معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

قوله تعالى : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } ، اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله { كما أخرجك ربك } قال المبرد : تقديره ، الأنفال لله وللرسول وإن كرهوا ، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا ، وقيل : تقديره امض لأمر الله في الأنفال وإن كرهوا كما أمضيت لأمر الله في الخروج من البيت لطلب العير وهم كارهون . وقال عكرمة : معناه فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن ذلك خير لكم ، كما أن إخراج محمد صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق خير لكم ، وإن كرهه فريق منكم . وقال مجاهد : معناه كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق منهم ، كذلك يكرهون القتال ويجادلون فيه . وقيل : هو راجع إلى قوله : { لهم درجات عند ربه } ، تقديره : وعد الدرجات لهم حق ينجزه الله عز وجل كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، فأنجز الوعد بالنصر والظفر . وقيل : الكاف بمعنى على ، تقديره : امض على الذي أخرجك ربك . وقال أبو عبيده : هي بمعنى القسم ، مجازها : والذي أخرجك ، لأن ( ما ) في موضع الذي ، وجوابه ( يجادلونك ) ، وعليه يقع القسم ، تقديره : يجادلونك والله الذي أخرجك ربك من بيتك بالحق . وقيل : الكاف بمعنى إذ ، تقديره : واذكر إذ أخرجك ربك . وقيل : المراد بهذا الإخراج هو إخراجه من مكة إلى المدينة ، والأكثرون على أن المراد منه إخراجه من المدينة إلى بدر ، أي : كما أمرك ربك بالخروج من بيتك إلى المدينة { بالحق } قيل : بالوحي لطلب المشركين .

قوله تعالى : { وإن فريقا من المؤمنين } ، منهم .

قوله تعالى : { لكارهون } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

ثم أخذت السورة - بعد هذا الافتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه وأحكمه . . في الحديث عن الغزوة التي كان من ثمارها تلك الأنفال . فاستعرضت مجمل أحداثها ، وصورت نفوس فريق من المؤمنين الذين اشتركوا فيها أكمل تصوير ، استمع معى - أخى القارئ - بتدبر وتعقل إلى قوله - تعالى - : { كَمَآ أَخْرَجَكَ . . . كَرِهَ المجرمون } .

الكاف في قوله - تعالى - : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } بمعنى مثل ، أى : للتشبيه وهى خبر لمبتدأ محذوف هو المشبه ، وما بعدها هو المشبه به ، ووجه الشبه مطلق الكراهة ، وما ترتب على ذلك من خير للمؤمنين .

والمعنى : حال بعض أهل بدل في كراهتهم تقسيمك الغنائم بالسوية ، مثل حال بعضهم في كراهة الخروج للقتال ، مع ما في هذه القسمة والقتال من خير وبركة .

ونحن عندما نستعرض أحداث غزوة بدر ، نرى أنه قد حدث فيها أمران يدلان على عدم الرضا من فريق من الصحابة ، ثم أعقبها الرضا والإِذعان والتسليم لحكم الله ورسوله .

أما الأمر الأول فهو أن فريقا من الصحابة - وأكثرهم من الشبان - كانوا يرون أن قسمة الغنائم بالسوية فيها إجحاف بحقهم ، لأنهم هم الذين قاموا بالنصيب الأوفر في القتال ، وأن غيرهم لم يكن له بلاؤهم - كما سبق أن بينا في أسلوب نزول قوله - تعالى - { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بدر بين الجميع بالسوية ، كما أمره الله - تعالى - .

وكان هذا التقسيم خيراً للمؤمنين ، إذ أصلح الله به بينهم ، وردهم إلى حالة الرضا والصفاء . .

وأما الأمر الثانى : فهو أن جماعة منهم كرهوا قتال قريش بعد نجاة العير التي خرجوا من أجل الحصول عليها ، وسبب كراهيته لذلك أنهم خرجوا أجل الحصول عليها ، وسبب كراهيتهم لذلك أنهم خرجوا بدون استعداد للقتال ، لا من حيث العدد ولا من حيث العدد .

ولكنهم استجابوا بعد قليل لما نصحهم به رسولهم - صلى الله عليه وسلم - من وجوب قتال قريش . . وكان في هذه الاستجابة نص الإِسلام نصر الإِسلام ، ودحر الطغيان .

قال ابن كثير : روى الحافظ بن مردويه - بسنده - عن أبى أيوب الأنصارى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بالمدينة : " " إنى أخبرت عن عير أبى سفيان بأنها مقبلة ، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمنا إياها ؟ فقلنا نعم . فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا :

" ما ترون في قتال القوم ؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم " ؟ فقلنا : ما لنا طاقة بقتال العدو ولكننا أردنا العير ، ثم قال : " ما ترون في تقال القوم " ؟ فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال بنو إسرائيل لموسى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ . . } ولكن إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون " .

