قوله تعالى : { قل } يا محمد لكفار مكة ، { ادعوا الذين زعمتم } أنهم آلهة ، { من دون الله } وفي الآية حذف ، أي : ادعوهم ليكشفوا الضر الذي نزل بكم في سني الجوع ، ثم وصفها فقال : { لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } من خير وشر ونفع وضر { وما لهم } أي : للآلهة ، { فيهما } في السموات والأرض ، { من شرك } من شركة ، { وما له } أي : وما لله ، { منهم من ظهير } عون .
ثم نجد السورة الكريمة بعد ذلك ، تلقن النبى صلى الله عليه وسلم الحجج التى تؤيد ما هو عليه من حق وصدق ، وتزهق ما عليه أعداؤه من باطل وكذب . . فتقول : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ . . . . العزيز الحكيم } .
والأمر بالدعاء فى قوله - سبحانه - : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله } للتوبيخ والتعجيز . ومفعولا { زَعَمْتُمْ } مخذوفان .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المزعومة بعد ذلك فى قوله - تعالى - : { لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض . . } .
أى : هؤلاء الشركاء لا يملكون شيئا ما قل أو كثر لا فى السماوات ولا فى الأرض ، بل الذى بملك كل شئ ، هو الله - تعالى - وحده .
فالجملة الكريمة مستأنفة لبيان حال هذه الآية ، وللكشف عن حقيقتها .
والتعبير بعدم ملكيتهم لمثقال ذرة ، المقصود به أنهم لا يملكون شيئا على الإِطلاق ، لأن مثقال الذرة أقل ما تصور فى الحقارة والقلة .
وذكر - سبحانه - السماوات والأرض لقصد التعميم ، إذ هما محل الموجودات الخارجية .
أى : لا يملكون شيئا ما فى هذا الكون العلوى والسفلى .
وبعد أن نفى عن الشركاء الملكية الخالصة لأى شئ فى هذا الكون ، أتبع ذلك بنفى ملكيتهم لشئ ولو على سبيل المشاركة ، فقال - تعالى - : { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } .
أى : أن هؤلاء الذين زعمتموهم شركاء لله - تعالى - فى العبادة ، لايمكون شيئا ما فى هذا الكون ملكية خاصة ، ولا يملكون شيئا ما - أيضا - على سبيل المشاركة لغيرهم . وليس لله - تعالى - أحد يعينه أو يظاهره فيما يريد من إيجاد أو إعدام ، بل الأمر كله إليه وحده .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد نفت عن تلك الآلهة المزعومة ، ملكية أى شئ فى هذا الكون ، سواء أكانت ملكية خالصة ، أم ملكية على سبيل المشاركة ، وأثبتت أن المالك والمتصرف فى هذا الكون إنما هو الله - تعالى - وحده ، دون أن يكون فى حاجة إلى عون من تلك الآلهة أو من غيرها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ } .
يقول تعالى ذكره : فهذا فعلُنا بولينا ومن أطاعنا ، داود وسليمان الذي فعلنا بهما من إنعامنا عليهما النعم التي لا كفاءَ لها إذ شكرانا ، وذاك فعلنا بسَبَإ الذين فعلنا بهم ، إذ بَطِروا نعمتنا ، وكذّبوا رسلنا ، وكفروا أيادَينا ، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك ، الجاحدين نعمنا عندهم : ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم لله شريك من دونه ، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا ، بالذين وصفنا أمرهم من إنعام أو إياس ، فإن لم يقدروا على ذلك فاعلموا أنكم مبطلون ، لأن الشركة في الربوبية لا تصلح ولا تجوز ، ثم وصف الذين يدعون من دون الله ، فقال : إنهم لا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض من خير ولا شرّ ولا ضرّ ولا نفع ، فكيف يكون إلها من كان كذلك . وقوله : وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ يقول تعالى ذكره : ولا هم إذ لم يكونوا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض ، منفردين بملكه من دون الله ، يملكونه على وجه الشّرِكة ، لأن الأملاك في المملوكات ، لا تكون لمالكها إلا على أحد وجهين : إما مقسوما ، وإما مُشَاعا يقول : وآلهتهم التي يدعون من دون الله ، لا يملكون وزن ذَرّة في السموات ولا في الأرض ، لا مُشاعا ولا مقسوما ، فكيف يكون من كان هكذا شريكا لمن له ملك جميع ذلك . وقوله : وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ يقول : وما لله من الاَلهة التي يدعون من دونه مُعِين على خلق شيء من ذلك ، ولا على حفظه ، إذ لم يكن لها ملك شيء منه مُشاعا ولا مقسوما ، فيقال : هو لك شريك من أجل أنه أعان وإن لم يكن له ملك شيء منه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلِ ادْعُوا الّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ لاَ يمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرّةٍ فِي السّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ يقول : ما لله من شريك في السماء ولا في الأرض وما لَهُ مِنْهمْ من الذين يدعون من دون الله مِن ظهيرٍ من عون بشيء .
