المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبٗا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ} (47)

وقوله تعالى : { قال تزرعون } الآية ، تضمن هذا الكلام من يوسف عليه السلام ثلاثة أنواع من القول :

أحدها : تعبير بالمعنى لا باللفظ .

والثاني : عرض رأي وأمر به ، وهو قوله : { فذروه في سنبله } .

والثالث : الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن ، قاله قتادة .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل هذا ألا يكون غيباً ، بل علم العبارة ، أعطى انقطاع الجدب بعد سبع ، ومعلوم أنه لا يقطعه إلا خصب شاف ، كما أعطى أن النهر مثال للزمان . إذ هو أشبه شيء به فجاءت البقرات مثالاً للسنين .

و { دأبا } معناه : ملازمة لعادتكم في الزراعة ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

كدأبك من أم الحويرث قبلها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . البيت{[6709]}

وقرأ جمهور السبعة «دأْباً » بإسكان الهمزة ، وقرأ عاصم وحده «دأَباً » بفتح الهمزة ، وأبو عمرو يسهل الهمزة عند درج القراءة ، وهما مثل : نهر ونهر . والناصب لقوله : { دأباً } { تزرعون } ، عند أبي العباس المبرد ، إذ في قوله { تزرعون } تدأبون ، وهي عنده مثل قولهم : قعد القرفصاء ، واشتمل الصماء{[6710]} ؛ وسيبويه يرى نصب هذا كله بفعل مضمر من لفظ المصدر يدل عليه هذا الظاهر ، كأنه قال : تزرعون تدأبون دأباً .

وقوله { فما حصدتم فذروه } هي إشارة برأي نبيل نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل ، فإن الحبة إذا بقيت في خبائها انحفظت والمعنى : اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل ، فيجتمع الطعام هكذا ويتركب ، ويؤكل الأقدم فالأقدم .


[6709]:من معلقته المشهورة، والبيت بتمامه: هذا صدر بيت لامرئ القيس كدأبك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأسل ويروى: "كدينك"، أي: مثل عادتك وشأنك، وأم الحويرث هي أخت الحارث بن حصين ابن ضمضم من بني كلب، وقد تزوجت من حجر أبي امرئ القيس، ومأسل بفتح السين: جبل بعينه، وبكسر السين: ماء بعينه، والرواية هنا بالفتح.
[6710]:جاء في "الصحاح ـ شمل": "واشتمال الصماء: أن يجلل جسده كله بالكساء أو بالإزار".