد ذلك ومنه يكون، ومن نصر آخر إنما ينصر به، ومن علم آخر علما إنما يعلمه به، ومن وسع على آخر رزقًا إنما يوسعه باللَّه، كل هذا يشبه أن يخرج تأويل الآية.
وقوله- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
هذا يحتمل وجوهًا؛ يحتمل أي يعلم ما في البر والبحر من الدواب، وما يسكن فيها من ذي الروح، كثرتها وعددها وصغيرها وكبيرها، لا يخفى عليه شيء.
والثاني: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، أي: يعلم رزق كل ما في البر والبحر من الدواب ويعلم حاجته، ثم يسوق إلى كل من ذلك رزقه.
يذكر هذا -واللَّه أعلم- ليعلموا أنه لما ضمن للخلق لكل منهم رزقه، يسوق إليه رزقه من غير تكلف ولا طلب؛ كما يسوق أرزاق كل ما في البر والبحر من غير طلب ولا تكلف، لا تضيق قلوبهم لذلك، فما بالكم تضيق قلوبكم على ذلك، وقد ضمن ذلك لكم كما ضمن لأُولَئِكَ؟!
والثالث: يعلم ما في البر والبحر من اختلاط الأقطار بعضها ببعض، ومن دخول بعض في بعض، يخرج هذا على الوعيد: أنه لما كان عالمًا بهذا كله يعلم بأعمالكم ومقاصدكم.
فَإِنْ قِيلَ: هذا الذي ذكر كله في الظاهر دعوى، فما الدليل على أنه كذلك؟
قيل: اتساق التدبير في كل شيء وآثاره فيه يدل على أنه كان بتدبير واحد؛ لأن آثار التدبير في كل شيء واتساقه على سنن واحد ظاهرة بادية، فذلك يدل على ما ذكر.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) الآية.
يحتمل الكتاب- هاهنا -: التقدير والحكم اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أي: محفوظ كله عنده؛ يقول الرجل لآخر: عملك كله عندي مكتوب، يريد الحفظ، أي: محفوظ عندي، وذلك جائز في الكلام.
وقيل: الكتاب -هاهنا -: هو اللوح المحفوظ، أي: كله مبين فيه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} فيه وجهان: أحدهما: خزائن غيب السموات والأرض والأرزاق والأقدار، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني: الوصول إلى العلم بالغيب. {وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ} فيه وجهان: أحدهما: أن ما في البّر ما على الأرض، وما في البحر ما على الماء، وهو الظاهر، وبه قال الجمهور. والثاني: أن البَرّ القفر، والبحر القُرى لوجود الماء فيها، فلذلك سميت بحراً، قاله مجاهد. {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} يعني قبل يبسها وسقوطها. {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما في بطنها من بذر. والثاني: ما تخرجه من زرع. {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الرطب النبات واليابس الجواهر. والثاني: أن الرطب الحي، واليابس الميت.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معنى الآية أن الله تعالى عالم بكل شيء من مبتدءات الأمور وعواقبها فهو يعجل ما تعجيله أصلح وأصوب، ويؤخر ما تأخيره أصلح أصوب، وأنه الذي يفتح باب العلم لمن يريد إعلامه شيئا من ذلك من أنبيائه وعباده، لأنه لا يعلم الغيب سواه، فلا يتهيأ لأحد أن يعلم العباد ذلك، ولا أن يفتح لهم باب العلم به إلا الله، وبين أنه يعلم ما في البر والبحر من الحيوان والجماد. وبين أنه ما تسقط من ورقة من شجرة إلا يعلمها، ولا حبة في جوف الأرض وفي ظلماتها إلا ويعلمها ولا رطب ولا يابس جميع أصناف الأجسام، لأنها أجمع لا تخلو من إحدى هاتين الصفتين. وقوله:"وما تسقط من ورقة إلا يعلمها" المعنى أنه يعلمها ساقطة وثابتة كما تقول: ما يجيئك من أحد إلا وأنا أعرفه، معناه إلا وأنا أعرف في حال مجيئه...
ويجوز أن يكون المراد بذكر الورقة والحبة والرطب واليابس التوكيد في الزجر عن المعاصي، والحث على البر والتخويف لخلقه، بأنه إذا كانت هذه الأشياء التي لا ثواب فيها ولا عقاب عليها محصاة عنده محفوظة مكتوبة، فأعمالكم التي فيها الثواب والعقاب أولى، وهو قول الحسن.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، لأنّ المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالأغلاق والأقفال. ومن علم مفاتحها وكيف تفتح، توصل إليها، فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده، لا يتوصل إليها غيره،كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {إلا في كتاب مبين} قيل يعني كتاباً على الحقيقة، ووجه الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحفظة، وذلك أنه روي أن الحفظة يرفعون ما كتبوه ويعارضونه بهذا الكتاب المشار إليه ليتحققوا صحة ما كتبوه، وقيل: المراد بقوله: {إلا في كتاب} علم الله عز وجل المحيط بكل شيء.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْآيَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ من وَرَقَةٍ إلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قُرْبَهَا منهُ قُرْبَ مَكَانَةٍ وَتَيْسِيرٍ، لَا قُرْبَ مَكَان. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا فِي مِلْكِهِ يُظْهِرُ منهَا مَا يَشَاءُ وَيُخْفِي مَا يَشَاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ من أُصُولِ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَرُكْنٌ من قَوَاعِدِ الدِّينِ، مُعْظَمُهَا يَتَفَسَّرُ بِهَا، وَفِيهَا من الْأَحْكَامِ نُكْتَةٌ وَاحِدَةٌ؛ فَأَمَّا مَنْزَعُهَا فِي الْأُصُولِ فَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ؛ وَأَمَّا نُكْتَتُهَا الْأَحْكَامِيَّةُ فَنُشِيرُ إلَيْهَا فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ؛ لِأَنَّهَا من جِنْسِ مَضْمُونِهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ من الْإِشَارَةِ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ الْمُشْكِلَيْنِ لِيَنْفَتِحَ بِذَلِكَ
الْمَطْلُوبِ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} وَاحِدُهَا مَفْتَحٌ وَمِفْتَاحٌ، وَجَمْعُهُ مَفَاتِحُ وَمَفَاتِيحُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَعْنَى يَحِلُّ غَلْقًا، مَحْسُوسًا كَانَ كَالْقُفْلِ عَلَى الْبَيْتِ، أَوْ مَعْقُولًا كَالنَّظَرِ، وَالْخَبَرُ يَفْتَحُ قُفْلَ الْجَهْلِ عَنْ الْعِلْمِ وَالْغَيْبِ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: عِبَارَةٌ عَنْ مُتَعَلِّقٍ لَا يُدْرَكُ حِسًّا أَوْ عَقْلًا، وَكَمَا لَا يُدْرِكُ الْبَصَرُ مَا وَرَاءَ الْجِدَارِ أَوْ مَا فِي الْبَيْتِ الْمُقْفَلِ، كَذَلِكَ لَا تُدْرِكُ الْبَصِيرَةُ مَا وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ الْخَمْسِ، وَالْمَحْسُوسَاتُ مُنْحَصِرَةُ الطُّرُقِ بِانْحِصَارِ الْحَوَاسِّ وَالْمَعْقُولَاتُ لَا تَنْحَصِرُ طُرُقُهَا إلَّا من جِهَةِ قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُدْرَكُ بِبَدِيهَةِ النَّظَرِ.
الثَّانِي: مَا يَتَحَصَّلُ من سَبِيلِ النَّظَرِ.
أَمَّا إنَّهُ لَها أُمَّهَاتٌ خَمْسٌ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا وَجَاءَتْ الْعِبَارَةُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
فَالْأُمُّ الْكُبْرَى: السَّاعَةُ؛ وَمَا تَضَمَّنَتْ من الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْمَوْقِفِ، وَمَا فِيهِ من الْأَهْوَالِ، وَحَالُ الْخَلْقِ فِي الْحِسَابِ، وَ منقَلبُهُمْ بَعْدَ تَفْضِيلٍ وَحَطٍّ وَتَفْصِيلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
الْأُمُّ الثَّانِيَةُ: تَنْزِيلُ الْغَيْثِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ من الْإِحْيَاءِ وَالْإِنْبَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ مِيكَائِيلَ وَتَحْتَ نَظَرِهِ مَلَائِكَةٌ لَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَصْدُرُ عَنْ أَمْرِهِ فِي تَنْفِيذِ الْمَقَادِيرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ من إنْشَاءِ الرِّيَاحِ، وَتَأْلِيفِ السَّحَابِ، وَإِلْقَاحِهَا بِالْمَاءِ، وَفَتْقِهَا بِالْقَطْرِ، وَعَلَى يَدَيْ كُلِّ مَلِكٍ قَطْرَةٌ يُنْزِلُهَا إلَى بُقْعَةٍ مَعْلُومَةٍ لِيُنَمِّيَ بِهَا شَجَرَةً مَخْصُوصَةً؛ لِيَكُونَ رِزْقًا لِحَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَيْهِ.