كانت قصة سبا قد ضُربت مثلاً وعبرة للمشركين من قريش وكان في أحوالهم مثيل لأحوال المشركين في أمن بلادهم وتيسير أرزاقهم وتأمين سبلهم في أسفارهم مما أشار إليه قوله تعالى : { أو لم نمكن لهم حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص : 57 ] وقوله : { لإيلاف قريش } [ قريش : 1 ] إلى آخر السورة ، ثم فيما قابلوا به نعمة الله بالإِشراك به وكفران نعمته وإفحامهم دعاة الخير الملهَمين من لدنه إلى دعوتهم ، فلما تقضى خبرهم لينتقل منه إلى تطبيق العبرة على من قصد اعتبارهم انتقالاً مناسبته بينة وهو أيضاً عَوْد إلى إبطال أقوال المشركين ، وسيق لهم من الكلام ما هو فيه توقيف على أخطائهم ، وأيضاً فلما جرى من استهواء الشيطان أهل سبا فاتبعوه وكان الشيطان مصدر الضلال وعنصر الإِشراك أعقب ذكره بذكر فروعه وأوليائه .
وافتتح الكلام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما هو متتابع في بقية هذه الآيات المتتابعة بكلمة { قل } فأُمر بالقول تجديداً لِمعنى التبليغ الذي هو مهمة كل القرآن .
والأمر في قوله : { ادعوا } مستعمل في التخطئة والتوبيخ ، أي استَمِروا على دعائكم .
و{ الذين زعمتم من دون الله } معناه زعمتموهم أرباباً ، فحذف مفعولا الزعم : أما الأول فحذف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل قصداً لتخفيف الصلة بمتعلقاتها ، وأما الثاني فحذفه لدلالة صفته عليه وهي { من دون الله } .
و{ من دون الله } صفة لمحذوف تقديره : زعمتم أولياء .
ومعنى { من دون الله } أنهم مبتدأُون من جانب غيرِ جانب الله ، أي زعمتموهم آلهة مبتدئين إياهم من ناحية غير الله لأنهم حين يعبدونهم قد شغلوا بعبادتهم ففرطوا في عبادة الله المستحق للعبادة وتجاوزوا حق إلهيته في أحوال كثيرة وأوقات وفيرة .
وجملة { لا يملكون } مبينة لما في جملة { ادعوا الذين زعمتم } من التخطئة .
وقد نفي عنهم مِلك أحقر الأشياء وهو ما يساوي ذرّة من السماء والأرض .
والذّرة : بيضة النمل التي تبدو حبيبة صغيرة بيضاء ، وتقدم عند قوله تعالى : { وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة } في سورة يونس ( 61 ) . والمراد بالسماوات والأرض جوهرهُما وعينُهما لا ما تشتملان عليه من الموجودات لأن جوهرهما لا يدَّعِي المشركون فيه ملكاً لآلهتهم ، فالمثقال : إما آلة الثقل فهو اسم للصنوج التي يوزن بها فأطلق على العديل مجازاً مرسلاً ، وإما مصدر ميمي سمي به الشيء الذي به التثقيل ثم أطلق على العديل مجازاً ، وتقدم المثقال عند قوله : { وإن كان مثقال حبة من خردل } في سورة الأنبياء ( 47 ) .
ومثقال الذرة : ما يعدل الذرة فيثقل به الميزان ، أي لا يملكون شيئاً من السماوات ولا في الأرض . وإعادة حرف النفي تأكيد له للاهتمام به .
وقد نفى أن يكون لآلهتهم ملك مستقل ، وأتبع بنفي أن يكون لهم شرك في شيء من السماء والأرض ، أي شِرك مع الله كما هو السياق فلم يذكر متعلق الشرك إيجازاً لأنه محل الوفاق .
