اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ} (47)

قوله : " تَزْرعُونَ " ظاهر هذا ، إخبار من يوسف عليه الصلاة والسلام بذلك .

وقال الزمخشريُّ : تَزْرعُونَ خبرٌ في معنى الأمر ؛ كقوله { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ } [ الصف : 11 ] ، وإنما خرج الأمر في صورة الخبر ؛ للمبالغة في إيجاب المأمور به فيجعل كأنَّه وجد ، فهو مخبر عنه ؛ والدليلُ على كونه في معنى الأمر قوله : { فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } .

قال أبو حيان : ولا يدلُّ الأمر بتركه في سنبلة على أنَّ تَزْرعُونَ في معنى : ازْرَعُوا ، بل تَزْرعُونَ إخبار غيب ، وأمَّا فَذرُوهُ فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أن يفعلوه .

وهذا هو الظاهرُ ، ولا مدخل لأمر الله لهم بالزراعةِ ، لأنهم يزرعون على عادتهم أمرهم ، أو لم يأمرهم ، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن من عادة الإنسان أن يفعله كقوله في سُنبلهِهِ .

قوله دَأباً قرأ حفصٌ : بفتحِ الهمزة ، والباقون : بسكونها ؛ وهما لغتان في مصدر : دَأبَ يدأبُ دأباً ، أي : دَاومَ على الشيء ولازمه .

وقيل : بجدٍّ ، واجتهادٍ ؛ وهذا كما قالوا : ضأنُ وضَأن ، ومعَز ومَعْز : بفتحِ العين وسكونها .

قال أبو علي الفارسي : الأكثرون في " دَأبَ " الإسكانُ ، ولعلَّ الفتح لغةٌ وفي انتصابه أوجه .

أحدها : وهو قول سيبويه : أنه منصوبٌ بعفلٍ محذوفٍ ، تقديره : تدْأبُون دأباً .

والثاني : وهو قول أبي العبَّاس رضي الله عنه : أنه منصوبٌ ب : تَزْرعُونَ " ؛ لأنه من معناه ، فهو من باب : قعدت القُرْفُصَاء .

وفيه نظرٌ ؛ لأنه ليس نوعاً خاصًا به بخلافِ القرفصاء مع القعودِ .

والثالث : أنه مصدر واقعٌ موقع الحال ، فيكون فيه الأوجه المعروفةُ ، إما للمبالغة وإما وقوعه موقع الصِّفة ، وإما على حذف مضاف ، أي : دائبين أو ذوي دأبٍ ، أو جعلهم نفس الدَّأب ؛ مبالغة .

وقد تقدم الكلامُ على الدَّأب في " آل عمران " عند قوله ت عز وجل { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } [ آل عمران : 11 ] .

قوله : { فَمَا حَصَدتُّمْ } ، يجوز أن تكون شرطيَّة أو موصولة .

قوله : { فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } أمرهم بترك الحنطةِ في النسبل ؛ لتكون أبقى على الزمان ، ولا تفسد .

قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } ، أي تدرسون قليلاً ؛ للأكل ، أمرهم بحفظ الأكثر ، والأكل قدر الحاجة .

وقرأ أبو عبدالرحمن يَأكُلونَ بالغيبة ، أي : الناسُ ، ويجوز أن يكون التفاتاً .

فصل

قال القرطبيُّ : " هذه الآية أصلٌ في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ للأديان ، والنفوس ، والعقول والأنساب ، والأموال ، فكل ما يضمن تحصيل شيء من هذه الأمور ، فهو مصلحةٌ وكل ما يفوت شيئاً منها ، فهو مفسدةٌ ؛ ودفعه مصلحةٌ ، ولا خلاف أنَّ مقصود الشرائع إرشادُ النَّاس إلى مصالحهم الدُّنيويَّة ، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى ، وعبادته [ الموصلتين ] إلى السعادةِ الأخرويَّة ، ومراعاةُ ذلك فضلٌ من الله ورحمة " .