ثم بين - سبحانه - الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ، ونصرتهم عليهم فقال : { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } .
أى : فعل ما فعل من النصرة والظفر بالأعداد { لِيُحِقَّ الحق } أى : ليثبت الدين الحق دين الإِسلام { وَيُبْطِلَ الباطل } أى : ويمحق الدين الباطل وهو ما عليه المشركون من كفر وطغيان .
وقوله : { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } بيان لنفاذ إرادته - سبحانه - أى : اقتضت إرادته أن يعز الدين الحق وهو دين الإِسلام ، وأن يمحق ما سواه ، ولو كره المشركون ذلك ، لأن كراهيتهم لا وزن لها ، ولا تعويل عليها . .
وبهذا يتبين أنه لا تكرار بين الآيتيتن السابقتين ، لأن المراد بإحقاق الحق في قوله - تعالى - { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } : إعلاؤه وإظهاره ونصرته عن طريق قتال المؤمنين للمشركين .
والمراد بإحقاق الحق في قوله بعد ذلك في الآية الثانية { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل } : تثبيت دين الإِسلام وتقويته وإظهار شريعته ، ويمحق دين الكفر .
فكان ما اشتملت عليه الآية الأولى هو الوسيلة والسبب وما اشتملت عليه الآية الثانية هو المقصد والغاية .
وقد بسط هذا المعنى الإِمام الرازى فقال ما ملخصه : فإن قيل : أليس قوله : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } ثم قوله بعد ذلك : { لِيُحِقَّ الحق } تكرارا محضا ، فالجواب : ليس ههنا تكرير ؛ لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء ، والمراد بالثانى ؛ تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة ، لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين ، كان سببا لعزة الدين وقوته ، ولهذا السبب قرنه بقوله { وَيُبْطِلَ الباطل } الذي هو الشرك ، وذلك في مقابلة { الحق } الذي هو الدين والإِيمان .
وإلى هنا نرى السورة الكريمة قد حدثتنا في الأربع الآيات الأولى منها عن حكم الله - تعالى - في غنائم بدر بعد أن اختلف بعض المؤمنين في شأنها ، وعن صفات المؤمنين الصادقين الذين يستحقون من الله - تعالى - أرفع الدرجات .
ثم حدثتنا في الأربع الثانية منها عن حال بعض المؤمنين عندما دعاهم النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى قتال أعدائهم ، وعن مجادلتهم له في ذلك ، وعن إيثارهم المال على القتال ، وعن إرادة ما هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم ، وفى ذلك ما فيه من العبر والعظات لقوم يعقلون .
( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ، ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ، ولو كره المجرمون ) . .
لقد أراد الله - وله الفضل والمنة - أن تكون ملحمة لا غنيمة ؛ وأن تكون موقعة بين الحق والباطل ، ليحق الحق ويثبته ، ويبطل الباطل ويزهقه . وأراد أن يقطع دابر الكافرين ، فيقتل منهم من يقتل ، ويؤسر منهم من يؤسر ، وتذل كبرياؤهم ، وتخضد شوكتهم ، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله ، ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله ، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وتحطيم طاغوت الطواغيت . وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف - تعالى الله عن الجزاف - وبالجهد والجهاد وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال .
نعم . أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة ؛ وأن تصبح دولة ؛ وأن يصبح لها قوة وسلطان . وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها . فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها ! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة ، وليس بالمال والخيل والزاد . . . إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد . وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية ، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي . ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله ؛ ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة ؛ ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد . . وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان .
وينظر الناظر اليوم ، وبعد اليوم ، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها . بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير . . ينظر فيرى الآماد المتطاولة ؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم ؛ وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى . بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال ، ولا بخيال !
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها ? لقد كانت تمضي - لو كانت لهم غير ذات الشوكة -قصة غنيمة . قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها ! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة . قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل . قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد ؛ والحق في قلة من العدد ، وضعف في الزاد والراحلة . قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله ، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي . بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال ! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي ، وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها ، قد انتصرت على نفسها ، وانتصرت على من فيها ، وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل ؛ فقلبت بيقينها ميزان الظاهر ؛ فإذا الحق راجح غالب .
ألا إن غزوة بدر - بملابساتها هذه - لتمضي مثلاً في التاريخ البشري . ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة ؛ وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة . . الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية . . ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان ، لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها . فهي آية من آيات الله ، وسنة من سننه الجارية في خلقه ، ما دامت السماوات والأرض . . ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض - بعد ما غلبت عليها الجاهلية - لجديرة بأن تقف طويلاً أمام [ بدر ] وقيمها الحاسمة التي تقررها ؛ والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم :
( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم . ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ، ولو كره المجرمون ) . . .
إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع ، قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر . ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة ، ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض ، وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض ، تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية . . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.