الْأُمُّ الثَّالِثَةُ: مَا تَحْوِيهِ الْأَرْحَامُ، وَقَدْ وَكَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ فِي مَوْرِدِ الْأَمْرِ مَلَكًا يُقَالُ لَهُ إسْرَافِيلُ، وَفِي زِمَامِهِ: من الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَرَنَ بِكُلِّ رَحِمٍ مَلَكًا يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ تَدْبِيرُ النُّطْفَةِ فِي أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ.
الْأُمُّ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}:
وَهُوَ مَعْنًى خَبَّأَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْخَلْقِ تَحْتَ أَسْتَارِ الْأَقْدَارِ، بِحِكْمَتِهِ الْقَائِمَةِ، وَحُجَّتِهِ الْبَالِغَةِ، وَقُدْرَتِهِ الْقَاهِرَةِ، وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ، فَكَائِنَاتُ غَدٍ تَحْتَ حِجَابِ اللَّهِ، وَنَبَّهَ: بِالْكَسْبِ عَنْ تَعْمِيَتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْكَدُ مَا عِنْدَ الْمَرْءِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَأَوْلَاهُ لِلتَّحْصِيلِ، وَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ الْعُمْرُ وَالرِّزْقُ، وَالْأَجَلُ، وَالنَّجَاةُ، وَالْهَلَكَةُ، وَالسُّرُورُ، وَالْغَمُّ، وَالْغَرَائِزُ الْمُزْدَوِجَةُ فِي جِبِلَّةِ الْآدَمِيِّ من مَفْرُوحٍ بِهِ أَوْ مَكْرُوهٍ لَهُ.
الْأُمُّ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}:
نَبَّأَ بِهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا رَبُّ الْعِزَّةِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تَأْكِيدِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ من الصَّحَابَةِ؛ من هُمْ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ؛ قَالَا: {كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانِيْ أَصْحَابِهِ، فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ، فَطَلَبْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَجْعَلَ لَهُ مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إذَا أَتَاهُ، فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا من طِينٍ، كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَكُنَّا نَجْلِسُ جَانِبَيْهِ، فَإِنَّا لَجُلُوسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَجْلِسِهِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ من أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَطْيَبِ النَّاسِ رِيحًا، وَأَنْقَى النَّاسِ ثَوْبًا، كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ، إذْ وَقَفَ فِي طَرَفِ السِّمَاطِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْنُو؟ قَالَ: ادْنُهْ. فَمَا زَالَ بِهِ يَقُولُ: أَدْنُو؟ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لَهُ: ادْنُهْ، حَتَّى وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَخْبِرْنِي مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ. قَالَ: فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْت؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: صَدَقْت.
قَالَ: فَلَمَّا أَنْ سَمِعْنَا قَوْلَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ أَنْكَرْنَا ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ.
قَالَ: فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْت؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: صَدَقْت.
قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك. قَالَ: صَدَقْت.
قَالَ: فَمَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: فَنَكَّسَ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ دَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَحَلَفَ بِاَللَّهِ، وَقَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ من السَّائِلِ، وَلَكِنْ لَهَا عَلَامَاتٌ يَجِئْنَ، إذَا رَأَيْت رِعَاءَ الْغَنَمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، وَرَأَيْت الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ مُلُوكَ الْأَرْضِ، وَرَأَيْت الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا، هُنَّ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ: {إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}. وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا، ثُمَّ صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ مَا كُنْت بِأَعْلَمَ بِهِ من رَجُلٍ منكُمْ، وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ نَزَلَ عَلَيْكُمْ فِي صُورَةِ دحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ).
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ السُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِهَذَا خَزَائِنُ الْغَيْبِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، وَقَرَأَ الْآيَاتِ الْخَمْسَ الْمُتَقَدِّمَةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى عِلْمِ الْغَيْبِ من قَوْلِ النَّاسِ: افْتَحْ عَلَيَّ كَذَا؛ أَيْ أَعْطِنِي، أَوْ عَلِّمْنِي مَا أَتَوَصَّلُ [بِهِ] إلَيْهِ.
فَأَمَّا قَوْلُ السُّدِّيِّ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْمَفَاتِحِ الْخَزَائِنُ فَمَجَازٌ بَعِيدٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَعِلْمٌ سَدِيدٌ من فَكٍّ شَدِيدٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ الثَّالِثِ فَأَنْكَرَهُ شَيْخُنَا النَّحْوِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ، وَقَالَ: أَجْمَعَتْ أَيْ الْفِرْقَةُ السَّالِفَةُ الصَّالِحَةُ من الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ من قَوْلِهِمْ أَصَحُّ وَأَوْلَى.
وَأَظُنُّهُ لَمْ يَفْهَمْ الْمَقْصُودَ من هَذَا الْقَوْلِ، وَلَا اغْتَزَى فِيهِ الْمَغْزَى، وَلَقَدْ أَلْحَمَ فِيهِ الصَّوَابَ وَسَدَى، وَإِذَا مَنَحْته نَقْدًا لَمْ تَعْدَمْ فِيهِ هُدًى؛ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمُ الْغَيْبِ، وَبِيَدِهِ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إلَيْهِ، لَا يَمْلِكُهَا إلَّا هُوَ؛ فَمَنْ شَاءَ إطْلَاعَهُ عَلَيْهَا أَطْلَعَهُ، وَمَنْ شَاءَ حَجْبَهُ عَنْهَا حَجَبَهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ من إفَاضَتِهِ إلَّا عَلَى رُسُلِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي من رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مَقَامَاتُ الْغَيْبِ الْخَمْسَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ لَا أَمَارَةَ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَامَةَ عَلَيْهَا، إلَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمُجْتَبَى لِاطِّلَاعِ الْغَيْبِ من أَمَارَاتِ السَّاعَةِ، وَالْأَرْبَعَةُ سِوَاهَا لَا أَمَارَةَ عَلَيْهَا؛ فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَنْزِلُ الْغَيْثُ غَدًا فَهُوَ كَافِرٌ، أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَاتٍ ادَّعَاهَا، أَوْ بِقَوْلٍ مُطْلَقٍ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الرَّحِمِ فَهُوَ كَافِرٌ؛ فَأَمَّا الْأَمَارَةُ عَلَى هَذَا فَتَخْتَلِفُ؛ فَ من هَا كُفْرٌ، وَ من هَا تَجْرِبَةٌ، وَالتَّجْرِبَةُ من هَا أَنْ يَقُولَ الطَّبِيبُ: إذَا كَانَ الثَّدْيُ الْأَيْمَنُ مُسْوَدَّ الْحَلَمَةِ فَهُوَ ذَكَرٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَهُوَ أُنْثَى؛ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَجِدُ الْجَنْبَ الْأَيْمَنَ أَثْقَلَ فَهُوَ ذَكَرٌ، وَإِنْ وَجَدَتْ الْجَنْبَ الْأَشْأَمَ أَثْقَلَ فَالْوَلَدُ أُنْثَى، وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَةً لَا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَةِ لَمْ نُكَفِّرْهُ، وَلَمْ نُفَسِّقْهُ.
فَأَمَّا مَنْ ادَّعَى عِلْمَ الْكَسْبِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْعُمْرِ فَهُوَ كَافِرٌ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ الْكَوَائِنِ الْجُمَلِيَّةِ أَوْ الْمُفَصَّلَةِ فِيمَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، فَلَا رِيبَةَ فِي كُفْرِهِ أَيْضًا.
فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُؤَدَّبُ وَيُسْجَنُ وَلَا يُكَفَّرُ، أَمَّا عَدَمُ تَكْفِيرِهِ فَلِأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا: إنَّهُ أَمْرٌ يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ، وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ، حَسْبَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}؛ فَلِحِسَابِهِمْ لَهُ، وَإِخْبَارِهِمْ عَنْهُ، وَصِدْقِهِمْ فِيهِ، تَوَقَّفَتْ عُلَمَاؤُنَا عَنْ الْحُكْمِ بِتَكْفِيرِهِمْ.