ثم نفى أن يكون منهم ظهير ، أي معين لله تعالى . وتقدم الظهير في قوله تعالى : { ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } في سورة الإِسراء ( 88 ) . وهنا تعين التصريح بالمتعلق ردّاً على المشركين إذ زعموا أن آلهتهم تُقرِّب إليه وتُبَعّد عنه ، ثم أتبع ذلك بنفي أن يكون شفيع عند الله يضطره إلى قبول الشفاعة فيمن يشفع له لتعظيم أو حياء . وقد صرح بالمتعلق هنا أيضاً رداً على قول المشركين { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] فنفيت شفاعتهم في عموم نفي كل شفاعة نافعة عند الله إلا شفاعة من أذن الله أن يشفع . وفي هذا إبطال شفاعة أصنامهم لأنهم زعموا لهم شفاعة لازمة من صفات آلهتهم لأن أوصاف الإِله يجب أن تكون ذاتية فلما نفى الله كل شفاعة لم يأذن فيها للشافع انتفت الشفاعة المزعومة لأصنامهم . وبهذا يندفع ما يتوهم من أن قوله : { إلا لمن أذن له } لا يبطل شفاعة الأصنام فافهَمْ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فهذا فعلُنا بولينا ومن أطاعنا، داود وسليمان الذي فعلنا بهما من إنعامنا عليهما النعم التي لا كفاءَ لها إذ شكرانا، وذاك فعلنا بسَبَإ الذين فعلنا بهم، إذ بَطِروا نعمتنا، وكذّبوا رسلنا، وكفروا أيادَينا، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم من قومك، الجاحدين نعمنا عندهم: ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم لله شريك من دونه، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا، بالذين وصفنا أمرهم من إنعام أو إياس، فإن لم يقدروا على ذلك فاعلموا أنكم مبطلون، لأن الشركة في الربوبية لا تصلح ولا تجوز، ثم وصف الذين يدعون من دون الله، فقال: إنهم لا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض من خير ولا شرّ ولا ضرّ ولا نفع، فكيف يكون إلها من كان كذلك.
وقوله:"وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ" يقول تعالى ذكره: ولا هم إذ لم يكونوا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض، منفردين بملكه من دون الله، يملكونه على وجه الشّرِكة، لأن الأملاك في المملوكات، لا تكون لمالكها إلا على أحد وجهين: إما مقسوما، وإما مُشَاعا يقول: وآلهتهم التي يدعون من دون الله، لا يملكون وزن ذَرّة في السموات ولا في الأرض، لا مُشاعا ولا مقسوما، فكيف يكون من كان هكذا شريكا لمن له ملك جميع ذلك. وقوله: "وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ "يقول: وما لله من الآلهة التي يدعون من دونه مُعِين على خلق شيء من ذلك، ولا على حفظه، إذ لم يكن لها ملك شيء منه مُشاعا ولا مقسوما، فيقال: هو لك شريك من أجل أنه أعان وإن لم يكن له ملك شيء منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله} أنهم آلهة، فليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم من الجوع وغيره كقوله: {هل هن كاشفات ضرّه أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته} [الزمر: 38]. فالجواب لذلك أن يقولوا: {لا يملكون مثقال ذرة} ولا أصغر ولا أكبر. فكيف تذرون ما ذُكر؟ يذكر والله أعلم، سفههُم وفرطهم في عبادتهم من يعلمون أنه لا يضر، ولا ينفع، وتسميتهم إياها آلهة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ثم أخبر عن آلهتهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة، وهو أحقر الأشياء، وإذا انتفى ملك الأحقر عنهم، فملك الأعظم أولى.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها بها عليهم الباب أبلع سد وأحكمه؟ فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو كان لا يرجو منه منفعة فلا يتعلق قلبه به أبدا، وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود إما مالكا للأسباب التي ينتفع بها عابده، أو شريكا لمالكها، أو ظهيرا أو وزيرا ومعاونا له، أو وجيها ذا حرمة وقدر، يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده. فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض. فقد يقول المشرك: هي شريكة للمالك الحق. فنفى شركها له. فيقول المشرك: قد تكون ظهيرا ووزيرا، ومعاونا. فقال: {وماله منهم من ظهير} فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ادعوا الذين زعمتم} أي أنهم آلهة كما تدعون الله لا سيما في وقت الشدائد ولما كان جوابهم في ذلك السكوت عجزاً وحيرة، تولى سبحانه الجواب عنهم، إشارة إلى أن جواب كل من له تأمل لا وقفة فيه بقوله، معبراً عنهم بعبارة من له علم بإقامتهم في ذلك المقام، أو لأن بعض من ادعيت إلهيته ممن له علم: {لا يملكون} أي الآن ولا يتجدد لهم شيء من ذلك أصلاً. ولما كان المراد المبالغة في الحقارة بما تعرف العرب قال: {مثقال ذرة}.