وفى رواية أن أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ تكلموا بكلام سر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

هذا ، وما قررناه قبل ذلك من أن الكاف في قوله - تعالى - { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ . . } بمعنى مثل ، هو ما نرجحه من بين أقوال المفسرين التي أوصلها بعضهم إلى عشرين قولا .

قال الجمل ، قوله { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ . . } فيه عشرون وجهاً ، أحدهما : أن الكاف نعت لمصدر محذوف تقديره ؛ الأنفعال ثابتة لله ثوبتاً لكما أخرجك ربك ، أى : ثبوتاً بالحق كإخراجك من بيتك ، يعنى أنه لا مرية في ذلك .

الثانى : أن تقديره وأصلحوا ذات بينكم إصلاحاً كما أخرجك ، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد .

الثالث : تقديره : وأطيعوا الله ورسوله طاعة ثابتة محققة كما أخرجك أى : كما أن إخراج الله إياك لا مرية فيه ولا شبهة . الخ . .

والحق أن معظم الوجوه النحوية التي ذكرها الجمل وغيره من المفسرين - كأبى حيان والآلوسى - أقول : إن معظم هذه الوجوه يبدو عليها التكلف ومجانبة الصواب .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد أهمل أكثر ما ذكره المفسرون في ذلك ، واكتفى بوجهين فقال :

قوله : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } . فيه وجهان أحدهما : أن يرتفع محل الكاف على أنه مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال كحال إخراجك . يعنى أن حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيل الغزوة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب .

والثانى : أن ينتصب على أنه صفة مقدر الفعل المقدر في قوله : { الأنفال للَّهِ والرسول } أى : الأنفال استقرت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون .

والوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما صاحب الكشاف هو الذي نميل إليه ، وهو الذي ذكرناه قبل ذلك بصورة أكثر تفصيلا .

وأضاف - سبحانه - الإِخراج إلى ذاته فقال : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } للإِشعار بأن هذا الإِخراج كان بوحى منه - سبحانه - وبأنه هو الراعى له في هذا الخروج .

والمراد بالبيت في قوله : { مِن بَيْتِكَ } مسكنه - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أو المراد المدينة نفسها ، لأنها مثواه ومستقرة ، فهى في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه .

وقوله : { بالحق } متعلق بقوله : { أَخْرَجَكَ } والباء للسببية ، أى : أخرجك بسبب نصرة الحق ، وإعلاء كلمة الدين ، وإزهاق باطل المبطلين .

ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من مفعول أخرجك ، وتكون الباء للملابسة ، أى : أخرجك إخراجاً متلبساً بالحق الذي لا يحوم حوله باطل .

قال الآلوسى : وقوله : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } ، أى : للخروج ، إما لعدم الاستعداد للقتال ، أو للميل للغنيمة ، أو للنفرة الطبيعية عنه ، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار ، فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة .

والجملة في موضع الحال ، وهى حال مقدرة ؛ لأن الكراهة وقعت بعد الخروج .

والمعنى الإِجمال للآية الكريمة : حال بعض المسلمين في بدر في كراهة قسمة الغنيمة بالسوية بينهم ، مثل حال فريق منهم في كراهة الخروج للقتال ، مع أنه قد ثبت أن هذه القسمة ولك القتال ، كان فيهما الخير لهم ، إذ الخير فيما قدره الله وأراده ، لا فيما يظنون .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

5

( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ؛ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) . .

إن رد الأنفال لله والرسول ، وقسمتها بينهم على السواء ، وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية . . ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها . . إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك - بالحق - لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة ؛ وكراهة بعض المؤمنين للقتال . . وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال . .

ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة - من كتب السيرة - أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله [ ص ] الناس معه في أمر القتال ، بعدما أفلتت القافلة ، وتبين أن قريشاً قد جاءت بشوكتها وقوتها . وأن المقداد بن عمرو قام فقال : يا رسول الله ، امض لأمر الله ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . . . الخ " . وأن هذا كان كلام المهاجرين . فلما كرر رسول الله [ ص ] القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم ، فقام سعد بن معاذ فقال كلاماً طويلاً قاطعاً مطمئناً . .

ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر ، والذي قاله المقداد ، والذي قاله سعد بن معاذ - رضي الله عنهم - لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله [ ص ] فلقد كره بعضهم القتال ، وعارض فيه ، لأنهم لم يستعدوا لقتال ، إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير ؛ فلما أن علموا أن قريشاً قد نفرت بخيلها ورجلها ، وشجعانها وفرسانها ، كرهوا لقاءها كراهية شديدة ، هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة :

( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) !

روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره - بإسناده - عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله [ ص ] ونحن بالمدينة : " إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة ، فهل لكم أن نخرج قِبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها ? " فقلنا : نعم . فخرج وخرجنا . فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا : " ما ترون في قتال القوم ? إنهم قد أخبروا بخروجكم ! " فقلنا : لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ! ثم قال : " ما ترون في قتال القوم ? " فقلنا مثل ذلك : فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : ذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . . فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمرو أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ! قال : فأنزل الله على رسوله [ ص ] : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ) .