وَأَمَّا أَدَبُهُمْ فَلِأَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الشَّكَّ عَلَى الْعَامَّةِ فِي تَعْلِيقِ الْعِلْمِ بِالْغَيْبِ الْمُسْتَأْنَفِ وَلَا يَدْرُونَ قَدْرَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَغَيْرِهِ، فَتُشَوَّشُ عَقَائِدُهُمْ فِي الدِّينِ، وَتَتَزَلْزَلُ قَوَاعِدُهُمْ فِي الْيَقِينِ، فَأُدِّبُوا حَتَّى يُسِرُّوا ذَلِكَ إذَا عَرَفُوهُ وَلَا يُعْلِنُوا بِهِ.
اعلم أن ههنا دقيقة أخرى، وهي: أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة، ومثل هذا الإنسان يكون كالنادر وقوله: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} قضية عقلية محضة مجردة فالإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدا. والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع الخلق. فههنا طريق آخر وهو أن من ذكر القضية العقلية المحضة المجردة، فإذا أراد إيصالها إلى عقل كل أحد ذكر لها مثالا من الأمور المحسوسة الداخلة تحت القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوما لكل أحد، والأمر في هذه الآية ورد على هذا القانون، لأنه قال أولا: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} ثم أكد هذا المعقول الكلي المجرد بجزئي محسوس فقال: {ويعلم ما في البر والبحر} وذلك لأن أحد أقسام معلومات الله هو جميع دواب البر، والبحر، والحس، والخيال قد وقف على عظمة أحوال البر والبحر، فذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظمة ذلك المعقول.
وفيه دقيقة أخرى وهي: أنه تعالى قدم ذكر البر، لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر، وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات والمعادن. وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب. فإذا استحضر الخيال صورة البحر والبر على هذه الوجوه. ثم عرف أن مجموعها قسم حقير من الأقسام الداخلة تحت قوله: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} ثم إنه تعالى كما كشف عن عظمة قوله {وعنده مفاتح الغيب} بذكر البر والبحر كشف عن عظمة البر والبحر بقوله: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في وجه الأرض من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق سبحانه يعلمها ثم يتجاوز من هذا المثال إلى مثال آخر أشد هيئة منه وهو قوله: {ولا حبة في ظلمات الأرض} وذلك لأن الحبة في غاية الصغر وظلمات الأرض موضع يبقى أكبر الأجسام وأعظمها مخفيا فيها فإذا سمع أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظلمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج عن علم الله تعالى البتة، صارت هذه الأمثلة منبهة على عظمة عظيمة وجلالة عالية من المعنى المشار إليه بقوله: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} بحيث تتحير العقول فيها وتتقاصر الأفكار والألباب عن الوصول إلى مباديها، ثم إنه تعالى لما قوى أمر ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة فبعد ذكرها عاد إلى ذكر تلك القضية العقلية المحضة المجردة بعبارة أخرى فقال: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} وهو عين المذكور في قوله: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} فهذا ما عقلناه في تفسير هذه الآية الشريفة العالية. ومن الله التوفيق.
المسألة الثانية: المتكلمون قالوا إنه تعالى فاعل العالم بجواهره وأعراضه على سبيل الإحكام والإتقان، ومن كان كذلك كان عالما بها فوجب كونه تعالى عالما بها والحكماء قالوا: إنه تعالى مبدأ لجميع الممكنات، والعلم بالمبدأ يوجب العلم بالأثر فوجب كونه تعالى عالما بكلها:
واعلم أن هذا الكلام من أدل الدلائل على كونه تعالى عالما بجميع الجزئيات الزمانية وذلك لأنه لما ثبت أنه تعالى مبدأ لكل ما سواه وجب كونه مبدأ لهذه الجزئيات بالأثر. فوجب كونه تعالى عالما بهذه التغيرات والزمانيات من حيث إنها متغيرة وزمانية وذلك هو المطلوب.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} يدل على كونه تعالى منزها عن الضد والند وتقريره: أن قوله: {وعنده مفاتح الغيب} يفيد الحصر، أي عنده لا عند غيره. ولو حصل موجود آخر واجب الوجود لكان مفاتح الغيب حاصلة أيضا عند ذلك الآخر، وحينئذ يبطل الحصر. وأيضا فكما أن لفظ الآية يدل على هذا التوحيد، فكذلك البرهان العقلي يساعد عليه. وتقريره: أن المبدأ لحصول العلم بالآثار والنتائج والصنائع هو العلم بالمؤثر والمؤثر الأول في كل الممكنات هو الحق سبحانه. فالمفتح الأول للعلم بجميع المعلومات هو العلم به سبحانه لكن العلم به ليس إلا له لأن ما سواه أثر والعلم بالأثر لا يفيد العلم بالمؤثر. فظهر بهذا البرهان أن مفاتح الغيب ليست إلا عند الحق سبحانه. والله أعلم.
المسألة الرابعة: قرئ {ولا حبة ولا رطب ولا يابس} بالرفع وفيه وجهان: الأول: أن يكون عطفا على محل من ورقة وأن يكون رفعا على الابتداء وخبره {إلا في كتاب مبين} كقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار.
المسألة الخامسة: قوله: {إلا في كتاب مبين} فيه قولان: الأول: أن ذلك الكتاب المبين هو علم الله تعالى لا غير. وهذا هو الصواب. والثاني: قال الزجاج: يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال عز وجل: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} وفائدة هذا الكتاب أمور: أحدها: أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء. فيكون في ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقا له. وثانيها: يجوز أن يقال إنه تعالى ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيها للمكلفين على أمر الحساب وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء: لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحول المشتملة على الثواب والعقاب أولى. وثالثها: أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم، وإلا لزم الجهل. فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع أيضا تغييرها وإلا لزم الكذب فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا تاما وسببا كاملا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال صلوات الله عليه: (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للمشركين أنه على بينة من ربه فيما بلغهم إياه من رسالته، وأن ما يستعجلون به من عذاب الله ونصره عليهم تعجيزا أو تهكما أو عنادا ليس عنده، وإنما هو عند الله الذي قضت سنته أن يكون لكل شيء أجل وموعد لا يتقدم ولا يتأخر عنه، وأنه تعالى هو الذي يقضي الحق ويقصه على رسوله، وبيده تنفيذ وعده ووعيده – قفى على ذلك ببيان كون مفاتح الغيب عنده، وكون التصرف في الخلق بيده وكونه هو القاهر فوق عباده، لا يشاركه أحد من رسله ولا غيرهم في ذلك حتى يصح أن يطالبوا به، فقال عز وجل:
{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} المفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن وبكسرها وهو المفتاح الذي تفتح به الأقفال وقرئ في الشواذ « مفاتيح الغيب» ويؤيد هذه القراءة حديث ابن عمر الآتي في تفسير الآية. ويجوز استعمال اللفظ في معنييه أي أن خزائن الغيب وهو ما غاب علمه عن الخلق هي عند الله تعالى وفي تصرفه وحده، وأن المفاتيح أي الوسائل التي يتوصل بها إلى علم الغيب هي عنده أيضا لا يعلمها علما ذاتيا إلا هو، الذي يحيط بها علما وسواه جاهل بذاته لا يمكن أن يحيط علما بها ولا أن يعلم شيئا منها إلا بإعلامه عز وجل. وإذا كان الأمر كذلك فالواجب أن يفوض إليه إنجاز وعده لرسوله بالنصر، ووعيده لأعدائه بالعذاب والقهر، مع القطع بأنه لا يخلف وعده رسله، وإنما إنجازه إلى الأجل الذي اقتضته حكمته، وقد تقدم في تفسير هذه السورة بيان حقيقة الغيب واستئثار الله تعالى بعلمه وما يعلمه بعض خلقه من الحقيقي أو الإضافي منه وسنزيد ذلك بيانا.
{ويعلم ما في البر والبحر} قال الراغب: أصل البحر كل مكان واسع للماء الكثير. وقيل إن أصله الماء الملح وأطلق على الأنهار بالتوسع أو التغليب. والبر ما يقابله من الأرض، وهو ما يسميه علماء خرت الأرض باليابسة. وعلمه تعالى بما في البر والبحر من علم الشهادة المقابل لعلم الغيب، على أن أكثر ما في خفايا البر والبحر، غائب عن علم أكثر الخلق، وإن كان في نفسه موجودا يمكن أن يعلمه الباحث منهم عنه، وقدم ذكر البر على البحر على طريقة الترقي من الأدنى إلى ما هو أعظم منه فإن قسم البحر من الأرض أعظم من قسم البر وخفاياه أكثر وأعظم.
{وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} أي وما تسقط ورقة ما من نجم أو شجر ما إلا يعلمها، لإحاطة علمه بالجزئيات كلها {ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59)} أي وما تسقط من حبة بفعل فاعل مختار في ظلمات الأرض كالحب الذي يلقيه الزراع في بطون الأرض يسترونه بالتراب فيحتجب عن نور النهار والذي تذهب به النمل وغيرها من الحشرات في قراها وجحورها، أو بغير فعل فاعل كالذي يسقط من النبات في شقوقها وأخاديدها، وما يسقط من رطب ولا يابس من الثمار ونحوها – إلا كائن في كتاب مبين، وهو علم الله تعالى الذي يشبه المكتوب في الصحف بثباته وعدم تغيره – أو كتابه الذي كتب فيه مقادير الخلق كما ورد في الحديث الصحيح وسيأتي ذكره؛ وهو بمعنى قوله فيما قبله « إلا يعلمها» ولذلك قيل إنه تكرير له بالمعنى، وقيل بدل كل أو بدل اشتمال منه.
فإن قيل ما حكمة تخصيص هذه الأشياء بالذكر؟ قلنا إن المعلوم – أو ما يتعلق به العلم – إما موجود وإما معدوم، والموجود إما حاضر مشهود، وإما غائب في حكم المفقود، وليس في الوجود شيء غائب عن الله تعالى، فعلمه تعالى بالأشياء إما علم غيب وهو علمه بالمعدوم، وإما علم شهادة وهو علمه بالموجود، وأما أهل العلم من الخلق فمن الموجودات ما هو حاضر مشهود لديهم، ومنها ما هو حاضر غير مشهود لأنه لم يخلق لهم آلة للعلم به كعالم الجن والملائكة مع الإنس، ومنها ما هو غائب عن شهودهم وهم مستعدون لإدراكه لو كان حاضرا، وما هو غائب وهم غير مستعدين لإدراكه لو حضر، فكل ما خلقوا غير مستعدين لإدراكه من موجود ومعدوم فهو غيب حقيقي بالنسبة إليهم، وكل ما خلقوا مستعدين لإدراكه دائما أو في بعض الأحوال فهو إن غاب عنهم إضافي.
وقد بين الله تعالى لنا في هذه الآية أن خزائن علم الغيب كلها عنده وعنده مفاتيحها وأسبابها الموصلة إليها، وأن عنده من علم الشهادة ما ليس عند غيره، وذكر على سبيل المثل علمه بكل ما في البر والبحر من ظاهر وخفي، ثم خص بالذكر ثلاثة أشياء مما في البر – إحاطة علمه بكل ورقة تسقط من نبتة وكل حبة تسقط في ظلمات الأرض وكل رطب ويابس، فأما الورق الذي يسقط فهو ما كان رطبا من النبات فأشرف على اليبس وفقد الحياة النباتية والتحق بمواد الأرض الميتة وقد يتغذى به حيوان بعد يبسه أو قبله أو يتحلل في الأرض بعد سقوطه ويتغذى به نبات آخر فيدخل في عالم الأحياء بطور آخر، وأما الحب فهو أصل تكوين النبات الحي يسقط في ظلمات الأرض فمنه ما ينبت ويكون نجما أو شجرا، ومنه ما يتغذى به بعض الأحياء من الحيوان كالطير والحشرات فيدخل في بنيتها كما قلنا فيما قبله، وأما ذكر الرطب واليابس فهو تعميم بعد تخصيص في هذا الباب – فهذه الأشياء من عالم الشهادة تدخل في عالم الغيب ثم تبرز في عالم الشهادة. وعلم الله تعالى محيط بكل شيء منها على كثرتها ودقة بعضها وصغره وتنقله في أطوار الخلق والتكوين وما يتبعها من الصور والمظاهر، وحسبك هذا الإيمان من حكمة تخصيصها بالذكر.
وفي هذه الآية مباحث لعلماء الآثار، وجولات للنظار، نذكر المهم منها في فصول:
هذا وإن في تفسير مفاتح الغيب حديثا صحيحا فيه مباحث دقيقة فقد روى البخاري في تفسير سورة الأنعام عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « مفاتح الغيب خمس: [إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت {إن الله عليم خبير} 152 وهذه الآية خاتمة سورة لقمان وقد روى البخاري في تفسيرها هذا الحديث عن عبد الله بن عمر مرفوعا بلفظ « مفاتيح الغيب خمس» ثم قرأ {إن الله عنده علم الساعة} 153 (ورواه بلفظ مفاتيح في كتاب التوحيد أيضا وبلفظ مفاتح في تفسير المائدة والرعد، وبلفظ مفتاح في أبواب الاستسقاء) وروى أحمد والبزار وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة رفعه قال: « خمس لا يعلمهن إلا الله: [إن الله عنده علم الساعة] الآية. وذكر العلماء في تفسير الآية والحديث قول عيسى عليه السلام الذي حكاه الله تعالى: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} [آل عمران: 49] وقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن الذي حكاه الله عنه في سورته: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} [يوسف: 37] وأجابوا عنه بأنه داخل فيما يظهر الله عليه رسله من علم الغيب فقد قال في سورة الجن: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 26، 27] وأدخلوا فيه ما نقل كثيرا عن الأولياء من الكشف المشتمل على مثل هذه الحوادث من كسب الناس والإخبار بما في الأرحام وبموت بعض الناس قبل وقوعه ووجهوه بأن الولي لما حصل له هذا الكشف باتباعه للرسول كان الكشف للرسول بالأصالة وله بالتبع.
ولكن ظاهر الحصر في الآية ينافي هذا الرأي. والصواب في هذا الباب ما حققناه هنا وفي تفسير الآية التاسعة والآية الخمسين من هذه السورة {الأنعام} فمنه يعلم أن أمثال هذه المكاشفات ليست من علم الغيب الحقيقي الذي استأثر الله به، وأن ما يظهر الله عليه الرسل من الغيب الحقيقي لا يقتضي أن يكون من علمهم الكسبي الذي يصح أن يسند إليهم على سبيل الحقيقة.
وجه تفسير مفاتح الغيب بهذه الخمس:
لم أر لأحد كلاما في وجه تفسير مفاتح الغيب بالخمس المذكورة في آخر سورة لقمان وكنت قد فكرت في ذلك في أيام طلبي للعلم فظهر لي أن علم الله تعالى بجميع الموجودات علم شهادة وعلمه بما لم يوجد علم غيب، وأن ما لم يوجد فخزائنه أو مفاتيح خزائنه التي يستفيد الناس من بيانها هي تلك الخمس، وهي لم تذكر بصيغة الحصر وقد بينت ذلك في كتابي (الحكمة الشرعية) الذي ألفته في عهد الطلب في سياق البحث في الكشف من أنواع كرامات الأولياء وبعد ذكر الآية والحديث في تفسيرها بتلك الخمس، فقلت ما نصه:
ثم إنه لا يخفى أن معلومات الله تعالى الغيبية لا تدخل تحت الحصر فما معنى تخصيص هذه الخمس بالذكر مع كونها مما قد يطلع عليه بعض عباده وما معنى كونها مفاتح الغيب؟ وأجيب بأن هذه الخمس هي التي كانوا يدعون علمها والعدد لا مفهوم له على الراجح فلا ينفي زائدا على المذكور. (قلت) وهذا لا يدل على كونها مفاتح الغيب وقد فتح الله عز وجل علي بفهم معنى لطيف في معنى كون هذه الخمس مفاتح أو مفاتيح وعرضته على مشايخي كالأستاذ الشيخ محمد القاوقجي والعلامة الشيخ محمود نشابة 155 وغيرهما فأعجبوا به، وهو أن المفاتح جمع مفتح بفتح الميم أو كسرها بمعنى الخزائن أو المفاتيح والغيب ما غاب عن الوجود أو الشهود وهو عالم البرزخ وعالم الآخرة وبعض عالم الدنيا وهو النبات الذي لم يوجد والحيوان الذي لم يولد وكسب الأنفس الذي يحصل في المستقبل؛ وفي قوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [لقمان: 34] إشارة إلى جميع ذلك: فالساعة مفتاح عالم الآخرة والغيث مفتاح عالم النبات وما في الأرحام مفتاح عالم الحيوان وقوله: {وما تدري نفس} ظاهر في مفتح الكسب والأعمال وقوله تعالى: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} أي كما لا تدري بأي وقت إشارة بالموت إلى عالم البرزخ.