ولما أريد العموم عبر بقوله: {في السماوات} وأكد فقال: {ولا في الأرض} لأن السماء ما علا، والأرض ما سفل.
ولما كان هذا ظاهراً في نفي الملك الخالص عن شوب المشاركة، نفى المشاركة أيضاً بقوله مؤكداً تكذيباً لهم فيما يدعونه: {وما لهم فيهما} أي السماوات والأرض ولا فيما فيهما، وأعرق في النفي فقال: {من شرك} أي في خلق ولا مُلك ولا مِلك، {وما له} أي الله {منهم} وأكد النفي بإثبات الجار فقال: {من ظهير}، فكيف يصح مع هذا العجز الكلي أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى ويعبدوا كما يعبد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها جولة قصيرة حول قضية الشرك والتوحيد. ولكنها جولة تطوّف بالقلب البشري في مجال الوجود كله. ظاهره وخافيه. حاضره وغيبه. سمائه وأرضه. دنياه وآخرته. وتقف به مواقف مرهوبة ترجف فيها الأوصال؛ ويغشاها الذهول من الجلال. كما تقف به أمام رزقه وكسبه، وحسابه وجزائه. وفي زحمة التجمع والاختلاط، وفي موقف الفصل والعزل والتميز والانفراد.. كل أولئك في إيقاعات قوية، وفواصل متلاحقة، وضربات كأنها المطارق: (قل.. قل.. قل..) كل قولة منها تدمغ بالحجة، وتصدع بالبرهان في قوة وسلطان.
(قل: ادعوا الذين زعمتم من دون الله. لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وما لهم فيهما من شرك، وما له منهم من ظهير)..
إنه التحدي في مجال السماوات والأرض على الإطلاق:
(قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله)..
ادعوهم. فليأتوا. وليظهروا. وليقولوا أو لتقولوا أنتم ماذا يملكون من شيء في السماوات أو في الأرض جل أو هان؟
(لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض)..
ولا سبيل لأن يدعوا ملكية شيء في السماوات أو في الأرض. فالمالك لشيء يتصرف فيه وفق مشيئته. فماذا يملك أولئك المزعومون من دون الله؟ وفي أي شيء يتصرفون تصرف المالك في هذا الكون العريض؟
لا يملكون في السماوات والأرض مثقال ذرة ملكية خالصة، ولا على سبيل المشاركة:
والله -سبحانه- لا يستعين بهم في شيء. فما هو في حاجة إلى معين:
ويظهر أن الآية هنا تشير إلى نوع خاص من الشركاء المزعومين. وهم الملائكة الذين كانت العرب تدعوهم بنات الله؛ وتزعم لهم شفاعة عند الله. ولعلهم ممن قالوا عنهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كانت قصة سبا قد ضُربت مثلاً وعبرة للمشركين من قريش وكان في أحوالهم مثيل لأحوال المشركين في أمن بلادهم وتيسير أرزاقهم وتأمين سبلهم في أسفارهم مما أشار إليه قوله تعالى: {أو لم نمكن لهم حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء} [القصص: 57] وقوله: {لإيلاف قريش} [قريش: 1] إلى آخر السورة، ثم فيما قابلوا به نعمة الله بالإِشراك به وكفران نعمته وإفحامهم دعاة الخير الملهَمين من لدنه إلى دعوتهم، فلما تقضى خبرهم لينتقل منه إلى تطبيق العبرة على من قصد اعتبارهم انتقالاً مناسبته بينة وهو أيضاً عَوْد إلى إبطال أقوال المشركين، وسيق لهم من الكلام ما هو فيه توقيف على أخطائهم، وأيضاً فلما جرى من استهواء الشيطان أهل سبا فاتبعوه وكان الشيطان مصدر الضلال وعنصر الإِشراك أعقب ذكره بذكر فروعه وأوليائه.
