قوله تعالى : { قال تزرعون سبع سنين دأباً } ، هذا خبر بمعنى الأمر ، يعني : ازرعوا سبع سنين على عادتكم في الزراعة . والدأب : العادة . وقيل : بجد واجتهاد وقرأ عاصم برواية حفص : دأباً بفتح الهمزة ، وهما لغتان ، يقال : دأبت في الأمر أدأب دأبا ودأبا إذا اجتهدت فيه . { فما حصدتم فذروه في سنبله } ، أمرهم بترك الحنطة في السنبلة لتكون أبقى على الزمان ولا تفسد ، { إلا قليلا مما تأكلون } ، أي : مما تدرسون قليلا للأكل ، أمرهم بحفظ الأكثر والأكل بقدر الحاجة .
{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً . . . }
وتزرعون ها هنا : خبر في معنى الأمر ، بدليل قوله بعد ذلك " فذروه " .
وعبر عن الأمر بالمضارع مبالغة في التعبير عن استجابتهم لنصيحته ، فكأنهم قد امتثلوا أمره ، وهو يخبر عن هذا الامتثال .
و { دأبا } مصدر دأب على الشئ إذا استمر عليه ولازمه يقال : دأب فلان على فعل هذا الشئ يدأب دأْبا ودأَبا إذا داوم عليه ، وهو حال من ضمير " تزرعون " أى قال يوسف للساقى : فارجع إلى قومك فقل لهم إن يوسف يأمركم أن تزرعوا أرضكم سبع سنين زراعة مستمرة على حسب عادتكم .
{ فَمَا حَصَدتُّمْ } من زرعكم في كل سنة ، فذروه في سنبله ، أى : فاتركوا الحب في سنبله ولا تخرجوه منها حتى لا يتعرض للتلف بسبب السوس أو ما يشبهه : إلا قليلا مما تأكلون ، أى : اتركوا الحب في سنبله فلا تخرجوه منها ، إلا شيئا قليلا منه فأخرجوه من السنابل لحاجتكم إليه في مأكلكم .
وفى هذه الجملة إرشاد لهم إلى أن من الواجب عليهم أن يقتصدوا في مأكولاتهم إلى أقصى حد ممكن لأن المصلحة تقتضى ذلك .
قال القرطبى : هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال ، فكل ما تضمن تحصيل شيئ من هذه الأمور فهو مصلحة ، وكلما يفوت شيئا منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة ولا خلاف ، فإن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ليحصل لهم التمكن من معرفة الله - تعالى - وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية ، ومراعاة ذلك فضل من الله - عز وجل - ورحمة رحم بها عباده . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً مّمّا تَأْكُلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قال يوسف لسائله عن رؤيا الملك : تَزْرَعُونَ سَبُعَ سِنِينَ دَأَبا يقول : تزرعون هذه السبع السنين ، كما كنتم تزرعون سائر السنين قبلها على عادتكم فيما مضى . والدّأب : العادة ومن ذلك قول امرىء القيس :
كدَأبِكَ مِنْ أُمّ الحُوَيْرِثَ قبلَها *** وجارَتِها أُمّ الرّبابِ بِمَأْسَلِ
وقوله : فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إلاّ قَليلاً مِمّا تَأْكُلُونَ وهذا مشورة أشار بها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على القوم ، ورأى رآه لهم صلاحا يأمرهم باستبقاء طعامهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال لهم نبيّ الله يوسف تَزْرَعُونَ سَبُعَ سِنِينَ دَأَبا . . . الآية ، فإنما أراد نبي الله صلى الله عليه وسلم البقاء .
وقوله تعالى : { قال تزرعون } الآية ، تضمن هذا الكلام من يوسف عليه السلام ثلاثة أنواع من القول :
أحدها : تعبير بالمعنى لا باللفظ .
والثاني : عرض رأي وأمر به ، وهو قوله : { فذروه في سنبله } .
والثالث : الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن ، قاله قتادة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل هذا ألا يكون غيباً ، بل علم العبارة ، أعطى انقطاع الجدب بعد سبع ، ومعلوم أنه لا يقطعه إلا خصب شاف ، كما أعطى أن النهر مثال للزمان . إذ هو أشبه شيء به فجاءت البقرات مثالاً للسنين .
و { دأبا } معناه : ملازمة لعادتكم في الزراعة ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كدأبك من أم الحويرث قبلها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . البيت{[6709]}
وقرأ جمهور السبعة «دأْباً » بإسكان الهمزة ، وقرأ عاصم وحده «دأَباً » بفتح الهمزة ، وأبو عمرو يسهل الهمزة عند درج القراءة ، وهما مثل : نهر ونهر . والناصب لقوله : { دأباً } { تزرعون } ، عند أبي العباس المبرد ، إذ في قوله { تزرعون } تدأبون ، وهي عنده مثل قولهم : قعد القرفصاء ، واشتمل الصماء{[6710]} ؛ وسيبويه يرى نصب هذا كله بفعل مضمر من لفظ المصدر يدل عليه هذا الظاهر ، كأنه قال : تزرعون تدأبون دأباً .
وقوله { فما حصدتم فذروه } هي إشارة برأي نبيل نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل ، فإن الحبة إذا بقيت في خبائها انحفظت والمعنى : اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل ، فيجتمع الطعام هكذا ويتركب ، ويؤكل الأقدم فالأقدم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.