وبعبارة أخرى: العوالم ثلاثة الأول القريب الداني نقيم فيه قبل الموت والآخر الذي نقيم فيه بعد الموت إلى غير نهاية والثالث الوسط بينهما وهو ما نقيم فيه بين العالمين حتى يتمم جمعنا بانتهاء الدنيا ونفد على الله تعالى جميعا، فالثاني والثالث من الغيب الذي ليس مشهودا لنا ومفتحهما الساعة والموت، وأما الأول فمنه ما هو مشهود لنا ولا يحصل فيه زيادة يبرزها الله تعالى من العدم كالأحجار والمعادن ونحوها من الموجودات التي وجدت في الكون تدريجا، أو دفعة واحدة، ومنه ما هو غيب وهو ما يتجدد بصور مخصوصة لم تكن مشهودة وهو النبات ومفتحه الغيث، والحيوان ومفتحه الأرحام غالبا، وكسب الحيوان وعلمه هو مفتح وخزانة من خزائن الغيب، اه.
ثم ذكرت هنالك ما يرد على حصر المفاتح بهذه الخمس أو تخصيصها بالذكر وأجبت عنه وفي العبارة شيء من الضعف وهي من القسم الذي لا يزال مسودة من ذلك الكتاب الذي كان أول تمرين لنا على التأليف والإنشاء فإننا لم نتعلم الإنشاء تعلما. وفي هامشها تعليق على كلمة « ومفتحه الأرحام غالبا» وجعل نحو دود الفاكهة والخل من غير الغالب بينا فيه ما ثبت عند المتأخرين من كون الحي لا يولد إلا من حي مثله.
كتابة الله مقادير الخلق في كتاب مبين
وهو الإمام المبين وأم الكتاب والذكر والزبر واللوح المحفوظ
ورد في معنى الآية التي نفسرها آيات ففي سورة يونس {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [يونس: 21] وفي سورة هود بعد بيان علمه بما يسرون وما يعلنون وما في الصدور {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} [هود: 6] وفي سورة النمل {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين} [النمل: 76، 77]، وفي سبأ {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [سبأ: 3].
وفي سورة طه {قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 50، 51] وفي سورة الحديد: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد: 20] وفي سورة يس {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} [يس: 11]، وفي سورة الرعد {لكل أجل كتاب * يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39، 40] وفي سورة الزخرف {حم، والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} [الزخرف: 1، 2].
وفي سورة الأنبياء {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 104] ورد الذكر كثيرا بمعنى القرآن وفي هذه الآية يحتمل المعنى الذي نحن بصدد بيانه وغيره. وفي سورة القمر {وكل شيء فعلوه في الزبر * وكل صغير وكبير مستطر} [القمر: 52، 53]، وفي سورة البروج {بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ} [البروج: 21، 22] – جمهور علماء الإسلام على أن هذه الآيات كلها في معنى واحد فسرته الأحاديث التي نورد أشهرها:
روى البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعا وغيره « لما قضى الله الخلق كتب في كتابه – فهو عنده فوق العرش – إن رحمتي غلبت غضبي» وروى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين مرفوعا « كان الله ولم يكن شيء عنده وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض» هذا لفظ البخاري في أول بدء الخلق ورواه في كتاب التوحيد بلفظ « ولم يكن شيء قبله» وفيها « ثم خلق السماوات والأرض» وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا « إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة – قال _ وكان عرشه على الماء». قال شراح البخاري في قوله صلى الله عليه وسلم « كان الله» الخ أن المراد بكان في الأول الأزلية وفي الثاني الحدوث بعد العدم، وأنه يدل على أن العرش والماء كانا مبدأ هذا العالم، أي عالم السموات والأرض، كأنهم يعنون أن الماء أصل مادته والعرش مركز التقدير والتدبير له.
ولكن الله تعالى بين لنا في سورة [حم فصلت] أنه خلق السموات والأرض من دخان، ويمكن أن يقال أن الماء في حالته البخارية يكون دخانا، أو أن تلك المادة الدخانية معظمها بخار مائي. وروى أحمد والترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا « أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة».
ورواه غيرهما عن غيره بمعناه، قال بعض العلماء أن أولية خلق العلم نسبية والعرش خلق قبله وكذا الماء، وقال بعضهم بل هو الأول وكذا اللوح الذي كتب فيه. ولم يرد في خلق اللوح المحفوظ حديث مرفوع صحيح بل ورد فيه آثار عن ابن عباس وغيره من علماء التفسير.
فلهذه الأحاديث والآثار اتفق علماء التفسير المأثور على تفسير الكتاب المبين والإمام المبين وأم الكتاب والذكر في الآيات التي سردناها بذلك الكتاب المسمى باللوح المحفوظ، ومن التكلف الظاهر أن يقال إن المراد بها العلم الإلهي كما قال الرازي هنا، ومذهب السلف أن نؤمن بالقلم الإلهي واللوح المحفوظ وما كتب القلم في اللوح من مقادير الخلق وإحصائه جميع ما كان ويكون في هذا العالم من بدء تكوينه إلى يوم القيامة من غير أن نحكم آراءنا وأقيستنا في صفة شيء من ذلك ولا نقبل قول أحد غير المعصوم فيما يزعمه من وصف اللوح أو القلم أو تلك الكتابة. ومن الجهل الفاضح أن نشبه ذلك بما نعهده من كتابتنا ونحن نرى البشر قد اخترعوا لتدوين الكلام طرقا يتلقاها بعضهم عن بعض على مسافة ألوف الأميال والفراسخ في البر والبحر بواسطة الكهرباء التي تسخر لذلك بأسلاك وبغير أسلاك فيكتب أحدهم في لوح الجو ما شاء أن يكتب فيتكيف به الهواء في هذا الجو الواسع كله ويتلقاها آخرون بآلات عندهم ترسم لهم ما رسم في الهواء فيقرؤونه ويدونونه لمن يريدون أن ينتفع به.
والذين يؤولون ما ورد في اللوح والقلم والعرش ليسوا أبعد عن مذهب السلف ممن يشبهون هذه العوالم الغيبية بما يعهدون من صنع البشر في هذا العالم المتغير وهم يرون أن هذه المصنوعات تتغير وتترقى كلما ترقى الناس في الصناعات، حتى أن الشيخ الشعراني صور الميزان الإلهي الذي يزن به تعالى أعمال العباد المعنوية كلها في وقت واحد قصير – وهو أسرع الحاسبين – بصورة أحقر الموازين البشرية التي اخترعوها في طور البداوة والجهل بفنون الصناعة ونحن نرى البشر قد اخترعوا في هذا العصر أنواعا من الموازين الدقيقة للأثقال المادية وللأمور المعنوية كالرطوبة والحرارة والبرودة والسرعة حتى أنهم ليعرفون أثقال الكواكب، وإن ركاب السفينة الغواصة ليعلمون وهم في لجة البحر ما يكون حولهم إلى أبعاد عظيمة من أحوال المراكب التي على ظهر البحر وأثقالها وبعض ما يتحرك في البحر أيضا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبمناسبة علم الله -سبحانه- بالظالمين؛ واستطرادا في بيان حقيقة الألوهية؛ يجلي هذه الحقيقة في مجال ضخم عميق من مجالاتها الفريدة.. مجال الغيب المكنون، وعلم الله المحيط بهذا الغيب إحاطته بكل شيء، ويرسم صورة فريدة لهذا العلم؛ ويرسل سهاما بعيدة المدى تشير إلى آماده وآفاقه من بعيد: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين)..
إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط؛ الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض ولا في طباق الجو، من حي وميت ويابس ورطب...
ولكن أين هذا الذي نقوله نحن -بأسلوبنا البشري المعهود- من ذلك النسق القرآني العجيب؟ وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد، من ذلك التصوير العميق الموحي؟
إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول، وعالم الغيب وعالم الشهود، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح، ووراء حدود هذا الكون المشهود.. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد. وهو يرتاد -أو يحاول أن يرتاد- أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل؛ البعيدة الآماد والآفاق والأغوار.. مفاتحها كلها عند الله؛ لا يعلمها إلا هو.. ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر، المكشوفة كلها لعلم الله. ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، لا يحصيها عد، وعين الله على كل ورقة تسقط، هنا وهنا وهناك. ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله. ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط..
إنها جولة تدير الرؤوس، وتذهل العقول. جولة في آماد من الزمان، وآفاق من المكان، وأغوار من المنظور والمحجوب، والمعلوم والمجهول.. جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف، يعيا بتصور آمادها الخيال.. وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات..
وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز، الناطق بمصدر هذا القرآن.
ننظر إليها من ناحية موضوعها، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر؛ فليس عليه طابع البشر.. إن الفكر البشري -حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع: موضوع شمول العلم وإحاطته- لا يرتاد هذه الآفاق.. إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود. إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته.. فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر، في كل أنحاء الأرض؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء. لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض. ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق؛ ويعبر عنه الخالق!
وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبأونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته.. فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؛ فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به، ولا أن يلحظوا وجوده، ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق!
وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق: (ولا رطب ولا يابس).. إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم.. فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل. فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق!
ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة، وكل حبة مخبوءة، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين. وفي سجل محفوظ.. فما شأنهم بهذا، وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك، الذي لا يند عنه شيء في ملكه.. الصغير كالكبير؛ والحقير كالجليل؛ والمخبوء كالظاهر؛ والمجهول كالمعلوم؛ والبعيد كالقريب..
إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع.. مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعا، والحب المخبوءفي أطواء الأرض جميعا، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعا.. إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري؛ وكذلك لا تلحظه العين البشرية؛ ولا تلم به النظرة البشرية.. إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده؛ المشرف على كل شيء، المحيط بكل شيء.. الحافظ لكل شيء، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء.. الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب..
والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيدا حدود التصور البشري، وحدود التعبير البشري أيضا. ويعلمون -من تجربتهم البشرية- أن مثل هذا المشهد، لا يخطر على القلب البشري؛ كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضا.. والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلا!
وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم..
كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته، فنرى آفاقا من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر، على هذا المستوى السامق:
(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو).. آماد وآفاق وأغوار في "المجهول "المطلق. في الزمان والمكان، وفي الماضي والحاضر والمستقبل، وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان..
(ويعلم ما في البر والبحر).. آماد وآفاق وآغوار في "المنظور"، على استواء وسعة وشمول.. تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب.
(وما تسقط من ورقة إلا يعلمها).. حركة الموت والفناء؛ وحركة السقوط والانحدار، من علو إلى سفل، ومن حياة إلى اندثار.
(ولا حبة في ظلمات الأرض).. حركة البزوغ والنماء، المنبثقة من الغور إلى السطح، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق.
(ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).. التعميم الشامل، الذي يشمل الحياة والموت، والازدهار والذبول؛ في كل حي على الإطلاق..
فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال؟.. من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله، في مثل هذا النص القصير.. من؟ إلا الله!
(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو)..
نقف لنقول كلمة عن (الغيب) و (مفاتحه) واختصاص الله -سبحانه -"بالعلم "بها.. ذلك أن حقيقة الغيب من" مقومات التصور الإسلامي "الأساسية؛ لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية؛ ومن قواعد" الإيمان "الرئيسية.. وذلك أن كلمات (الغيب) و" الغيبية "تلاك في هذه الأيام كثيرا- بعد ظهور المذهب المادي -وتوضع في مقابل" العلم "و" العلمية".. والقرآن الكريم يقرر أن هناك "غيبا لا يعلم مفاتحه" إلا الله. ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل.. وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو- سبحانه -من طاقته ومن حاجته. وأن الناس لا يعلمون -فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه- إلا ظنا، وأن الظن لا يغني من الحق شيئا.. كما يقرر -سبحانه- أن الله قد خلق هذا الكون، وجعل له سننا لا تتبدل؛ وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها؛ ويتعامل معها -في حدود طاقته وحاجته- وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينا وتأكدا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق.. دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها، بحقيقة "الغيب" المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولا، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من الله، ينشى ء هذا الحدث ويبرزه للوجود.. في تناسق تام في العقيدة الإسلامية، وفي تصور المسلم الناشئ من حقائق العقيدة..
فهذه الحقائق بجملتها -على هذا النحو المتعدد الجوانب المتناسق المتكامل- تحتاج منا هنا -في الظلال- إلى كلمة نحاول بقدر الإمكان أن تكون مجملة، وألا تخرج عن حدود المنهج الذي اتبعناه في الظلال أيضا.
إن الله سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب؛ فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية:
(الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين: الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون).. [البقرة: 5 -1].
والإيمان بالله- سبحانه -هو إيمان بالغيب. فذات الله- سبحانه -غيب بالقياس إلى البشر؛ فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب، يجدون آثار فعله، ولا يدركون ذاته، ولا كيفيات أفعاله.
والإيمان بالآخرة كذلك، هو إيمان بالغيب. فالساعة بالقياس إلى البشر غيب، وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن، تصديقا لخبر الله سبحانه.
والغيب الذي يتحقق الإيمان بالتصديق به يشمل حقائق أخرى يذكرها القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وعقيدتهم الشاملة:
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون. كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. لا نفرق بين أحد من رسله. وقالوا: سمعنا وأطعنا. غفرانك ربنا، وإليك المصير). [البقرة: 285].
فنجد في هذا النص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كذلك، كل آمن بالله- وهو غيب -وآمن بما أنزل الله على رسوله- وما أنزل الله على رسوله فيه جانب من إطلاعه صلى الله عليه وسلم على جانب من الغيب بالقدر الذي قدره الله -سبحانه- كما قال في الآية الأخرى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول).. [الجن: 27 -26].
وآمن بالملائكة- وهي غيب -لا يعرف عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله، على قدر طاقتهم وحاجتهم.
ويبقى من الغيب الذي لا يقوم الإيمان إلا بالتصديق به: قدر الله- وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع -كما جاء في حديث الإيمان:"... والقدر خيره وشره"... [اخرجه الشيخان] "
على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب.. غيب في الماضي وغيب في الحاضر، وغيب في المستقبل.. غيب في نفسه وفي كيانه، وغيب في الكون كله من حوله.. غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره، وغيب في طبيعته وحركته.. غيب في نشأة الحياة وخط سيرها، وغيب في طبيعتها وحركتها.. غيب فيما يجهله الإنسان، وغيب فيما يعرفه كذلك!
ويسبح الإنسان في بحر من المجهول.. حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانه هو ذاته فضلا على ما يجري حوله في كيان الكون كله؛ وفضلا عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله: ولكل ذره، وكل كهرب من ذرة؛ وكل خلية وكل جزئي من خلية!
إنه الغيب.. إنه المجهول.. والعقل البشري- تلك الذبالة القريبة المدى -إنما يسبح في بحر المجهول. فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم. ولولا عون الله له، وتسخير هذا الكون، وتعليمه هو بعض نواميسه، ما استطاع شيئا.. ولكنه لا يشكر.. (وقليل من عبادي الشكور).. بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف الله له من السنن، وبما آتاه من العلم القليل.. يتبجح فيزعم أحيانا أن "الإنسان يقوم وحده" ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه! ويتبجح أحيانا فيزعم أن "العلم" يقابل "الغيب" وأن "العلمية" في التفكير والتنظيم تقابل "الغيبية" وأنه لا لقاء بين العلم والغيب؛ كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية!
فلنلق نظرة على وقفة "العلم" أمام "الغيب".. في بحوث وأقوال" العلماء "من بني البشر أنفسهم- بعد أن نقف أمام كلمة الفصل التي قالها العليم الخبير عن علم الإنسان القليل -(وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا)... [الإسراء: 85] (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى).. [النجم: 29] وأن الغيب كله لله: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) [الأنعام: 59] وأن الذي يعلم الغيب هو الذي يرى: (أعنده علم الغيب فهو يرى؟).. [النجم: 35]... وهي ناطقة بذاتها عن مدلولاتها..
فلنلق نظرة على وقفة" العلم "أمام" الغيب "في بحوث وأقوال العلماء من بني الإنسان لا لنصدق بها كلمة الفصل من الله سبحانه- فحاشا للمؤمن أن يصدق قول الله بقول البشر -ولكننا نقف هذه الوقفة لنحاكم الذين يلوكون كلمات العلم والغيب، والعلمية والغيبية، إلى ما يؤمنون هم به من قول البشر! ليعلموا أن عليهم هم أن يحاولوا" الثقافة "و" المعرفة "ليعيشوا في زمانهم؛ ولا يكونوا متخلفين عن عقليته ومقررات تجاربه!