وافتتح الكلام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما هو متتابع في بقية هذه الآيات المتتابعة بكلمة {قل} فأُمر بالقول تجديداً لِمعنى التبليغ الذي هو مهمة كل القرآن.
والأمر في قوله: {ادعوا} مستعمل في التخطئة والتوبيخ، أي استَمِروا على دعائكم.
و {الذين زعمتم من دون الله} معناه زعمتموهم أرباباً، فحذف مفعولا الزعم: أما الأول فحذف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل قصداً لتخفيف الصلة بمتعلقاتها، وأما الثاني فحذفه لدلالة صفته عليه وهي {من دون الله}.
و {من دون الله} صفة لمحذوف تقديره: زعمتم أولياء.
ومعنى {من دون الله} أنهم مبتدأُون من جانب غيرِ جانب الله، أي زعمتموهم آلهة مبتدئين إياهم من ناحية غير الله لأنهم حين يعبدونهم قد شغلوا بعبادتهم ففرطوا في عبادة الله المستحق للعبادة وتجاوزوا حق إلهيته في أحوال كثيرة وأوقات وفيرة.
وجملة {لا يملكون} مبينة لما في جملة {ادعوا الذين زعمتم} من التخطئة.
وقد نفي عنهم مِلك أحقر الأشياء وهو ما يساوي ذرّة من السماء والأرض.
والذّرة: بيضة النمل التي تبدو حبيبة صغيرة بيضاء، وتقدم عند قوله تعالى: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة} في سورة يونس (61). والمراد بالسماوات والأرض جوهرهُما وعينُهما لا ما تشتملان عليه من الموجودات لأن جوهرهما لا يدَّعِي المشركون فيه ملكاً لآلهتهم، فالمثقال: إما آلة الثقل فهو اسم للصنوج التي يوزن بها فأطلق على العديل مجازاً مرسلاً، وإما مصدر ميمي سمي به الشيء الذي به التثقيل ثم أطلق على العديل مجازاً، وتقدم المثقال عند قوله: {وإن كان مثقال حبة من خردل} في سورة الأنبياء (47).
ومثقال الذرة: ما يعدل الذرة فيثقل به الميزان، أي لا يملكون شيئاً من السماوات ولا في الأرض. وإعادة حرف النفي تأكيد له للاهتمام به.
وقد نفى أن يكون لآلهتهم ملك مستقل، وأتبع بنفي أن يكون لهم شرك في شيء من السماء والأرض، أي شِرك مع الله كما هو السياق فلم يذكر متعلق الشرك إيجازاً لأنه محل الوفاق.
ثم نفى أن يكون منهم ظهير، أي معين لله تعالى. وتقدم الظهير في قوله تعالى: {ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} في سورة الإِسراء (88). وهنا تعين التصريح بالمتعلق ردّاً على المشركين إذ زعموا أن آلهتهم تُقرِّب إليه وتُبَعّد عنه، ثم أتبع ذلك بنفي أن يكون شفيع عند الله يضطره إلى قبول الشفاعة فيمن يشفع له لتعظيم أو حياء. وقد صرح بالمتعلق هنا أيضاً رداً على قول المشركين {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] فنفيت شفاعتهم في عموم نفي كل شفاعة نافعة عند الله إلا شفاعة من أذن الله أن يشفع. وفي هذا إبطال شفاعة أصنامهم لأنهم زعموا لهم شفاعة لازمة من صفات آلهتهم لأن أوصاف الإِله يجب أن تكون ذاتية فلما نفى الله كل شفاعة لم يأذن فيها للشافع انتفت الشفاعة المزعومة لأصنامهم. وبهذا يندفع ما يتوهم من أن قوله: {إلا لمن أذن له} لا يبطل شفاعة الأصنام فافهَمْ.
ينتقل الحق سبحانه إلى قضية عامة، هي قضية هؤلاء القوم الذين يعبدون غير الله ويجادلهم، ليُظهِر لهم فساد مسلكهم وبطلان عبادتهم دون الله، وقد ردَّ هؤلاء فقالوا:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَىۤ..} [الزمر: 3].