وليستيقنوا أن" الغيب "هو الحقيقة" العلمية "الوحيدة المستيقنة من وراء كل التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته! وأن" العلمية "في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماما" للغيبية".. أما الذي يقابل الغيبية حقا فهو "الجهلية "!!! الجهلية التي تعيش في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر- ربما -ولكنها لا تعيش في القرن العشرين!!!
عالم معاصر- من أمريكا -يقول عن" الحقائق "التي يصل إليها" العلم "بجملتها:
" إن العلوم حقائق مختبرة؛ ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته. ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود. فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ. وهي تبدأ بالاحتمالات، وتنتهي بالاحتمالات كذلك.. وليس باليقين.. ونتائج العلوم بذلك تقريبية، وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات؛ ونتائجها اجتهادية، وقابلة للتعديل بالإضافة والحذف، وليست نهائية. وإننا لنرى أن العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول: إن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن، ويترك الباب مفتوحا لما قد يستجد من التعديلات".
وهذه الكلمة تلخص حقيقة جميع النتائج التي وصل إليها العلم، والتي يمكن أن يصل إليها كذلك. فطالما أن" الإنسان "بوسائله المحدودة، بل بوجوده المحدود بالقياس إلى الأزل والأبد هو الذي يحاول الوصول إلى هذه النتائج؛ فإنه من الحتم أن تكون مطبوعة بطابع هذا الإنسان، ولها مثل خصائصه من كونها محدودة المدى؛ وقابلة للخطأ والصواب، والتعديل والتبديل..
على أن الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى أية نتيجة هي التجربة والقياس. فهو يجرب، ثم يعمم النتيجة التي يصل إليها عن طريق القياس؛ والقياس- باعتراف العلم وأهله -وسيلة تؤدي إلى نتيجة ظنية؛ ولا يمكن أبدا أن تكون قطعية ولا نهائية. والوسيلة الأخرى- وهي التجربة والاستقصاء بمعنى تعميم التجربة على كل ما هو من جنس ما وقعت عليه التجارب في جميع الأزمنة وفي جميع الظروف -وسيلة غير مهيأة للإنسان. وهي إحدى الوسائل الموصلة إلى نتائج قطعية. ولا سبيل إلى نتيجة قطعية وحقيقة يقينية إلا عن طريق هدى الله الذي يبينه للناس. ومن ثم يبقى علم الإنسان فيما وراء ما قرره الله له، علما ظنيا لا يصل إلى مرتبة اليقين بحال!
على أن" الغيب "ضارب حول الإنسان فيما وراء ما يصل إليه علمه الظني ذاك...
هذا الكون من حوله.. إنه ما يزال يضرب في الفروض والنظريات حول مصدره ونشأته وطبيعته وحول حركته، وحول" الزمان "ما هو وحول" المكان "وارتباطه بالزمان وارتباط ما يجري في الكون بالزمان والمكان.
والحياة. ومصدرها. ونشأتها. وطبيعتها. وخط سيرها. والمؤثرات فيها. وارتباطها بهذا الوجود" المادي "! إن كان هناك في الكون مادة على الإطلاق ذات طبيعة غير طبيعة "الفكر" وغير طبيعة الطاقة على العموم!
" والإنسان "ما هو؟ ما الذي يميزه من المادة؟ وما الذي يميزه عن بقية الأحياء؟ وكيف جاء إلى هذه الأرض وكيف يتصرف؟ وما" العقل "الذي يتميز به ويتصرف؟ وما مصيره بعد الموت والانحلال؟..
بل هذا الكيان الإنساني ذاته، ما الذي يجري في داخله من تحليل وتركيب في كل لحظة؟ وكيف يجري؟..
إنها كلها ميادين للغيب، يقف العلم على حافاتها، ولا يكاد يقتحهما، حتى على سبيل الظن والترجيح. وإن هي إلا فروض واحتمالات!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عُطف على جملة: {والله أعلم بالظالمين} [الأنعام: 58] على طريقة التخلّص. والمناسبة في هذا التخلّص هي الإخبار بأنّ الله أعلم بحالة الظالمين، فإنّها غائبة عن عيان الناس، فالله أعلم بما يناسب حالهم من تعجيل الوعيد أو تأخيره، وهذا انتقال لبيان اختصاصه تعالى بعلم الغيب وسعة علمه ثم سعة قدرته وأنّ الخلق في قبضة قدرته. وتقديم الظرف لإفادة الاختصاص، أي عنده لا عند غيره. والعندية عندية علم واستئثار وليست عندية مكان.
والمفاتح جمع مِفْتَح بكسر الميم وهو الآلة التي يفتح بها المغلق، وتسمّى المِفتاح. وقد قيل: إنّ مفتح أفصح من مفتاح، قال تعالى: {وآتيناه من الكنوز ما إنّ مَفَاتِحَه لتنوء بالعُصْبَة أولي القوة} [القصص: 76].
والغيب ما غاب على علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى علمه، وذلك يشمل الأعيان لمغيَّبة كالملائكة والجنّ، والأعراض الخفيَّة، ومواقيت الأشياء.
و {مفاتح الغيب} هنا استعارة تخييلية تنبني على مكنية بأن شُبِّهت الأمور المغيّبة عن الناس بالمتاع النفيس الذي يُدّخر بالمخازن والخزائن المستوثق عليها بأقفال بحيث لا يعلم ما فيها إلاّ الذي بيده مفاتحها. وأثبتت لها المفاتِح على سبيل التخييلية. والقرينة هي إضافة المفاتح إلى الغيب، فقوله: {وعنده مفاتح الغيب} بمنزلة أن يقول: عنده علم الغيب الذي لا يعلمه غيرُه.
ومفاتح الغيب جَمْع مضاف يعمّ كلّ المغيّبات، لأنّ علمها كلّها خاصّ به تعالى، وأمّا الأمور التي لها أمارات مثل أمارات الأنواء وعلامات الأمراض عند الطبيب فتلك ليْست من الغيب بل من أمور الشهادة الغامضة. وغمُوضُها متفاوت والناس في التوصّل إليْها متفاوتون ومعرفتهم بها من قبيل الظنّ لا من قبيل اليقين فلا تسمّى عِلماً، وقيل: المفاتح جمع مَفْتَح بفتح الميم وهو البيت أو المخزن الذي من شأنه أن يُغلق على ما فيه ثم يُفْتح عند الحاجة إلى ما فيه، ونقل هذا عن السدّي، فيكون استعارة مصرّحة والمشبَّه هو العلم بالغيب شبّه في إحاطته وحَجبه المغيِّبات ببيت الخزم تشبيه معقول بمحسوس.
وجملة {لا يعلمها إلاّ هو} مبينة لمعنى {عندَه}، فهي بيان للجملة التي قبلها ومفيدة تأكيداً للجملة الأولى أيضاً لرفع احتمال أن يكون تقديم الظرف لمجرّد الاهتمام فأعيد ما فيه طريق مُتَعيِّن كونُه للقصر. وضمير {يعلمها} عائد إلى {مفاتح الغيب} على حذف مضاف من دلالة الاقتضاء. تقديره: لا يعلم مكانَها إلاّ هو، لأنّ العلم لا يتعلّق بذوات المفاتح، وهو ترشيح لاستعارة مفاتح الغيب للعلم بالمغيّبات، ونفيُ علم غيره لها كناية عن نفي العلم بما تغلق عليه المفاتح من علم المغيّبات.
ومعنى: {لا يعلمها إلاّ هو} أي علماً مستقلاً به، فأمَّا ما أطْلع عليه بعضَ أصفيائه، كما قال تعالى: {عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً إلاّ مَن ارتضى مِن رسول} [الجن: 26] فذلك علم يحصل لمن أطلعه بإخبار منه فكان راجعاً إلى علمه هو. والعلم معرفة الأشياء بكيفية اليقين.
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مفاتح الغيب خمس: إنّ الله عندَه علمُ الساعة، ويُنزّل الغيث، ويعلَم ما في الأرحام، وما تدري نفس مَاذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت إنّ الله عليم خبير}.
وجملة: {ويعلم ما في البرّ والبحر} عطف على جملة {لا يعلمها إلاّ هو}، أو على جملة {وعنده مفاتح الغيب}، لأنّ كلتيهما اشتملت على إثبات علم لله ونفي علم عن غيره، فعُطفت عليهما هذه الجملة التي دلَّت على إثبات علم لله تعالى، دون نفي علم غيره وذلك علم الأمور الظاهرة التي قد يتوصّل الناس إلى علم بعضها، فعطفُ هذه الجملة على جملة {وعنده مفاتح الغيب} لإفادة تعميم علمه تعالى بالأشياء الظاهرة المتفاوتة في الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر للناس.
وظهور ما في البرّ للناس على الجملة أقوى من ظهور ما في البحر. وذكر البرّ والبحر لقصد الإحاطة بجميع ما حوته هذه الكرة، لأنّ البرّ هو سطح الأرض الذي يمشي فيه الحيوان غير سابح، والبحر هو الماء الكثير الذي يغمر جزءاً من الأرض سواء كان الماء ملحاً أم عذباً. والعرب تسمِّي النهر بحراً كالفرات ودجلة. والموصول للعموم فيشمل الذوات والمعاني كلّها.
وجملة: {وما تسقط من ورقة} عطف على جملة: {ويعلم ما في البرّ والبحر} لقصد زيادة التعميم في الجزئيات الدقيقة. فإحاطة العلم بالخفايا مع كونها من أضعف الجزئيات مؤذن بإحاطة العلم بما هو أعظم أولى به. وهذه من معجزات القرآن فإنّ الله علِمَ ما يعتقده الفلاسفة وعلم أنْ سيقول بقولهم من لا رسوخ له في الدين من أتباع الإسلام فلم يترك للتأويل في حقيقة علمه مجالاً، إذ قال: {وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ولا حبَّة في ظُلمات الأرض} كما سنبيّن الاختيار في وجه إعرابه.
والمراد بالورقة ورقة من الشّجر. وحرف (مِنْ) زائد لتأكيد النفي ليفيد العموم نصّاً. وجملة {يعلمها} في موضع الحال من {ورقة} الواقعة في حيِّز النفي المستغنية بالعموم عن الصفة. وذلك لأنّ الاستثناء مفرّغ من أحوال، وهذه الحال حال لازمة بعد النفي حصل بها مع الفعل المنفي الفائدة الاستثناء من عموم الأحوال، أي ما تسقط من ورقة في حالة إلاّ حالة يعلمها.
والأظهر في نظم قوله: {وما تسقط من ورقة} أن يكون {ورقة} في محلّ المبتدأ مجرور بِ {منْ} الزّائدة، وجملة {تسْقط} صفة ل {ورقة} مقدّمة عليها فتُعرب حالاً، وجملة {إلاّ يعلمها} خبر مفرّغ له حرفُ الاستثناء. {ولا حبّة} عطف على المبتدأ بإعادة حرف النفي، و {في ظلمات الأرض} صفة ل {حبّة}، أي ولا حبّة من بذور النبت مظروفة في طبقات الأرض إلى أبعد عمق يمكن، فلا يكون {حبَّة} معمولاً لفعل {تسقط} لأنّ الحبَّة التي تسقط لا تبلغ بسقوطها إلى ظلمات الأرض.
{ولا رطب ولا يابس} معطوفان على المبتدأ المجرور ب {من}. والخبر عن هذه المبتدآت الثلاثة هو قوله: {إلاّ في كتاب مبين} لوروده بعد الثلاثة، وذلك ظاهر وقُوع الإخبار به عن الثلاثة، وأنّ الخبر الأول راجع إلى قوله: {من ورقة}.
والمراد بالكتاب المبين العلم الثابت الذي لا يتغيّر، وما عسى أن يكون عند الله من آثار العلم من كتابة أو غيرها لم يطلعنا على كنهها.
وقيل: جرّ {حبَّة} عطف على {ورقة} مع إعادة حرف النفي، و {في ظلمات الأرض} وصف ل {حبّة}. وكذلك قوله: {ولا رطب ولا يابس} بالجرّ عطفاً على {حبَّة} و {ورقة}، فيقتضي أنَّها معمولة لفعل {تسقط}، أي ما يَسقط رطب ولا يابس، ومقيَّدة بالحال في وقوله: {إلاّ يعلمها}.
وقوله: {إلاّ في كتاب مبين} تأكيد لقوله: {إلاُّ يعلمها} لأنّ المراد بالكتاب المبين علم الله تعالى سواء كان الكتاب حقيقة أم مجازاً عن الضبط وعدم التبديل. وحسَّن هذا التأكيد تجديد المعنى لبعد الأول بالمعطوفات وصفاتها، وأعيد بعبارة أخرى تفنّناً.
وقد تقدّم القول في وجه جمع {ظلمات} عند قوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} في هذه السورة [1]. ومبين إمّا من أبان المتعدّي، أي مبين لبعض مخلوقاته ما يريده كالملائكة، أو من أبَانَ القاصر الذي هو بمعنى بان، أي بيّن، أي فصل بما لا احتمال فيه ولا تردّد.
وقد علم من هاته الآيات عموم علمه تعالى بالكلِّيّات والجزئيّات. وهذا متَّفق عليه عند أهل الأديان دون تصريح به في الكتب السابقة وما أعلنه إلاّ القرآن في نحو قوله: {وهو بكلّ شيء عليم} [البقرة: 29]. وفيه إبطال لقول جمهور الفلاسفة أنّ الله يعلم الكلِّيّات خاصّة ولا يعلم الجزئيّات، زعماً منهم بأنَّهم ينزّهون العلم الأعلى عن التجزّي؛ فهم أثبتوا صفة العلم لله تعالى وأنكروا تعلّق علمه بجزئيات الموجودات. وهذا هو المأثور عنهم عند العلماء. وقد تأوّله عنهم ابن رشد الحفيدُ ونصير الدين الطُوسي. وقال الإمام الرازي في « المباحث المشرقية»: ولا بدّ من تفصيل مذهب الفلاسفة فإنّ اللائق بأصولهم أن يقال: الأمور أربعة أقسام؛ فإنَّها إمَّا أن لا تكون متشكِّلة ولا متغيِّرة، وإمَّا أن تكون متشكّلة غير متغيِّرة، وإمَّا أن تكون متغيِّرة غير متشكّلة؛ وإمَّا أن تكون متشكّلة ومتغيّرة معاً. فأمَّا ما لا تكون متشكِّلة ولا متغيِّرة فإنَّه تعالى عالم به سواء كان كليّاً أو جزئياً. وكيف يمكن القول بأنَّه تعالى لا يعلم الجزئيّات منها مع اتِّفاق الأكثر منهم على علمه تعالى بذاته المخصوصة وبالعقول.
وأمّا المتشكِّلة غير المتغيِّرة وهي الأجرام العلوية فهي غير معلومة له تعالى بأشخاصها عندهم، لأنّ إدراك الجسمانيات لا يكون إلاّ بالآت جسمانية.
وأمّا المتغيِّرة غير المتشكّلة فذلك مثل الصور والأعراض الحادثة والنفوس الناطقة، فإنَّها غير معلومة له لأنّ تعلّقها يحوج إلى آلة جسمانية بل لأنَّها لمّا كانت متغيّرة يلزم من تغيّرها العلم.
وأمّا ما يكون متشكِّلاً ومتغيِّراً فهو الأجسام الكائنة الفاسدة. وهي يمتنع أن تكون مُدْركة له تعالى للوجهين (أي المذكورين في القسمين الثاني والثالث) اه.
وقد عُدّ إنكار الفلاسفة أنّ الله يعلم الجزئيَّات من أصول ثلاثة لهم خالفت المعلوم بالضرورة من دين الإسلام. وهي: إنكار علم الله بالجزئيَّات؛ وإنكار حشر الأجساد، والقول بقدم العالم. ذكر ذلك الغزالي في « تهافت الفلاسفة» فمن يوافقهم في ذلك من المسلمين يعتبر قوله كفراً، لكنَّه من قبيل الكفر باللازم فلا يعتبر قائله مرتدّاً إلاّ بعد أن يوقف على ما يفضي إليه قولُه ويأبى أن يرجع عنه فحينئذٍ يستتاب ثلاثاً فإن تاب وإلاّ حكم بردّته.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وبعض المفسرين يرى أن الرطب واليابس في كل الوجود فهو يعلم اللين والجامد في كل شيء، فهو يعلم ما في باطن الأرض من فلزات ومعادن كريمة، ومعادن سائلة وما يكون في باطن الأرض من أحجار نباتية وغير نباتية وسائلة وجامدة. وإني أرى ذلك الرأي وأختاره، ليكون ذلك تقريبا لأكبر قدر من النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ سقوط الورقة في الحقيقة هو لحظة موتها، بينما سقوط البذرة في مكمنها من الأرض هو لحظة بدء حياتها، وما من أحد غير الله يعلم بنظام هذا الموت وهذه الحياة، وحتى أنّ كل خطوة تخطوها البذرة نحو حياتها وانبعاثها وتكاملها خلال اللحظات والساعات، جلية في علم الله.