ونقول أولاً: ما هي العبادة؟ العبادة أن يطيع العابدُ أمرَ معبوده ونهيه، فإذا كان الكفار يعبدون الشمس أو القمر أو الأصنام... إلخ بماذا أمرتهم هذه الآلهة؟ وعن أي شيء نهَتْهم؟ ماذا أعدَّتْ هذه الآلهة لمن عبدها من الثواب؟ وماذا أعدتْ لمن كفر بها من عقاب؟
إذن: أنتم كاذبون في كلمة نعبدهم، وإذا كنتم تعبدونهم ليقربوكم إلى الله زُلْفى، فلماذا لا تتوجهون بالعبادة إلى الله مباشرة؟ فكيف تعبدون آلهة بلا منهج ولا عمل لها فيمن عبدها، ولا عمل لها فيمن كفر بعبادتها؟
وهذه المخلوقات التي يعبدونها من دون الله مخلوقة لله مُسخَّرة له سبحانه مُسبِّحة، وهي بريئة من هذا الشرك ولا ترضاه، بل هي أعبد لله منهم؛ لذلك نطقتْ الأحجار على لسان هذا الشاعر. وقالت:
فالحق سبحانه يناقشهم في هذه المسألة: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ..} ادعوا هذه الآلهة المدَّعَاة، لكنهم لم يَدْعُوا، لعلمهم أن آلهتَهم المزعومة لن تجيب؛ لذلك أكمل الله لهم وأظهر لهم النتيجة: لو دعوتُم هذه الآلهة، فإنهم {لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ..}.
فعلام إذن تعبدونهم، وهم لا يملكون شيئاً، ولم يصنعوا لكم معروفاً، ولا قدَّموا لكم خدمة {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا..} أي: في السماوات والأرض {مِن شِرْكٍ..} يعني: مع الله، أي ليس لهم مع الله شركة في مسألة الخَلْق {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} يعني: لم يعاونوا الله حين خلق السماوات والأرض، والظهير هو المعين القوي...
وحين تصطدم الفطرة السَّوية والتديُّن الطبيعي بشهوات النفس يبحث الإنسان عن تديُّن يُرضي شهواته ويُشبع غرائزه، فهو يريد أنْ يكون متديناً، وفي الوقت ذاته يريد ألاَّ تُقيَّد شهواته، فماذا يفعل؟ يلجأ إلى عبادة آلهة بلا منهج وبلا تكاليف، ومن هنا عبد الناسُ غير الله، ودَعْك ممن عبدوا الأَشجار والأحجار، وتأمل الذين عبدوا الملائكة مثلاً، هل أمرتهم بشيء أو نهتهم عن شيء؟
لذلك الحق سبحانه يقول: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ..} ولو بحثنا مسألة الشركاء بالعقل لظهر بطلانها وكذبها، فإذا كان لله تعالى شركاء، ومعه سبحانه آلهة أخرى، فأين هم؟ أدرَوْا بأن الله تعالى استبدَّ بالألوهية، وشهد بها لنفسه، وأعلنها صراحة من دونهم؟ إنْ كانوا على دراية بذلك، فلما تركوه سبحانه يستبد بالألوهية؟ وإنْ كانوا لم يدروا بذلك فهم آلهة نيام؟ وفي كلتا الحالتين لا يستحقون هذه الألوهية.
لذلك الحق سبحانه يمسُّ هذه القضية مسَّاً جميلاً، فيقول:
{قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء: 42] يعني: لو كان صحيحاً وجود آلهة مع الله لَذَهبوا إليه ليناقشوه، لماذا استبدَّ بالألوهية من دونهم، أو لذَهبوا إليه ليتقوه، وليتقربوا إليه.
وأرقى ما يعبد المشركون يعبدون الملائكة، وكأن عبادتهم أصبحتْ قريبة من عبادة الله، والله يقول عن الملائكة:
{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27].
{أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ..} [الإسراء: 57].
فهؤلاء الملائكة الذين تعبدونهم من دون الله هم أنفسهم يتقربون إلى الله ويتوسَّلون إليه، الأقرب منهم يتوسَّل إلى الله، ويحب أن يكون أكثر قُرْباً، فإذا كان الأقرب هو الذي يبتغي الوسيلة والقرب، فما بالك بالقريب؟ وما بالك بالبعيد والأبعد؟
إذن: أنتم أغبياء بعبادتكم الملائكة، وهل تظنون أن خَلْقاً من خَلْق الله كالملائكة يرضى أنْ تعبدوه من دون الله، أو يقبل أنْ يشفع لك عند الله، هذا سَفَه في التفكير.
فالحق سبحانه وضع شروطاً للشفاعة، فقال:
{يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109].